يجب التمييز بين الإنترنت و«الويب». الإنترنت هو شبكة الكابلات والمعدات التي تربط كل الحواسيب في العالم بعضها ببعض. أما «الويب»، فهو المحتوى الذي يظهر للمستخدِم غبّ الطلب. بمعنى، أنه عندم يُدخل المستخدِم اسم موقع إلكتروني في المتصفّح (غوغل كروم، إنترنت إكسبولرر...)، فإنه، تقنياً يأمر المتصفِّح بأن يظهر له على الشاشة ملفّات (أو محتوى) مخزّناً على خادم لشركة ما. الإنترنت يلعب دور الناقل لهذا المحتوى. لكن في البداية عندما كان «الويب» في نسخته الأولى، كان المستخدِم يستطيع قراءة المحتوى فقط، من دون أن تتاح له مشاركته أو الإضافة عليه. سمي هذا بالـ«ويب1».

ومع بداية الألفية الثانية، وظهور منصّات التواصل الاجتماعي والتطبيقات المتنوعة، مثل البريد الإلكتروني، «ماي سبايس»، «فايسبوك»... تغيّرت آلية عمل «الويب». فقد بات متاحاً للمستخدِم أن يصنع هو المحتوى، وأن يشاركه ويتفاعل معه. سُمّي ذلك بالـ«ويب 2». وكان هذا المحتوى يُخزّن بشكل مركزي على خوادم الشركات التي سيطرت على هذه النسخة بشكل كامل وغالبيتها شركات تكنولوجيا كبرى مثل «فايسبوك» و«يوتيوب» وغيرهما. وراكمت هذه الشركات، من خلال استغلال المحتوى وبيانات المستخدمين، أرباحاً بقيمة مليارات الدولارات.
عملياً، لا وجود للويب من دون المحتوى. بقي هذا الستاتيكو إلى أن ولدت تقنية «بلوكتشاين» في عام 2008 التي أتاحت للمستخدمين تخزين المحتوى بشكل لامركزي على أجهزتهم. كان الأمر محصوراً بالعملات المشفّرة، إلا أن هذه التقنية سرعان ما تطوّرت عبر الـ«العقود الذكية» والأصول الموثّقة «NFT's»، حتى بات هناك «ويب» موازٍ للحالي سُمّي «ويب3» في عام 2014 من قبل أحد مؤسسي شبكة «إيثيريوم»، غافين وود.
وكي نفهم «الويب3»، يمكن القول إن كل خطوة من لحظة الولوج إلى الويب حتى لحظة الخروج، بكل العمليات التي تتضمنها، باتت مسجّلة في محفظة المستخدِم. سواء حصلت هذه الخطوات بشكلها البسيط في عمليات البحث أو صناعة المحتوى، أو مشاركته، أو إرساله، أو نسخه، أو عمليات شراء وبيع... كلّها موثّقة رقمياً بواسطة هذه التقنية. وبذلك، لن يستطيع أحدٌ أن يدّعي ملكية صناعة أي محتوى ليس له. كذلك، ليس بإمكانه الاحتفاظ به إلا كنسخة تُمحى بمجرد أن المصدر محا النسخة الأصلية منها. والأمر نفسه ينطبق على التطبيقات (apps) والمواقع الإلكترونية. والقوانين التي ستحكم هذه المنظومة، هي برمجيات مسبقة تُسمّى «العقود الذكية».
بهذا المعنى، فإن «الويب3» يستعمل آلية عمل الـ«بلوكتشاين» لتثبيت الهوية والملكية والقوانين... وبالتالي ستكون لدينا نسخة محدّثة من اقتصاد الديجيتال. صحيح أن السائد حالياً ما زال هو «الويب 2»، لكن هناك العديد من الخطوات التي سارت وتسير باتجاه «الويب3».
كيف يتحول ذلك إلى اقتصاد؟
«الويب 3» مبنيّ على ثلاثة أمور أساسية:
- أولاً، بواسطة الـ«بلوكتشاين» يتم تسجيل جميع البيانات حول ملكية الأصول وتاريخ العمليات.
- ثانياً، «العقود الذكية» أو البرامج المخزّنة على «بلوكتشاين»، تقوم تلقائياً وبشكل مستقلّ، بتنفيذ العمليات بناءً على أوامر محدّدة مسبقاً سبق أن وافق عليها طرفا العمليات.
- ثالثاً، العملات المشفّرة والـ«NFT»، وهي أصول رقمية يمكن أن تكون لها قيمة في الواقع الحقيقي. فعلى سبيل المثال، الـ«NFT» يمكن أن تمثّل شهادة ملكية، أو أن تعكس أصلاً مادياً قابلاً للحساب.
باختصار، خلال السنوات القليلة الماضية، تم خلق بنية تحتية في العالم الرقمي يتم عبرها تداول الأصول الرقمية. تُعرض منتجات الأصول الرقمية في عالم افتراضي اسمه «ميتافيرس». هو مكان يجمع الناس معاً «حضورياً» في مساحة افتراضية مشتركة للتفاعل والتبادل. ووفقاً لـ«ستاتيستا»، تبلغ قيمة سوق «الميتافيرس» العالمية 47.5 مليار دولار في عام 2022، ويعتقد أنها ستبلغ 678.7 مليار دولار بحلول عام 2030.

