سهّل الامتداد العالمي للدولار انتشار الأزمة المالية الأميركية عام 2008 في كل أنحاء العالم، ما تسبّب بركود عالمي وشدّة اقتصادية طويلة الأمد. ومذَّاك أصبحت هنالك حاجة كبيرة إلى نظام مالي ودولي أكثر استقراراً، لا يعتمد على الدين، ولا يكون تحت سيطرة أميركا ومحصّن ضدّ التقلّبات السياسية. والبعض طالب باتفاقية «بريتون وودز» جديدة، أو حتى العودة إلى معيار الذهب الكلاسيكي.وُلدت العملة المشفّرة «بتكوين» من رحم الأزمة المالية العالمية، كعملة رقمية دولية ناشئة. في الورقة البيضاء التي أصدرها مؤسّس «بتكوين»، «ساتوشي ناكاموتو»، قدّم العملة المشفّرة على أنها نظام نقدي إلكتروني من نظير إلى نظير «p2p» (نظام الـ«p2p» هو تبادل البيانات بين الأفراد أو الشركات من دون وساطة أو إشراف)، ولكنّ خصائصها الشبيهة بالذهب كانت واضحة منذ البداية: كان التداول بها يتم كأنها سلعة، ذات كمية محدودة، وتتحرّك بشكل سلس عبر الحدود. البعض، وأنا أيضاً، اعتقدنا أن هنالك احتمالاً، أن تحلّ بدلاً من الذهب كمرساة لنظام نقدي ودولي جديد شبيه بنظام «بريتون وودز».


أخيراً، تبدو العملة المشفّرة «بتكوين» كأنها تنحرف عن هدفها الأساسي وتتحوّل بشكل رئيسي إلى فئة جديدة من الأصول. وبدأت العملات المشفّرة الأخرى، باستبدالها بشكل تدريجي كوسائل دولية للتبادل. ولكن يرى البعض أن هذه المرحلة انتقالية والعملة المشفّرة «بتكوين» ستصبح في نهاية المطاف العملة المشفّرة الدولية الأولى. الذين ينظرون إلى الـ«بتكوين» بهذه الطريقة يُعرَفون بأنهم، «متطرفو البتكوين».
طلب مني بيار روشارد، أن أقوم بمراجعة نقدية لكتاب قام بنشره سيف الدين عمّوص، وهو بروفيسور اقتصاد لبناني يصف نفسه على صفحته على «تويتر» بأنه «خبير اقتصادي في البتكوين». عنوان هذا الكتاب هو «معيار البتكوين». تمنيت أن أجد في الكتاب تقييماً دقيقاً للتكاليف والفوائد الاقتصادية لاعتماد البتكوين كمعيار نقدي دولي. لكن منذ البداية، كان واضحاً أن المؤلّف لديه أجندة مختلفة. قال لي أحد أصدقائي: «تقرأ قائمة المحتويات مثل كأنها لمتطرف ذهب تابع للمدرسة الاقتصادية النمسَوية». إنه كذلك بالتأكيد. سبعة فصول من أصل عشرة، تدور حول المال وتاريخه، بما في ذلك فصل كامل عن المعادن النقدية، وثلاثة فقط عن الـ«بتكوين».
لم يكن واضحاً تماماً لماذا اعتقد سيف الدين أنه من الضروري توثيق التاريخ الكامل للمال من أجل مناقشة العملة المشفّرة «بتكوين». ولم يتكلم فقط عن المال. لدى سيف الدين آراء حول جميع أنواع الأشياء، كالتعليم والموسيقى والفنون والعمل والزواج والأطفال و«كينز»، ويعبر عنها بحرية في هذا الكتاب.
أولاً أعتقد أنه تسرّع في استبعاد التهديد الذي تشكّله العملات المشفّرة الأخرى على تفوق «بتكوين». ويبدو أنه يعتقد أن الجميع سيقدّرون قيمة «البتكوين» الانكماشية والكلفة العالية لإنتاج العملة بتقنية إثبات خلق العملة بواسطة العمل (proof of work) مثله هو. ولكن في الواقع الناس لديهم خيارات، ولا يختارون دائماً الحلول الذهبية. إن تاريخ المعلوماتية يوضح لنا أن الحلول التي لديها أفضلية بالتسويق هي التي تفوز، وليس الأفضل تقنياً.
