في البدء، يجب أن نخوض النقاش المتصل باكتساب المصارف المركزية النفوذ والأهمية في الاقتصادات الغربية المتقدمة. فالسرديات الرائجة، تركّز على الأدوار الرئيسية للمصارف المركزية في النيوليبرالية. ومدارس الاقتصاد السياسي المختلفة، تركّز على جانبين من جوانب التغيير الذي لحق بالمؤسسات والسياسات النيوليبرالية. الجانب الأوّل ينظر في المصالح المضادّة للتضخّم، لأصحاب رأس المال وكيف أدّت فترة الأزمة في السبعينيات إلى ثورة مضادة حقيقية من قبل هؤلاء. يُزعم أنهم حشدوا سلطاتهم الهيكلية والأداتيّة، وبالتالي قادوا الدول الغربية إلى تفويض (إن لم يكن التنازل عن) الكفاءات للمؤسّسات التي يمكنها تلبية المطالب الرأسمالية. المستفيد الأكبر من هذه الإصلاحات النيوليبرالية كانت المصارف المركزية. وتجادل مجموعة ثانية من الاقتصاديين السياسيين، بأن «الهياكل المؤسّساتية لا تأتي مع كتيّب تعليمات». فعلى سبيل المثال، بإمكان السياسيين إحداث تغيير هام في السياسات والأدوات والمؤسّسات من خلال تعبئة الناخبين حول «العقيدة النقدية» كحل جذاب لمشكلات الركود التضخمي. في مسار بديل، يجادل العلماء بضرورة فصل صنع القرار بشأن المواضيع المعقدة مثل السياسة النقدية جزئياً عن الضغوط الرأسمالية أو المطالب الانتخابية.

لقد لعبت مجموعات المصالح المتغيرة بين الرأسماليين والناخبين، فضلاً عن عمليات إعادة التوجيه الفكرية داخل السياسة والتطورات الفكرية في دوائر الخبراء، دورها في جعل المصارف المركزية أكثر قوّة وأدّت إلى أولوية السياسات النقدية في الاقتصادات الغربية المتقدمة. ومع ذلك، فإن القوى المعنية لم تؤثّر إلا بشكل فضفاض على عمليات تحديد السياسات والتغيير المؤسّسي. غالباً ما كانت المصالح متناقضة. فعلى سبيل المثال، أراد ممثلو قطاعات التصدير استقرار أسعار الصرف فضلاً عن معدلات تضخم منخفضة في الوقت عينه؛ وطالبت المصارف بمعدلات تضخم مستقرة وأيضاً بمعدلات فائدة مستقرّة لإعادة التمويل.
في أغلب الأحيان، كان الأمر متروكاً لواضعي السياسات لتفسير المطالب المختلفة وحل المعضلات. والأهم من ذلك، عندما واجه صانعو السياسات لأول مرة، عدم الاستقرار النقدي والاقتصادي الكلي خلال السبعينيات، لم يكن هناك جواب أكيد لمعالجة هذه المشكلات وتلبية مطالب الاستقرار. عادة لم تُقدِّم مقترحات الخبراء أو أفكار السياسيين الجذابة حلولاً قابلة للتطبيق. وإذا استمر صانعو السياسة في تبنّي سياسات تستند إلى أفكار السياسيين أو الخبراء، فإنهم يولدون تأثيرات غير متوقعة، وأحياناً غير مرغوب فيها، كما كان الحال مع محاولات مارغريت تاتشر المبكرة والقصيرة الأجل لاستخدام السياسة النقدية للحدّ من التضخّم (التي كان لها آثار ضارة للغاية على قطاع السلع القابلة للتداول).
يمكننا أن نفهم بشكل أفضل عمليات وتوقيت صعود المصارف المركزية، عندما ننظر عن كثب إلى المؤسسات، وابتكاراتها السياسية، والظروف التي تشكل إمكانات هذه الابتكارات. يمكن أخذ حالة المصرف الوطني السويسري والبوندسبانك وكيف أعاد هذان المصرفان المركزيان تحديد أدوارهما في صنع السياسات بعد التحول إلى أسعار الصرف المرنة في عام 1973. لا الضغوط الخارجية من قبل مجموعات المصالح، ولا التطورات الانتخابية، ولا انتشار أفكار فريدمان النقدية يمكن أن تفسر هذه التحولات. بدلاً من ذلك، كان محافظو المصرفين المركزيين في سويسرا وألمانيا قادرين على اكتساب أدوار جديدة لأنهم تمتعوا بمهلة كافية للانخراط في تجارب الاستهداف النقدي، وواجهوا ظروفاً جيدة لهذه الممارسة الجديدة، ومع مرور الوقت أدركوا القوة المميزة للعملية النقدية كنسخة من «سياسة الدخل المقنعة».
