البطالة هي السمة الأبرز للرأسمالية. وهي من وجهة نظر الماركسية، وسيلة لضمان قوّة عمل سهلة الانقياد ورخيصة. وتؤدّي وظيفة مهمّة في النظام من خلال منع الأجور من الارتفاع، وإبقاء نقابات العمّال تحت الضغط. فالهدف هو إخضاع العمال وإذعانهم لحالة دائمة من النُّدرة المصطنَعة للنقود والوظائف ومعهم البيوت والتعليم والخدمات الصحيّة وغيرها. فمن الأمور الإشكالية مثلاً على صعيد الاقتصاد الكلي هو مفهوم «ندرة النقود». باعتبار أن ندرة النقود تحدث فقط لدى الشركات والأسر، ولا تحدث للحكومات الوطنية أبداً. فحكومات الدول عبر مصرفها المركزي هي مصدر النقود ومصنعها الأساسي. ورغم أن النظريات التقليدية للنقود والتمويل العام تعتبر الحكومات كالأسر والشركات، تخضع لقيود في الإنفاق وندرة في النقود - وقيود الحكومة تتمثل في بنود الموازنة العامة وندرة الموارد المالية المتاحة للإنفاق-، إلّا أن تجارب البنوك المركزية وممارسة الحكومات وصنّاع السياسة تخبرنا عكس ذلك. في الواقع إن النقود هي من صناعة البنوك المركزية التي تضخّها متى شاءت، ولا وجود لحدّ فعلي لمقدار ما يمكن خلقه من نقود في البلد. إضافة إلى اعتباطية قيود الموازنات المفروضة ذاتياً، والتي في معظم الأحيان يخرج الإنفاق عن حدها ويتجاوزها، دون اعتبار ندرة النقود حاجزاً طالما يقوم المصرف المركزي بتمويلها.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

وهذا ما أكده «بول كروغمان» قبل عقدين من الزمن في مقال له، عند حديثه عن دور المصرف المركزي الأميركي بوصفه صانع النقود القادر على صنعها بقدر ما يريد لاستخدامها في تحفيز الاقتصاد وخلق المزيد من الوظائف (وهو ما حدث خلال أزمة الوباء الأخيرة). في هذا السياق اقترح كروغمان، أنه لا ينبغي على المصرف المركزي أن يقوم بذلك كون: «النتيجة ستكون غير مقبولة وسيتسارع التضخّم. فالقيد على الوظائف في الولايات المتحدة لا يكمن في قدرة الاقتصاد الأميركي على توليد الطلب... بل يكمن في مستوى البطالة الذي يظن البنك الفيدرالي أن الاقتصاد يحتاج إليه من أجل إبقاء التضخم تحت السيطرة». ففي سياق ارتفاع معدلات البطالة وركود الأجور الحقيقية أو انخفاضها، إن رد الفعل العقلاني للفقراء العاملين هو اللجوء إلى الاقتراض، وبالتالي تحقيق توقعات أولئك الذين يقفون وراء تصميم هذه السياسات، وتحديداً أصحاب رؤوس الأموال. لهذا الغرض، يُعدّ التقشف المالي وسيلة مفيدة في النظام الرأسمالي لأنه يُجبر الأسر المتوسطة والفقيرة على تحمّل عبء التكاليف الباهظة.
أما الجدل في أن البطالة هي الثمن الذي على المجتمع قبوله من أجل إبقاء النقود نادرة وتجنّب التضخم، هو أمر معروف في الأدبيات الاقتصادية من خلال منحنى فيليبس، الذي طُور في الخمسينيات، وهو يبيّن العلاقة بين البطالة ومعدل التضخّم باعتبار أن العلاقة عكسية بينهما، أي أن معدلات البطالة المنخفضة تعني تضخّماً عالياً. ولا يزال هذا الفكر يهيمن على السياسات الحالية، ولا يزال هو المبرر الرئيسي للمبدأ الموجِّه لسياسات التقشف. والقبول بأن البطالة مطلوبة ويتوجّب إبقاؤها فقط من أجل إبقاء التضخم تحت السيطرة، ينضح بقباحة وفشل النظام العالمي ومعه الحكومات المكبّلة، في تحسين أوضاع المجتمعات أو مساعدة كل الذين يعانون الحرمان والفقر نتيجة عدم قدرتهم على الحصول على وظيفة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن كروغمان اليوم غيّر رأيه بشأن محاربة البطالة، وأصبح الآن ضد التقشف. وبات يعتبر أن «سياسات التقشف لا تفرض خسائر في الوظائف والمخرجات في المدى القصير فحسب، ولكنها تعيق النمو أيضاً في المدى الطويل».

%12.3

هي نسبة التراجع العالمي في العمل غير النظامي عن الفصل الرابع في عام 2020 مقارنةً بالفصل المماثل في عام 2019، علماً أن العمل في القطاعات النظامية لم يزد في هذه الفترة سوى بنسبة 1.6%


هذا المشهد الكامل لسوق العمل وأوضاع العمّال في الاقتصادات المتقدمة والناشئة، ولكم أن تتخيلوا المشهد في البلدان النامية والفقيرة. في معظم البلدان النامية لا وجود لبرامج ضمان اجتماعي أو إعانات ضد البطالة أو نقابات ومفاوضات لضمان حقوق العمل والعمال. التضخم يسجل أعلى مستوياته والعملات تنهار في ظل سوق يعاني البطالة ويعتمد على الاستيراد بشكل كبير. الحكومات في الدول النامية غارقة في مستنقع الاستدانة، ولا تُصمّم سوى موازنات تقشفيّة للحفاظ على الحد الأدنى من الإنفاق الحكومي، وإن كان على حساب الطبقات العاملة وانهيار شبكات الأمان الاجتماعي - هذا في حال كانت موجودة من الأصل- وبالتالي إذا كانت الإحصاءات في السنتين الماضيتين في البلدان المتقدمة والناشئة تشير إلى ارتفاع في البطالة أصاب الطبقات الدنيا من المجتمع، وباتت تعاني الفقر النسبي، فإن البطالة في البلدان النامية والفقيرة قد يكون تجاوزها بأضعاف، والفقر النسبي للطبقات الدنيا يعني الفقر المدقع في هذه البلدان، التي لا تملك سوى سياسة التقشف. وبدورها، تنجح سياسة التقشف في جعل الندرة المصطنعة حقيقة من حقائق الحياة المعيشية اليومية، من خلال الحفاظ على معدلات بطالة عالية لمدة طويلة، وإرغام الأجور الحقيقية على الركود أو الانخفاض، ليهبط معها ملايين الأسر تحت خط الفقر.