وأعتقد أيضاً أنه لم يكن حكيماً في محاولته للتهرب من تكلفة الطاقة العالية لتعدين «البتكوين». يخصّص فصلاً كاملاً لشرح لماذا الموارد الطبيعية، باستثناء الذهب، غير محدودة، ويفترض أنه يمكن ببساطة استيعاب كلفة الكهرباء العالية، لأن الكهرباء مشتقة من الموارد الطبيعية. ربما ستكون هناك في المستقبل وفرة وكلفة أقل نتيجة من الطاقة الشمسية ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى. لكنني قلقت من عدم اهتمامه بالتكاليف البيئية. نظراً إلى وجود قلق دولي متزايد بشأن تغير المناخ، ولذلك قد تؤدي المشاكل البيئية التي تسببها «بتكوين» إلى إبعاد الناس عن استخدامها. كما أن الطلب على الطاقة من العاملين على تعدين «البتكوين» يجعلها عرضة للرقابة. بدأت الشبكات العامة بالفعل في منع أو الحد من استهلاك معدّني «البتكوين»، وبدأت سلطات الولايات برفض إعطاء الإذن بإنشاء منصات تعدين.
قد يحاول المستهلكين لتعدين «البتكوين» تطوير مصادر الطاقة الخاصة بهم، لكن جميع أشكال الطاقة تتطلّب الوصول إلى الأرض، وجميع الأراضي هي تحت سيطرة الحكومات، بطريقة أو بأخرى. قد تكون الحاجة إلى الطاقة هي «كعب أخيل» الخاصّ بالعملة المشفّرة «بتكوين» .
ولكن بعيداً عن هذه المخاوف، إن الفصول الخاصة بالعملة المشفّرة «بتكوين» جيدة جداً. المشكلة هي في بقية الكتاب. صاغ سيف الدين السرد على أنه متطرف لمعيار ذهب، ما أدّى إلى استبداله للذهب بالعملة المشفّرة «بتكوين»، بشكل يعني نسخة رقمية جديدة من المعيار الذهبي الكلاسيكي. لذلك على القارئ أن يخوض في سبعة فصول من الاقتصاد النمسَوي وتأليهه للنقود المعدنية قبل الوصول إلى لب الكتاب.
بالنسبة إلي، إن أصعب أقسام الكتاب هي التي تتكلم عن التاريخ النقدي. إنها مليئة بالأخطاء، والمصادر ضعيفة جداً، وهناك تحيّز واضح. يبدو أن هدف سيف الدين ليس إعطاء وصف دقيق لتطور المال بجميع أشكاله، ولكن دعم إيديولوجيته عن العملة المعدنية.
لذلك عليه مناقشة أحجار الـ«YAP»، والأصداف والخرز، ولكنه لا يذكر استخدام أوراق الإقرار بالدين (IOU)، وهي ممارسة تعود إلى ما لا يقل عن 3000 عام. في الواقع، لا يذكر استعمال المال كأداة دين في أي فصل من الكتاب.