في المقابل لم يتمتع بنك إنكلترا بنفس المساحة للتجارب خلال السبعينيات، بسبب افتقاره إلى الاستقلال ودوره المحدود كمؤسسة للقطاع المالي. الجانب الآخر من القصة هو أن محافظي المصرف المركزي في المملكة المتحدة كانوا ضدّ الابتكارات النقدية الجذرية لأنهم، بحلول منتصف السبعينيات، أدركوا عدم قابلية تطبيق الحلول المقترحة (أي النقدية) في سياق المملكة المتحدة، وبالتالي اختاروا استمرار الاعتماد على «تأثير القطاع الخاص» مع الحكومة. لكن تقييمات البنك تغيرت على مدار الثمانينيات. فبحلول أوائل التسعينيات، لم يتغير الوضع المؤسّسي لبنك إنكلترا ولا السياق السياسي له. لكن البنك بدأ في الدفع نحو السلطة سلطته المستقلة ووضع استراتيجيات لها لأنه أدرك أن التلاعب في أسعار الفائدة مقابل نظام مالي قائم على السوق يمكن أن يشكل أداة سياسية قوية. وفقاً لذلك، عندما أتيحت الفرصة (بعد كارثة آلية سعر الصرف الأوروبية)، قام البنك بإصلاح إجراءات السياسة النقدية وقدم تنسيقاً توقعياً جديداً مع الأسواق استناداً إلى تقارير التضخم الخاصة به. كان هذا الابتكار في 1992-1993 اللحظة الحاسمة التي أدّت إلى هيمنة البنك المركزي. وأخيراً وليس آخراً، غيّر بول فولكر وضع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بشكل جذري، ليس لأنه أصبح يؤمن بالعقيدة النقدية أو بسبب أي تغيير سياسي مهم. إذ، لم يكن فولكر محافظاً راديكالياً لتجاهل تكاليف الاقتصاد الكلي لأفعاله. وبدلاً من ذلك، فإن ما جعل فولكر متميزاً هو أنه استخدم بجرأة الفسحة الممنوحة للاحتياطي الفيدرالي (وسلطة رئيسه) من أجل معالجة ما اعترف به على أنه المشكلة الرئيسية في نقل السياسة: توقعات الأسواق المالية بتضخم أعلى من أي وقت مضى. لهذا الغرض، انخرط فولكر في حلقة فاشلة من استهداف الاحتياطيات النقدية غير المقترضة، فقط ليخرج من هذه التجربة كهدف للتضخم الأولي. ومرة أخرى، فإن محافظي البنوك المركزية أنفسهم وابتكاراتهم السياسية وظروف هذه الابتكارات قد غيرت بشكل حاسم وضعهم المؤسسي ودور السياسة النقدية.
في المقابل يجب الخوض في نقاش ما كانت تداعيات صعود المصارف المركزية وانعكاسات سياساتها، خصوصاً على القطاع المالي. باختصار، يربط الأكاديميون هيمنة السياسة النقدية بنمو الأسواق المالية، من خلال حجتين:
- المصارف المركزية لديها، كما يُزعم، تحيّزاً مضادّاً للتضخم. لقد قوّضت سياسات مكافحة التضخّم مصالح العمال، ودعمت مصالح رأس المال. يجادل الاقتصاديون السياسيون بأن هذه السياسات التنازلية قد زادت من الأهمية الهيكلية وغذّت نموّ القطاع المالي. في أعقاب تراجع التضخّم في الثمانينيات، شعر الرأسماليون بالجرأة بسبب الوعد بالاستقرار النقدي وكانوا حريصين على منح الائتمان والاستثمار. كما عزّزت سياسات الحدّ من التضخّم، نموّ الائتمان في قطاع الأسر لأن العمال الذين يعانون من خسائر في دخل العمل تحوّلوا إلى الائتمان بدلاً من ذلك. هناك حجة تكاملية تحظى بتأييد واسع وهي أن القوة المتزايدة للبنوك المركزية تتزامن مع «صعود العقيدة الليبرالية». عندما أصبح صنّاع السياسة النقدية أكثر نفوذاً بعد السبعينيات، عملوا كأبطال للأسواق الحرة. أدى تأثيرهم داخل الدولة وإجراءاتهم السياسية المباشرة إلى تحرير الأنظمة المالية، والتي بدورها ساهمت في نمو غير مستدام للائتمان وإدخال أدوات مالية خطيرة.
