ما الذي يمكن فعله بالباصات الفرنسية التي وُهبت للبنان؟ رغم محدودية عددها الذي يبلغ 50 باصاً، فإنه كان يفترض أن يتم تسييرها على خطّ أو خطين كحد أقصى، لمرحلة معينة بعد دراسة حاجات النقل على الخطوط المقترحة بالاستناد إلى استبيانات بشأن عادات التنقل، عدد الركاب المحتملين، عدادات المرور... ويجب الأخذ في الاعتبار أنه يجب تحديد مواصفات الباصات لتتناسب مع الشوارع، وإلا فإن العكس هو أمر اضطراري. وبالتوازي مع تسيير الباصات، كان يجب العمل على عدّة نقاط أساسية: - المواقف. ليس بالضرورة أن تكون متطورة، مجرد عمود مع ورقة تحدد مواقيت المرور كافية.
- إعادة تنظيم بعض الشوارع التي ستمرّ بها الباصات لتسهيل مرورها. إزالة بعض مواقف السيارات على الجوانب، وإفساح المجال لمناطق توقف الباصات وتحديد مسارات مخصّصة للباصات في الشوارع العريضة، حيث يمكن.
- إقامة دراسة مفصّلة لمعرفة أكلاف تشغيل الباصات، والإيرادات المتوقعة والدعم المفروض تخصيصه لها، ثم يُبنى على ذلك لتحديد التعرفة على المستهلك.
- إصدار بطاقات، أقله تُشترى من السائقين، بهدف تنظيم الاستخدام وإحصاء الركاب والتردّد على كل خطّ وباص. أيضاً يجب تخصيص تعرفة خاصة لبعض الفئات مثل الطلاب الجامعيين، وهي فئات يسهل جذبها نظراً لاعتمادها على النقل المشترك، وإقامة بطاقات شهرية لعدد محدّد من التنقلات لخلق ركاب دائمين وتكون مجانية الركوب لذوي الهمم، أو بتعرفة خاصة للعائلات أو للمجموعات، لزيادة ريادة الباصات. وهذا سبب إضافي أساسي لوجوب إجراء استبيانات وتقديرات دقيقة للحصول على أرقام حديثة وموثوقة للبناء عليها.
- تبقى الصعوبة بتحديد التعرفة، في ظل تغيّر سعر الصرف، وهو أمر ليس مستحيلاً، إذ يمكن ربط التعرفة والدعم الحكومي بسعر الصرف، ويتطوران بحسب هذا السعر. رغم صعوبة الأمر، ولا سيما على المستخدمين، إلّا أنه يبقى أفضل من تحديد تعرفة بطريقة عشوائية بلا أي دعم ما يهدد استدامة القطاع ويصعب جذب الركاب إليه؛
- عند طلب الباصات، أو كحدّ أقصى عند استلامها، كان يجب أن تكون مستلزمات تشغيلها مؤمّنة: لوازم صيانة، سائقين، مصاريف تشغيلية، مواقف، خطوط... وذلك بدلاً من انتظار وصول الباصات والانشغال بالاحتفال بها قبل ضمان هذه المستلزمات.
- أيضاً، بدلاً من إجراء مناورة «استعراضية» قبل يومين من إطلاق الباصات، كان يجب فور اختيار الخطوط، اختبار تردّد الباصات ومواقيت مرورها، وليتم ذلك كان يجب إقامة مناورات مبكرة عبر إطلاق باصات بأحجام كبيرة تسير بنفس الخطوط المحدّدة ليتم دراسة الوقت اللازم بين كل محطّة وأخرى بمواقيت مختلفة من النهار. فور إتمام ذلك يجب تحديد عدد الباصات اللازمة لكل خطّ لتأمين أفضل خدمة وأسرعها بمواقيت محددة. وهنا تعود مجدداً إلزامية إجراء استبيان وإحصاءات دقيقة.
- إدخال النقل المشترك الشعبي كجزء من الخطّة وليس كمنافس أو كـ«وحش» نخاف منه على الباصات، كما يُسوّق له أحياناً. كان يجب دراسة توزيع خطوط النقل الشعبي المشترك بالتنسيق مع خطوط باصات الدولة. مثلاً، كان يمكن أن يتم حصر خطوط الباصات بالشوارع العريضة فقط بهدف ربط النقاط الأكثر تردداً وخلقاً للطلب في المدينة، وترك الشوارع الأضيق والأحياء لباصات وفانات النقل الشعبي، أي جعلها تعمل كشبكات رفد للشبكة الرسمية. يحتم ذلك إجراء مسح شامل وسريع لمركبات النقل المشترك الشعبي ومشغّليها وتحديد مناطق عملهم جغرافياً. بشكل عام، يجب البحث عن تكامل بين القطاعين بشكل مؤقت بانتظار إقامة دراسة حقيقة لمعرفة أفضل توليفة بين هذين القطاعين في حال نجاح المشروع النموذجي للنقل العام الرسمي وتطويره لاحقاً. وهذا ما حصل في العديد من الدول من السنغال إلى المكسيك وكولومبيا مثلاً، وهو ما لم (وغالباً لن) يتم حتى الآن في لبنان، بشكل جدّي.
