أيقظ النشاط الزلزالي المخاوف من سقوط المباني في لبنان. ومن دون مسح شامل، لا يمكن تقييم مستوى هذه المخاطر. إنما التركّز الرأسمالي المتطرّف في النظام الاقتصادي اللبناني مع تفضيل المصارف والعقارات على غيرها من القطاعات، يشي بالكثير. ففي لبنان، كما هو معروف ومتداول على نطاق واسع، تُنفذ الكثير من عمليات البناء بناءً على أوامر المقاول ضمن هدف تحقيق الحدّ الأقصى من الربح. وهذا مسار يتضمن إضعاف دور المهندس، أو حتى إلغاء دوره كما يحصل في القرى والبلدات التي يُنفذ فيها البناء بإشراف صوري من المهندسين. ورغم أن الكثير من المهندسين تحوّلوا إلى مقاولين في لبنان، إلا أن شخصية المقاول الساعي للربح تطغى على أعمالهم وسط شبه غياب للإشراف. وطغيان هذه الشخصية لا يتعلق بالمهندس أو المقاول فقط، بل هو أمر متصل مباشرة بالجهات التي تسنّ القوانين وتفرض تطبيقها.ففي لبنان حيث تقع بعض المناطق على فوالق زلزالية معروفة، لا بدّ من أن تكون السلامة العامة هي الأساس في النشاط العقاري. لذا، يقول المعماري رهيف فياض، إنه من الضروري "وجود مؤسّسات للتدقيق الفني الهندسي". مبرّر ذلك، بحسب فياض، أن هناك منطق استشعار، فمثلاً لدينا فالق اليمونة بفروعه، مثل فالق روم. فعندما يحصل الزلزال على هذا الفالق يكون أثره كبيراً على المنطقة المحيطة فيه، مثل صيدا وجزين ومحيطهما كما حصل في زلزال 1956 الذي حصل على ذلك الفالق. لذا، كل مبنى عام يجب أن تمرّ رخصة بنائه على مكتب تدقيق فني. ويشير إلى أن هناك مواصفات وحسابات محدّدة لضرورة وجود ملجأ تحته. في الماضي كان الملجأ إلزامياً في بيروت تأتي خرائطه حصراً من مديرية الدفاع المدني التي تحدّد مساحته وسماكة الحديد والخرسانة المستخدمة في بنائه.
على أرض الواقع، صدر في لبنان مرسوم السلامة العامة الذي يشترط لإنشاء كل مبنى يرتفع فوق عشرين متراً، أي الطابق الأرضي وأربعة طوابق فوقه كما كان حال البناء في بيروت سابقاً، الاستحصال على موافقة من مكتب التدقيق الفني. وصدر أخيراً، قانون يسمح بإنشاء مكاتب تدقيق فني محلية. إنما المشكلة، بحسب فياض، أن هذه المكاتب لا تملك معايير فنية خاصة لأنه ليس لدى لبنان معاييره الخاصة، بل يعتمد المعايير الغربية الأوروبية الخاضعة لظروف مختلفة في كل المجالات الطبيعية، كالتربة والهواء والرياح. فعلى سبيل المثال، في ما يتعلق بالحريق، نحن لا نبني بيوتاً بجدران قابلة للاحتراق، كما هو الحال في أوروبا. وأهمية أن تكون هذه المعايير خاصة بالبلد، أمر متعلق بأنها معايير لا تتصل حصراً بمواد البناء المستعملة، بل مرتبطة أيضاً بالتربة والمناخ وسواهما. ولبنان يتبع المعايير الفرنسية الإنشائية لجهة الباطون والسلامة، ويتبع المعايير البريطانية بخصوص الكهرباء، والمعايير الألمانية للجانب الميكانيكي. إنما في صلب عملية التدقيق الفني، يفترض مراقبة ثلاث مسائل أساسية: الصلابة، الثبات وسلامة الأشخاص الذين يعيشون داخله. عملياً، في المسائل الأساسية الثلاث، ليست لدينا هذه المكاتب أو المؤسّسات، بل كانت لدينا فروع لمكاتب فرنسية.
إذاً، ما معنى الصلابة والثبات؟ وفق فياض، فإن هذا مصطلح الصلابة يشير إلى أن الباطون لا يجب أن يتفتت كما حصل في زلزال تركيا وسوريا حيث أدى إلى نتائج كبيرة كالتي حصلت. أما الثبات فلا تختص دراسته فقط بالزلزال، إنما يؤخذ في الحسبان تنوّع التربة تحت أعمدة المبنى. "ونحن في لبنان لدينا، كمهندسين استشاريين هاجس الزلزال، لذا يُصمّم البناء ليتحمّل زلزالاً قوّته ست درجات على مقياس ريختر. وبعد هذا المستوى من القوّة تصبح الأمور أكثر تعقيداً وتحتاج إلى دراسة مختلفة، لها قواعد هندسية تتعلق بشكل المبنى؛ كأن يكون مثلثاً أو دائرياً، ولجهة وجود شرفات وكيفية وضع الحديد فيها...". هذا الأمر دفع فياض إلى استعادة بعض تجاربه خارج لبنان في مناطق زلزالية، إذ ركّز على "إلزامية استخدام مفاصل من السليكون بسماكة 2 سم في كل مبنى يتعدّى علوّه أربعين متراً، بحيث يمتصّ المفصل قوّة التحرك، وهذه أحد الشروط الرئيسة التي يلتزم بها الاستشاري المحترف".
