أدّت الجائحة الصحية عام 2020 إلى تشويه في بنية سوق العمل الرأسمالية بسبب صرف العمال (الأجراء، والعاملين لحسابهم) من وظائفهم وتقليص لساعات عملهم. بفعل ذلك، ظهر عيب إحصائي في تقدير متوسط الأجور، إذ زادت مقارنة مع الفترات السابقة بينما كان يجب أن تنخفض بعد صرف العمال. السبب، بحسب تقرير صدر أخيراً عن منظمة العمل الدولية، أن الخسارة التي لحقت ببنية الأجور مصدرها خسارة في الوظائف ذات الأجور المنخفضة ولا سيما التي تتطلب وجوداً مادياً في مكان العمل - وهي أول ما جرى تدميره – وبالتالي أصبحت التقديرات لا تأخذ في الاعتبار إلا الموظفين ذوي الأجور المرتفعة الذين بقوا في وظائفهم خلال الأزمة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بالفعل، عندما دمّرت الجائحة وظائف الملايين من العمال ذوي الأجور المنخفضة في دول مجموعة العشرين - التي تضم نحو 60% من الموظفين في العالم- ارتفع متوسط نموّ الأجور الحقيقي فجأة إلى 4.3%. وبرزت حركة غير طبيعية في اقتصادات مجموعة العشرين المتقدمة تحديداً، إذ بلغ نموّ الأجور 1.7%، وهو ما يمثّل زيادة 0.7 نقطة مئوية مقارنة مع عام 2019، وأعلى نموّ للأجور تم تسجيله منذ عدّة سنوات. تشير هذه الزيادة في متوسط الأجور، إلى تشوّه في هيكل سوق العمل وتكوينه في بعض اقتصادات مجموعة العشرين الكبيرة المتقدّمة، مثل الولايات المتحدة وكندا، حيث انخفض التوظيف بشكل كبير عام 2020 وقفز متوسّط الأجور بنحو 4% و6%. ولولا الاستخدام المكثّف للإعانات المؤقّتة للأجور، وخطط الاحتفاظ بالوظائف لإنقاذ العمّال والتخفيف من الآثار السلبية للأزمة على الأجور، لسجّل متوسط الأجور رقماً أكبر بكثير، لأن نموّ الأجور الإيجابي هذا يُعزى في الحقيقة إلى التغيير في بنية تكوين العمالة.
وفي النصف الأول من عام 2022، انخفضت الأجور الحقيقية -2.2% في الاقتصادات المتقدمة. ورغم تباطؤ نموّ الأجور في الاقتصادات الناشئة، إلا أنه ظلّ إيجابياً بنسبة 0.8%. يدلّ هذا، على أن الأجور الاسمية في العديد من البلدان لم تعدّل بشكل كافٍ في النصف الأول من عام 2022 لتعويض ارتفاع كلفة المعيشة. ويعتمد تعافي واستقامة أوضاع أسواق العمل إلى حد كبير على التأثير الاجتماعي والاقتصادي للأزمات المستمرة، لا سيما أزمة كلفة المعيشة التي بدأت عام 2021 وصبّت بثقلها على الفئات الضعيفة. وأيضاً على الاضطرابات الجيوسياسية في حال استمرار تأثير الحرب على أسعار الطاقة والاختناقات في توريد السلع اللازمة للإنتاج التي تسهم في إبطاء النمو العالمي خلال عام 2023.
الفئات الأكثر تضرراً
رغم أن بعض الدول نفّذت برامج دعم لإعانة المتضررين، إلا أن القسم الأكبر من العمال المصروفين من وظائفهم فقدوا مداخيلهم الأساسية. هكذا، أدّت الأزمة إلى تعميق الشرخ بين الطبقات الاجتماعية. وتُرجم ذلك، في تغير أنماط استهلاك الأسر تبعاً لموقعها من توزّع الدخل. فالأسر ذات الدخل المنخفض (وهم غالبية العمال الذين فقدوا وظائفهم) لديها هامش إنفاق أقل، لأنها تنفق نسبة أكبر من دخلها الصغير على المواد الأساسية مثل الغذاء والسكن. أما في الأسر التي تقع في الشريحة الأعلى من توزّع الدخل، لديها ما يكفي لتغطية احتياجاتها الأساسية بالإضافة إلى هامش كبير للإنفاق على بنود أخرى (كالصحة والتعليم والترفيه) أو لزيادة مدّخراتها بهدف حماية أنفسهم من مخاطر عدم اليقين في المستقبل، بما في ذلك المخاطر الناشئة عن أزمات جديدة محتملة. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تُعرَّف الأسر ذات الدخل المنخفض على أنها فئة الـ20% الأدنى من توزّع الدخل، وهي تنفق 82% من دخلها على الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك 41% على السكن ونحو 15% على الغذاء. في المقابل، تُنفق الأسر ذات الدخل المتوسط 78% من دخلها على الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك نحو 33% على السكن و13% على الغذاء. بالنسبة إلى المكسيك، تنفق الأسر في الفئات الأدنى من توزيع الدخل 42% من دخلها على الغذاء، بينما تنفق الأسر ذات الدخل الأعلى 14% منه فقط على الغذاء. وعندما يتم تقسيم الأسر المعيشية إلى مجموعات أصغر، يزداد الاختلاف في أنماط الإنفاق بين الأسر في الأطراف السفلية والعليا لتوزيع الدخل. الأمر نفسه ينطبق على جميع المناطق والبلدان في العالم. وتجدر الإشارة إلى أن الدراسات عبر الدول تقدم أدلّة تشير إلى أن نسبة الإنفاق على السلع الأساسية بين الأسر ذات الدخل المرتفع والمنخفض أعلى في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل عنها في البلدان ذات الدخل المرتفع.
الخسارة التي لحقت ببنية الأجور مصدرها خسارة في الوظائف ذات الأجور المنخفضة


بناءً على مجموعة من البلدان التي تمثل مناطق مختلفة من العالم، تُوضح التغيرات في التوظيف والأجور في 8 من 11 دولة، أن الخسائر كانت أكبر بين أقل المجموعات دخلاً، خاصة في فترة ارتفاع التضخّم الذي أدى إلى تآكل الأجور الحقيقية في عام 2021 وفي الأشهر الأولى من عام 2022 مع وصول التضخّم إلى نحو 9.9%. فعلى سبيل المثال، في البرازيل خسرت شرائح الدخل الأدنى نحو 23% من العمالة مقارنة بعام 2019، بينما تراوحت خسائر التوظيف في شرائح الداخل الأعلى ما بين 3% و8% فقط.
أيضاً، تبيّن أن هناك فئات معيّنة من الموظفين عانت أكثر من غيرها من بينهم العمال ذوو الأجور المنخفضة، والعاملين في الاقتصاد غير الرسمي، والعاملين في الوظائف المؤقّتة. فقد انخفضت العمالة غير الرسمية بنسبة 12.3% في الربع الأخير من عام 2020 مقارنة بالربع نفسه من عام 2019، في حين انخفض التوظيف الرسمي بنسبة 1.6% فقط خلال نفس الفترة. وقد تأثّر العمال المؤقتين بشدّة بالأزمة. ففي المكسيك انخفضت هذه العمالة بنسبة 33%، وفي بولندا 9%، وفي البرتغال 17%.