هذه الحجج ليست خاطئة، لكنها غير كاملة. أولاً، تُظهر الأدلة على السياسات النقدية ما قبل عام 2008، إلى جانب التحليلات المكثفة للتيسير الكمي ما بعد عام 2008، أن المصرفيين المركزيين يمكنهم دعم الأَمْوَلَة بسياسات توسعية للأموال السهلة.
- تحرير الأنظمة المالية من الضوابط غير المكتملة، لأنها فشلت في استيعاب دوافع سياسة محافظي البنوك المركزية التي تؤثر على مواقفهم وقراراتهم المتعلقة بالمسائل التنظيمية. قصة تحرير الأنظمة المالية تغفل بأن محافظي البنوك المركزية شاركوا بنشاط في تشكيل الأنظمة المالية وتنظيمها وفقاً لمصالحهم الحاكمة.
تزعم المصارف المركزية أن لديها تحيّزاً مضادّاً للتضخم بينما هي تقوّض مصالح العمال وتدعم رأس المال


بشكل عام، يتمثل ضعف القوة الهيكلية والمقاربات الفكرية في أنها تقسم العالم إلى مجالات منفصلة من السياسات والأسواق. باتباع مثل هذا المنطق، كان محافظو البنوك المركزية أكثر إصراراً في دعمهم للقطاع المالي عندما سعوا إلى تحرير الأسواق وتقليل السياسة الاقتصادية النشطة لتحقيق استقرار الأسعار. ولكن كما جادل عدد من العلماء، فإن القطاع المالي ليس سوى عالم السوق الحرة. والأمْوَلَة ليست سوى نتيجة سياسة عدم التدخل.
لذا، وجب تحويل التركيز نحو التشابكات الملموسة والأضرار المتكررة التي أدمجت بين البنوك المركزية والقطاع المالي القائم على السوق. فقد ظهر محافظو البنوك المركزية خلال فترة النيوليبرالية، كصانعي سياسات مفرطي النشاط يقومون باستمرار بتعديل أسعار الفائدة لتتناسب مع الظروف المالية والاقتصادية الكلية المتغيرة وديناميكيات التوقع المرتبطة بها. في المقابل، تمكنت الأسواق المالية من التوسع بشكل كبير في الفترة التي سبقت عام 2008 بناءً على التوقعات التي حفزتها السياسة النقدية بأن ظروف الاقتصاد الكلي والأوضاع المالية ستظل مستقرة في المستقبل البعيد. يمكن القول إن هذا أدّى إلى وهم الاستقرار في الأسواق. ومجال آخر مهمّ من الإصابات المتكرّرة هو أسواق المال. كان توسعها، مدفوعاً بأفكار الربح الخاصة، حاسماً لفشل الليبرالية المتأصلة وأنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إن صعود اليورو ــ دولار هو رمز لهذا التغيير التخريبي. ولكن مع اعتماد تقنيات تنفيذ السياسة النقدية الجديدة، تعلم محافظو البنوك المركزية الاستفادة من حساسية البنوك المتزايدة للأسعار وعلاقات المراجحة التي ظهرت في الأنظمة المالية المسوقة.
تضمّن توحيد البنية المناسبة لأسواق المال دعماً نشطاً من محافظي البنوك المركزية، الذين ساعدوا في إضفاء الطابع الرسمي على الترتيبات القانونية والتنظيمية والتشغيلية الرئيسية. فحيث كان دعم المصرفيين المركزيين أقوى (في قطاع إعادة شراء السندات)، نمت سيولة السوق بقوة أكبر. لا يوجد الكثير من الدراسات التي تلحظ آليات المصرفيين المركزيين الذين ساعدوا في الأمْوَلَة لأنه، من أجل وضع تصور ودراسة العمليات المعنية، نحتاج إلى استكمال المزيد من الأساليب القياسية التي تركز على الآثار السببية مع تلك التي تكشف عن كيفية قيام الجهات الفاعلة في السوق بالمشاركة في إنشاء المؤسسات و الهياكل التي يعتمدون عليها بشكل مشترك.