- إشراك الناس كجزء من الخطة عبر إقامة حملة دعائية بسيطة لإعلامهم بمواصفات الباصات، خطوطها ومواقيت مرورها وتعرفتها بالتفصيل، فضلاً عن إقامة حلقات نقاش واسعة على صعيد بلديات أو مناطق أو أحياء، وعلى الصعيد الوطني برعاية الوزارة للاستماع إلى هموم الناس ومطالبها وما تنتظره من النقل المشترك بدلاً من الحكم عن بُعد، وهو ما يكون مخيّباً غالباً (مثلاً الحكم بأن مستخدمي النقل المشترك من الفقراء فقط، أو أن الناس ستتخلى عن سياراتها وتبحث عن النقل المشترك فقط بسبب الأزمة... نقاشات كهذه مفيدة لفهم الواقع أفضل كما للتخطيط بشكل أفضل للمستقبل من جهة وإشراك الناس في قرارات تؤثر على حياتهم اليومية من جهة أخرى.
عند جهوزيّة هذه الخطوات توضع المركبات في الخدمة في سياق ومضمون واضحين، ثم يتم إطلاق الخطط الموضوعة قيد الخدمة بوصفها نموذجاً يلبّي الشروط الأساسية لنقل مشترك حقيقي. وبعد جمع الداتا حول المستخدمين الفعليين أو المحتملين، وتعميم منهجية العمل لاختيار خطوط جديدة يمكن وضعها لاحقاً في الخدمة، يمكن بدء دراسة مشاريع أكثر «طموحاً» مثل: وصل المدن ببعضها، إقامة شبكات نقل متعدّدة الوسائط تربطها ببعض (مشاة ومركبات خاصة مع النقل المشترك)، وإدخال وسائط جديدة (دراجات هوائية)... هذا عمل طويل وصعب لكن يمكن البدء به بأي لحظة بدلاً من الاكتفاء بالحديث عن صعوبته. بهذا نحصل على خطوط نموذجية تقدم كمثال عما يمكن أن يكون عليه نقل مشترك حقيقي وليس «ترقيعة» ستزيد النقل المشترك سوءاً بدلاً من تحسينه، وتعطي صورة أسوأ عن هذا القطاع بدلاً من تحسينها.
قد يقول البعض أن هناك عوائق أمام كل ذلك، مثلاً:
- غياب التمويل؛ هذه حجة الكسالى، إذ إنه في بلد يبدّد 20 مليار دولار في أقل من 3 سنوات على لا شيء، لا يمكن أن يكون نقص الأموال عائقاً. العائق الحقيقي هو غياب المطالبة الحقيقية بتخصيص أموال لهذا القطاع، أي غياب المعركة السياسية الحقيقية التي ترفع هذا الهدف، أي الأحزاب التي وعدت جماهيرها بالمن والسلوى في الانتخابات، وهذا يشمل كل الأحزاب. وهذه معركة لا يبدو أن أي حزب يريد خوضها، إمّا لصعوبتها أو لأن هذا القطاع ليس أولوية لديه، أو مسايرة لباقي القوى السياسية، أو خوفاً على شبكة المصالح المتعلّقة بقطاع النقل، وغالباً جميع هذه العوامل مجتمعة.
كان يُفترض تسيير باصات الهبة الفرنسية باعتبارها نموذجاً يلبّي الشروط الأساسية لنقل مشترك حقيقي


- ضيق الوقت؛ صحيح أنه يجب العمل بسرعة خاصة في ظل الأزمة الضاغطة، إلّا أنه في بلد بدّدت فيه 30 عاماً من دون أي تطوير في قطاع النقل وثلاث سنوات من الحياد السلبي تجاه الأزمة، وفي بلد يحتاج إلى سبعة أشهر لتشغيل 10 باصات، يبدو أن ضيق الوقت بمثابة عنصر ثانوي لدى القيمين وهو سبب غير مبرّر. ويستحسن إضاعة المزيد من الوقت بالبناء لأسس متينة لقطاع النقل بدلاً من تضييعه بالترقيع أو الاكتفاء بالشكوى مع الناس من دون تحمّل فعليّ للمسؤولية.
- البيروقراطية والعراقيل الإدارية؛ هذا صحيح. لكن لتفادي ذلك هناك وصفة تعتمد على إقامة هيئة منظّمة لقطاع النقل، تضع تحتها كل الإدارات المعنية بالقطاع (وزارة، مجلس الإنماء والإعمار، مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، المحافظات، ...) لاتخاذ قرارات مركزية ومنسّقة لتنظيم الفوضى القائمة.
الأصعب في تخطي كل هذه العراقيل، هو أنها تتعارض بنيوياً مع النظام الزبائنيّ والطائفي الموجود. عضوياً، لا تستطيع سلطة أنتجت نظام نقل غير مستدام وسيء إلى هذا الحدّ أن تقوم هي نفسها بتطويره. لذا قبل كل التقنيات، الحلّ سياسي، ويوجب قرارات جريئة وصعبة لا تبدو السلطة مستعدة لها خاصة أنها تهدد شبكة مصالحها في القطاع وتلزمها بإدراك الواقع ومواجهته، وهو ما يلغي أساس وجودها إن فعلت.
إعادة إطلاق خطّة نقل عام، ولو كانت محدودة جداً، كانت لتكون فرصة ذهبية لإعادة إحياء هذا القطاع والبناء عليه للمستقبل، إنما حين يتم ذلك بالطريقة السيئة التي حصلت وبشكل غير مستدام بتاتاً، وبلا أي بُعد استراتيجي للموضوع، فإن الخوف من أن يكون مفعوله عكسياً. فشل هذه الخطوة في ظل الظروف الحالية، يزيد من انقطاع أمل الناس بالحصول يوماً على قطاع نقل يليق بها.

* باحث في مجال النقل