لحسن الحظ، إن تجاهل المال كأداة للدين ليس خطيراً بشكل خاص في الفصل الخاص بنشأة الأموال. إن مناقشة انحطاط العملة الرومانية، التي تنتهي بتحول المركز الإمبراطوري إلى بيزنطة والتدهور التدريجي لروما، أمر مثير للاهتمام. ومع ذلك، أنا غير مقتنعة بأن انحطاط العملة كان سبب سقوط روما. بدلاً من ذلك، أود أن أقترح أن انحطاط العملة كان أحد أعراض انخفاضها. من وجهة نظري، إن العلاقة السببية عند سيف الدين معكوسة. ليس وجود معدن نقدي في العملة هو الذي يحافظ على قيمتها، بل إن قوة المؤسسات الاجتماعية هي التي تجعل استخدام المعدن النقدي ممكناً. الدرس المستفاد من روما هو أن معايير الذهب لا تنجو من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
السؤال الكبير بالنسبة إلي هو ما طرحته في بداية هذا المنشور. هل يمكن أن تكون «بتكوين» هي المرساة لنظام عالمي للعملات في العصر الرقمي؟
للأسف، إذا كان هذا الكتاب مرجعاً، فهناك فرصة ضئيلة لذلك. يبدو الأمر كأنّ اقتصاديي المدرسة النمسَوية والمراجعين التاريخيين يستعبدون مجتمع العملة المشفّرة «بتكوين». أصبح «النقد المتين» (أي العملات غير المعرّضة للتقلّب في قيمتها بشكل كبير، وهي بحسب المدرسة النمسَوية عبارة عن معيار الذهب) شيئاً شبيهاً بالديانة، والتخزين كأنه واجب ديني. يتحدث سيف الدين عن «مجموعة الأموال القابلة للإقراض» (نعم، أعلم أن هذا خطأ، القروض تخلق ودائع وما إلى ذلك). لكن هذا يعني أنه يجب أن يكون هناك أشخاص على استعداد لإقراض أموالهم، بدلاً من مجرد الاحتفاظ بها أو تخزينها. في عالم الـ«بتكوين»، الادّخار يعني التخزين وليس الاستثمار. هذا يعني اكتناز شيء يشبه الذهب، ثم الجلوس عليه في انتظار ارتفاع سعره، وهو سيرتفع حتماً، إذا فعل عدد كافٍ من الناس الشيء نفسه. أما الاستثمار؟ لا أرى أي شيء من ذلك.
إن العلاقة السببية عند سيف الدين عمّوص معكوسة، إذ ليس وجود معدن نقدي في العملة هو الذي يحافظ على قيمتها، بل إن قوّة المؤسسات الاجتماعية هي التي تجعل استخدام المعدن النقدي ممكناً


ومع ذلك، هناك استثمار في نظام العملات المشفّرة. هناك أيضاً خلق للأموال. الكثير منها. هذا ما تدور حوله عمليات الطرح الأولى للعملات المشفّرة (ICO). خلق المال واستثماره. لكنّ العلاقة بين الادّخار والاستثمار معطّلة: يجلس المدّخرون على كنوزهم، بينما تخلق عمليات الطرح الأولى للعملات المشفّرة المزيد من «الأموال». أموال قابلة للإقراض؟ لا أرى أي شيء من ذلك.
إلى أن يتخلى مجتمع العملة المشفّرة «بتكوين» عن المهووسين بالمعيار الذهبي ويتبنى سياسة نقدية معقولة تعترف بشكل صحيح بالحاجة إلى وساطة ما تنقل المدّخرات الى استثمار منتج وإلى الحاجة إلى تدفق الأموال، لا يمكن أن تعمل «بتكوين» كمرتكز لنظام العملات المشفّرة. وبسبب فشل «بتكوين» في هذا الأمر، إن نظام العملات المشفّرة نفسه يتضخم بشكل مفرط. المال المتين؟ لا أرى ذلك.
أمضى سيف الدين بعض الوقت في كتابه يناقش التضخم المفرط في العملات الورقية. لكنه يجب أن يلقي نظرة جيدة على ما يحدث في عالم العملات المشفّرة الآن. سيكون هذا استخداماً أفضل بكثير لمهاراته الاقتصادية من كتابة هذا الكتاب السخيف. التزم باختصاصك يا «خبير اقتصادي في البتكوين».

* هذا النص هو جزء من مراجعة شاملة لكتاب «معيار البتكوين» نشرته الكاتبة على مدوّنتها coppolacomment.com في شهر نيسان 2018

**فرانسس كوبولا كاتبة عملت في مجال المصارف لمدة 17 عاماً وحصلت على ماجستير إدارة الأعمال في Cass Business School في لندن، وتخصّصت في إدارة المخاطر المالية. من مؤلفاتها «قضية التيسير الكمي للناس»