صناعة المحتوى تدفع في هذا الاتجاه
«الويب 2» خلق اقتصاداً موازياً قائماً على صناعة المحتوى الذي استفادت منه شركات التكنولوجيا العملاقة من خلال جمع البيانات وبيعها. إنما سيكون هذا الاقتصاد مختلفاً جداً مع «الويب 3». فهذه الشركات لن يكون بإمكانها لعب دور كبير، بل سيكون الفرد أو المستخدم هو اللاعب بحد ذاته. أفضل تعبير عن ذلك هو السؤال الآتي: لماذا أدفع المال كي أحصل على اشتراك في منصّة، بينما يمكنني أن أكون جزءاً منها وتحقيق دخل من صناعة المحتوى وتداوله بلا أي تحكّم فيه من قبل الشركات العملاقة؟ إنشاء مقاطع فيديو على «يوتيوب» لم يعد فكرة مثيرة للسخرية، هذا نموذج عمل مُجرّب، وقد بدأ بالفعل في جذب انتباه مؤسّسي الشركات الناشئة والمستثمرين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
بلغت قيمة سوق «الميتافيرس» 47.5 مليار دولار في عام 2022 ويُقدّر أنها ستبلغ 678.7 مليار دولار بحلول 2030


بحسب «فوربس»، تُقدر قيمة «اقتصاد صنّاع المحتوى» في العام الحالي، بأكثر من 100 مليار دولار، وأكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعتبرون أنفسهم صانعي محتوى، علماً أن الغالبية العظمى منهم هواة. هناك نحو 2 مليون صانع محتوى محترف يكسبون نصفهم أموالاً على «يوتيوب». ويحتل «إنستغرام» المرتبة الثانية مع نحو 500 ألف صانع محتوى، بينما تضمّ خدمة البثّ المباشر من «تويتش» نحو 300 ألف. وبالنسبة إلى المبدعين الهواة البالغ عددهم 48 مليوناً، يُعدّ «إنستغرام» خيارهم الأول، وثانياً «تيك توك». يستحوذ «يوتيوب» على 55% من عائدات الإعلانات، ويحتفظ صانعو المحتوى بنسبة 45% المتبقية. وتحاول «ميتا»، اللحاق بهذا الركب من خلال إتاحة كسب المال عبر «فايسبوك» و«انستغرام»، إذ سيُسمح للمبدعين الحفاظ على 55% من عائدات الإعلانات بينما تحصل الشركة على 45%. وتعمل «تيك توك» على طرح طريقة جديدة للمبدعين لكسب المال على منصتها. لكن يجب أن يكون لدى صانعي المحتوى 10 آلاف متابع على الأقل، للمشاركة في المرحلة الأولى من البرنامج. وحتى الآن، فإن الطريقة الوحيدة المتاحة لصانعي المحتوى لكسب المال على منصّة «تيك توك»، تكمن في التسويق للعلامات التجارية، والبث المباشر حيث يجمع المستخدم الهدايا الافتراضية التي تصله من الجمهور والتي يستطيع استبدالها بمال حقيقي.

نحو «الميتافيرس»
هذا العالم الرقمي الموازي، لا يقتصر على شركات التكنولوجيا والترفيه، بل هو وجه الاقتصاد الجديد. هو المكان الذي سيربط الواقع بالخيال. فبحسب «غارتنر»، وهي شركة أبحاث واستشارات تكنولوجية، تتوقع أن يقضي 25% من الأشخاص ما لا يقل عن ساعة واحدة يومياً في «الميتافيرس» للعمل والتسوّق والتعليم والتواصل أو الترفيه بحلول عام 2026. وهذا يوضح لماذا تقوم الشركات في بناء عوالم رقمية للمستخدمين، من أجل تكرار حياتهم الحقيقية في عوالم رقمية، مثل حضور الفصول الدراسية الافتراضية وشراء أرض رقمية، وبناء منازل افتراضية، هذه أمور بدأت بالفعل بالحصول. كذلك ستؤثر «الميتافيرس» على كيفية إنجاز العمل. ستوفّر الشركات مساحات عمل في مكاتب افتراضية. أنت لن تحتاج إلى مكان حقيقي خاص بك كي تجمع الناس، كل وظائف الاقتصاد المعرفي ستتم داخل «الميتافيرس». وذلك كله لا يمكن الوصول إليه من دون «الويب3».
مع هذا، لا يزال «الويب 3» قيد التشكّل. وبطبيعة الحال، الاقتصاد ليس مجرد صناعة محتوى وجمهور. كما أن هناك العديد من القضايا التي يجب حلها، بما في ذلك التنظيم قبل أن يتّسع «الويب 3» بشكل مقنع للوصول إلى التبني الجماعي.