هنا تظهر علاقة الاستشاري بمبدأ الثبات الذي يتطلب منه امتلاك معرفة وثقافة ووعي لطبيعة المكان والتربة وعناصر الثبات، ولا سيما دراسة المبنى لجهة الثبات بوجه الزلازل. "وفي طبيعة الحال الاستشاري ليس وحده المعنيّ بل يجب أن يقوم المهندس المدني بحساب الأوزان ونوع الحديد لجهة سماكته والمسافة بين قضبان الحديد وكيفية ربطها" وفق فياض.
في المجمل، إن القواعد الأساسية تفرض أن يكون لكل مبنى أربعة مهندسين: معماري، مدني، كهرباء وميكانيك. "لكن في بيروت، هذا غير موجود، لأن الأتعاب تُراوح بين 10% و5% من كلفة البناء" يقول فياض. في هذا المجال، إن مهمّة المهندس المشرف على البناء "أن يتأكد أن المقاول لا يخالف الخرائط والمواصفات. وهذا من الثقافة الضرورية لحماية الأفراد الذين سيستخدمون المبنى. فإذا كان الباطون المستخدَم في المبنى حقيقياً، أي بمعنى رمل حقيقي، وبحصة حقيقية وإسمنت حقيقي، لا يقع المبنى إلا إذا حصل أمر ليس في الحسبان".
وعن أهمية عنصر الثبات في البناء قال فياض: "إنه مرتبط بوعي وحسن تصرف المشرف. هنا أقول ليس كل مقاول مقاولاً حقيقياً. فحتى يكون المقاول مصنّفاً، يجب أن تكون لديه شهادة، وأن يكون قد أبرز خبرة في ميدان المقاولة، لذلك يتم تصنيف المقاولين في نقابة المهندسين، وبرغم ذلك يجب اعتماد المراقبة القاسية. ومن شروط المقاولة الحصول على المعرفة. فلننظر إلى معايير البناء في أحياء بيروت حيث الغشّ وجشع المقاولين أمرٌ أخلاقي وليس هندسياً أو فنياً. فعلى سبيل المثال، إذا لجأ المقاول إلى الغشّ ليلاً من دون معرفة الاستشاري، فإنه يكون قد خرج عن أخلاق المهنة وعن المعقول. وأضاف، في لبنان يوجد كل شيء. يوجد ما هو جيد، وما "هبّ ودبّ"، وهذا يشبه كل مكان في العالم.
لبنان ليست لديه معايير خاصة به للتدقيق الفني الهندسي


أما عن مدى تأثير الجشع والسعي لزيادة الربحية، فأشار فياض إلى أن "هذا الأمر غير موجود عند الاستشاري، لأن الأمور بالنسبة إليه مدروسة ومحدّدة الأكلاف، وكذلك نسبة العوائد المرتقبة من المشروع. فالسعر لا يكون اعتباطياً، بل هناك دراسة موضوعة بالتفصيل وعلى أساسها يُجرى استدراج العروض، حيث يشتري أي راغب بدخول الاستدراج هذه الدراسة من الاستشاري الذي يختار العرض المناسب الذي ليس بالضرورة أن يكون الأرخص، حيث إن الاستشاري يجب أن يكون من أهل الخبرة بما يكفي ليعرف الأكلاف من دون أن يتمكن المقاول من أن يتلاعب بالمواصفات".
في النهاية يكون الأمر بمثابة حلقة متماسكة مكوّنة من ثلاثة عناصر: استشاري مصمّم ومكوّن من أربعة مهندسين بقيادة المعماريّ، مالك المشروع والمقاول.



ترميم أسواق حلب: تنازل فنّي معماري
يعتقد فياض أن غالبية المباني التي انهارت في تركيا وسوريا سقطت بسبب قوّة زلزال بلغت 7.4 درجات حيث لا تكفي المعالجات العادية. "أنا أعرف حلب جيداً، ونصف مباني حلب العتيقة لا بدّ أن تقع في مواجهة أي زلزال، لأنها من حجر وتعتمد على الأقواس في البناء، والقوس سيقع عندما يسقط منه حجر واحد أو حجران... هذه المباني هي عنصر جمالي وتراثي وتاريخي، وعلينا أن نحافظ عليها كما هي، ولا ندخل فيها عناصر جديدة". أنا أقترح أن يكون هناك تنازل فني-معماري في المباني التي تهدّمت في الأسواق، كأن نعيد البناء بالباطون المسلّح ونلصق الحجارة فوقه، وإن كان هذا العمل غير صادق. هنا توجد نظريتان، واحدة في فرنسا وأخرى في إنكلترا، واحدة منهما تقول يمكن أن ندخل موادَّ جديدة على البناء عند الترميم، والأخرى تقول إن ذلك لا يمكن أبداً، فلا يمكن أن نرمّم مبنى قديماً، إلا بالمواد القديمة نفسها. أما نحن في منطقتنا فليس عندنا قوانين أو مبادئ محددة لذلك. الأسواق القديمة في حلب مبنية كلها على الطراز الفني الجمالي القديم، ولا يمكن إلا أن نحافظ عليها. ولنأخذ مثلاً آخر عن كنيسة المهد في فلسطين، والتي بنيت في سنة 328 ميلادية وهي تُعتبر أقدم كنيسة في التاريخ، وقد بنتها القدّيسة هيلانة أمّ الإمبراطور قسطنطين، إذ هُدمت وأُعيد بناؤها من قبل أحد الأباطرة البيزنطيين، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا.