بالنسبة إلى الذين درسوا تاريخ أفريقيا المُستعمَرة من خلال أبعادها المالية والنقدية، فإن أوجه التشابه بين الاقتصاد الكلّي الاستعماري والاقتصاد الكلّي النيوليبرالي مدهشة. قد يميل المرء إلى رؤية العصر النيوليبرالي باعتباره تجسيداً للاستعمار. في الواقع، المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النموذج المالي والنقدي للعصر النيوليبرالي (1980 - 2021)، أي «الموازنة العامّة السليمة»، وأنظمة الضرائب التراجعية، واستقلال المصارف المركزية، وتوجيه أنظمة الإقراض من قبل المصارف الاحتكارية، تم تطبيقها بالفعل في المستعمرات الأوروبية، ولا سيما في أفريقيا.في الحقبة النيوليبرالية، تعتمد الموازنة العامة السليمة، كمبدأ لإدارة الاقتصاد الكلي، على فكرة أن الحكومات يجب أن تتجنّب العجز المالي، بل ويجب أن تطمح إلى تحقيق فوائض مالية. وكما تظهر النظرية النقدية الحديثة، فإن وجهة النظر هذه تستند إلى تشبيه مضلّل بين الأسرة والحكومة. في الواقع، في حين أنه قد يكون مطلوباً من الأسر أن تجمع المدّخرات، فإن الحكومة التي تصدر عملتها الخاصة قد لا تكون دائماً مهتمة بإدارة ميزانية عامة متوازنة أو حتى فوائض في الميزانية. لأن ما يقابل عجزها المالي هو الفائض المالي للقطاع غير الحكومي. إذا كان القطاع الحكومي يرغب في الحصول على ميزانية متوازنة، فهذا يعني أن القطاع الخاص المحلّي (الأسر والشركات) لن يكون قادراً على تحقيق فوائض مالية، إلا إذا كانت بقية اقتصادات العالم في وضع عجز بالمقارنة مع مستوى الاقتصاد المحلّي.
خلال الحقبة الاستعمارية، كان لـ«الموازنة العامّة السليمة» مبرّرات أساسية وشفافة أكثر مما هي عليه اليوم. كمذهب إمبراطوري في الجوهر، كان بمثابة القول بأن دولة المركز الإمبراطوري لم تكن تنوي المساهمة مالياً في «الشركة الاستعمارية» التي كان يفترض أن تكون مموّلة ذاتياً. إن «سياسة الاكتفاء الذاتي الاستعماري»، كما يسميها المؤرّخون، تعني ضمنياً أن الأراضي المستعمَرة يجب أن تدفع تكاليف الغزو العسكري، والنفقات الحالية للإدارات الاستعمارية بالإضافة إلى نفقاتها الاستثمارية، والتي غالباً ما كانت موجّهة نحو مشاريع البنية التحتية التي فضّلت ربحية رأس المال الخاص في الدولة المركز. كانت الدولة المركزية تتدخل بشكل متقطع، من خلال منح الإعانات أو القروض، عندما يتطلب الوضع المالي للمستعمرات ذلك.
رغم خطاب الدولة المركزية حول الطابع المكلف، أو غير المربح، للمشروع الاستعماري، فإن الحقيقة هي أن المستعمرات تم تمويلها بشكل أساسي من خلال الضرائب والعمل الإجباري. كانت التحويلات العامة من الدولة المركز طفيفة نسبياً، لكل من فرنسا وإنكلترا، القوتين المركزيتين سابقاً، والأكثر أهمية في القارة الأفريقية.
ولأن الحكومات المركزية أدارت العمليات النقدية لمستعمراتها، فقد فرضت من خلال الإدارات الاستعمارية، وحدة حساب يتم من خلالها تحصيل الضرائب. وهذا يعني، تبعاً لنظرية النقد الحديثة، أنه ليس لديهم قيود مالية. في المبدأ، لم يعتمدوا على الضرائب لتمويل نفقاتهم المحلية. ومع ذلك، لم يتم استخدام إمكانية توسيع الحيز المالي للمستعمرات، بسبب التوجه الاستخراجي للقيمة الذي اتخذته السياسة الاقتصادية الاستعمارية.
خيار إدارة ميزانيات متوازنة يعني أن الحكومة الاستعمارية لم تخلق عادة ثروة مالية صافية للقطاع الخاص في البلدان المستعمَرة. إن تراكم الثروة المالية من قبل القطاع الخاص، وبالتالي نموّ الدخل المحلي وعائدات الضرائب، كلّ ذلك اعتمد على الميزان المالي الخارجي.
وقد تم تأكيد هذا التوجه الاستخراجي للقيمة من خلال الترتيبات النقدية الاستعمارية وسلوك القطاع المصرفي الذي سيطرت عليه منذ البداية المصارف الاحتكارية. وبالتوازي مع التقشف المالي، فإن التكافؤ الثابت في القيمة بين العملات الاستعمارية والعملات المركز في سياق التنقل الحرّ لرأس المال بين المستعمرات والعاصمة، والالتزام بتغطية المعروض النقدي بالكامل باحتياطيات النقد الأجنبي (كما كان الحال مع مجالس العملات في بريطانيا الإمبراطورية) أعطت طابعاً شديد التقييد للسياسة النقدية. كانت الفكرة بأن المصارف الخاصة يجب أن تدير نظام الإقراض ببعض الحرية، أي الحرية في عدم تمويل الأنشطة الإنتاجية مقابل الأنشطة الاستخراجية للقيمة، بينما يجب على الحكومات الاستعمارية الحفاظ على ميزانيات متوازنة، كانت جزءاً من العقيدة الإمبراطورية.
في المستعمرات البريطانية الرئيسية في غرب أفريقيا، حكم مصرف غرب أفريقيا البريطاني «BBWA» ومصرف «باركليز DCO» من دون منازع تقريباً خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين. بشكل عام، كان دور مصارف دول المركز الإمبراطوري هو حماية مصالح الأعمال التجارية لدول المركز على حساب أصحاب المشاريع المحليين من خلال التمييز في إمكانية الحصول على القروض. كما تمثّلت في تسهيل التمويل القصير الأجل لصادرات المنتجات الأولية وكذلك نقل الفوائض الاقتصادية المحلية (المدّخرات المالية) إلى دول المركز.
كأسواق أسيرة ومصادر رخيصة لتوريد المواد الخام، لعبت أيضاً المستعمرات دور الصمام المالي لدول المركز الإمبراطوري. في حالة بريطانيا، ساهم التراكم المفرط للاحتياطيات من العملات الأجنبية من قبل معظم مستعمراتها الغنية بالموارد، بشكل كبير في استقرارها المالي والتخفيف من أزمات السيولة المتكررة في سوق المال في لندن.
خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، فقدت بريطانيا تفوقها الصناعي والتجاري على ألمانيا والولايات المتحدة. في هذا السياق، تمكّنت بريطانيا من الحفاظ على معيار الذهب الدولي والريادة الماليّة فقط بفضل سيطرتها على الفوائض الخارجية للهند. في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لعبت نيجيريا وغانا دوراً مشابهاً لدور الهند في منطقة الجنيه الإسترليني. صادرات رأس المال من بريطانيا إلى هذين الإقليمين أقل من أرصدة الجنيه الإسترليني التي تراكمت في لندن. وقد تراكمت هذه الفوائض الخارجية من خلال انخفاض حاد في وارداتها، وهو واقع يصفه مفهوم «الصادرات غير المدفوعة».
الاقتصاد النيوليبرالي هو تكرار لمنطق الاقتصاد الاستعماري في سياق تتضاءل فيه عرقلة التجارة والتدفقات المالية بالحواجز التي أنشأها تعايش الإمبراطوريات الاستعمارية الرسمية


في أيامنا هذه، في ظل النيوليبرالية، بالنسبة إلى العديد من بلدان الجنوب، هناك العديد من العناصر التي تشكّل امتداداً للفترة الاستعمارية. هذه العناصر تتمثّل بالأولوية للميزانيات والصادرات المتوازنة، والتراكم المفرط لاحتياطات العملات الأجنبية في سياق يتم فيه استخدام الموارد المحلية للدول بقدر غير كافٍ، بالإضافة إلى الدور المهيمن للمصارف الأجنبية والمؤسسات المالية، والنقص في تمويل الاقتصاد «الحقيقي»، وما إلى ذلك.
يمكن القول إن الاقتصاد النيوليبرالي هو تكرار لمنطق الاقتصاد الاستعماري في سياق تتضاءل فيه عرقلة التجارة والتدفقات المالية بالحواجز التي كان قد أنشأها تعايش الإمبراطوريات الاستعمارية الرسمية. مع النيوليبرالية، تم استبدال الأخيرة بشبكات ووكالات رأس المال المعولم. في دول الشمال، يتطلب السعي وراء المنطق الاقتصادي الاستعماري تقويض الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السابقة للطبقات العاملة، وبالتالي اتّساع أوجه عدم المساواة داخل البلد الواحد. في معظم بلدان الجنوب، إلى جانب إضعاف قوة الطبقات العاملة، تتمثّل النيوليبرالية في قمع حقّ الأمم والشعوب في تقرير المصير من خلال فرض سياسات الانكماش، و«التجارة الحرة» القسرية، والخصخصة والتحرير المالي.
للتخلص من توجه كهذا، تُعدّ النظرية النقدية الحديثة ذات قيمة في جانبين على الأقل. فمن ناحية، توفّر عناصر لنقد المبادئ التأسيسية للاقتصاد الكلي الاستعماري (الفصل الصارم بين السلطة المالية والسلطة النقدية، والتمويل السليم، وأولوية الصادرات، والتراكم المفرط للاحتياطيات الخارجية، والاعتماد على التمويل الخارجي، إلخ). ومن ناحية أخرى، تتيح هذه النظرية، إعادة توجيه السياسة الاقتصادية نحو حشد الموارد المحلية من خلال تأكيد أنه حتى في بيئة خارجية غير مؤاتية، يمكن لبلدان الجنوب أن تخلق حيّزاً مالياً أكبر من المعتاد.
سوف يتطلب تحقيق الرخاء المشترك والمستدام تحدّياً معرفياً قوياً للاقتصاد الاستعماري للنيوليبرالية. كما سيتطلب جهوداً متضافرة على عدة جبهات أخرى: معالجة الهياكل العالمية للهيمنة التي تعيد إنتاج المنطق الاقتصادي للاستعمار، إخضاع توجيه السياسات العامة وكذلك إدارة الموارد والأدوات الاقتصادية للسيطرة الشعبية.

* نُشر هذا المقال باللغة الإنكليزية على موقع moneyontheleft.org في 14 حزيران 2021