موضوع الأجور هو موضوع معقّد تختلف على جوهره المدارس الاقتصادية، أي إنها تختلف على تعريفه أيضاً. وتسليماً بأن الاقتصاد اللبناني رأسمالي، فلا يمكن الحديث عن الأجور خارج هذا السياق حيث يتولى تحديد الأجر صاحب العمل الذي يملك معظم أوراق القوّة. لكن يجب الأخذ في الحسبان أن الاقتصاد اللبناني شهد أزمة بنيوية (Systemic) وتعرّضت أُسس النموذج القائم منذ التسعينيات وقبلها، إلى تشوّهات واسعة.
انجل بوليغان ــ المكسيك


انهيار النموذج الريعيّ ومعه الأجور
لطالما كان النموذج الاقتصادي اللبناني ريعياً بامتياز. وآخر وجوهه ذلك الذي ظهر في التسعينيات مع تثبيت سعر الصرف، إنما كان نموذجاً ريعياً غير مستدام، إذ أدّى إلى نفخ القدرات الشرائيّة عبر استخدام رؤوس الأموال المحوّلة من الخارج. إنما مع اندلاع الأزمة، انفجرت فقاعة القدرة الشرائيّة للعملة اللبنانية ومعها تدمّرت القدرة الشرائيّة للأجور، أو ما يسمّى بالأجور الحقيقيّة. وظهر أيضاً أن هناك جزءاً وهمياً من الاقتصاد قائماً على قطاع مصرفي راكم الخسائر على مدى العقود الثلاثة الماضية. فبمجرّد انكشاف الأمر في بداية عام 2019 انكشف حجم الاقتصاد الحقيقي. ما تبقّى عملياً، هو التحويلات النقديّة من الخارج، التي لا تتعدّى 6 مليارات دولار بحسب أرقام البنك الدولي التي تستند إلى معطيات من مصرف لبنان، والقليل من الإنتاج المحلّي الذي يتم تصديره أو استهلاكه داخل الدورة الاقتصادية.
وتجدر الإشارة الى أن جزءاً ليس صغيراً من القطاع الخاص، نجا من الأزمة، فأعاد بناء هيكليّة الأجور فيه بشكل أو بآخر. إلا أن هذه الأجور الحقيقيّة المعدّلة لم تعد إلى المستوى الذي كانت عليه ما قبل الأزمة، بمعنى أن نوعية حياة العاملين لم تعد إلى مستويات ما قبل الأزمة.

الأجور في لبنان الرأسمالي
بما أن الاقتصاد اللبناني هو جزء من النظام الرأسمالي العالمي، فإن الأجور في لبنان تتبع القواعد الرأسمالية. في هذا النظام، اليد العليا هي لصاحب العمل. ويقول، صاحب نظرية رأس المال كارل ماركس، إنه في الاقتصاد الرأسمالي تُحدد الأجور من خلال صراع دائم بين العامل وصاحب العمل، وفي النهاية تكون الغلبة لصاحب العمل الذي يستطيع أن يعيش من دون العامل لفترة أطول من قدرة العامل على العيش من دون عمل لدى صاحب العمل. وبالفعل هذه هي النظرة الرأسماليّة للعمّال في لبنان، كما على امتداد العالم الرأسمالي. فالمنظّر الرأسمالي، ديفد ريكاردو، يعتبر العمل سلعة تُباع وتُشترى مثل أي سلعة في الاقتصاد، وهي تمتلك قيمة حقيقيّة أو طبيعيّة، وقيمة سوقيّة. ويشير إلى أن القيمة الحقيقيّة أو الطبيعيّة للعمل، هي القيمة التي يحتاج إليها العامل لتأمين القدرة على الاستمرار (والمقصود هنا الاستمرار في البقاء على قيد الحياة) والتكاثر. وهذه القدرة على الاستمرار مرتبطة مباشرة بالقدرة على تأمين الأساسيّات، مثل الغذاء والسكن وغيرهما من متطلبات الحياة، للعامل ولعائلته. أما القيمة السوقيّة فهي قيمة الأجر التي يتم دفعها في الاقتصاد فعلياً مقابل العمل، وهي تعتمد بشكل أساسي على قوانين العرض والطلب مثل أي سلعة أخرى في النظام الرأسمالي. فإذا كان عرض العمل، أو مجموع ساعات العمل المتاحة في السوق من قبل العمّال، أعلى من الطلب الذي يحدده مجموع ساعات العمل التي يطلبها أصحاب العمل، فإنه في هذه الحالة ينخفض سعر العمل أو أجر العامل في السوق.
ما حصل في لبنان، هو أن الانهيار الاقتصادي أدّى إلى انهيار قيمة الأجور الحقيقيّة. وفي الوقت نفسه تسبّب في إقفال الكثير من المؤسّسات الخاصّة، ما خلق انعداماً في التوازن بين العرض والطلب على العمل. فقد أصبح عرض العمل أكبر من الطلب عليه في السوق، ما أدّى إلى انخفاض قيمة الأجور السوقيّة إلى ما دون قيمة الأجور الطبيعيّة (وفق تعريف ريكاردو)، وهي ستبقى منخفضة حتى لو أضيفت إليها التعديلات التي طرأت على الأجور في القطاع الخاص.

أدوات تجعل الدولة قاصرة
بشكل عام، تملك الدولة العديد من الأدوات التي تستطيع من خلالها التدخّل في الأسواق. إلا أنه في حالة الأجور النقديّة، أي الأجور المباشرة التي يتلقّاها العمّال مقابل عملهم، ليس لدى الدولة الكثير من الأدوات التي تمنحها قدرة التأثير في القطاع الخاص. يمكن للدولة أن تتدخّل من خلال رفع الحد الأدنى للأجور (ونادراً ما جرت تدخلات طاولت شطور ما فوق الحدّ الأدنى). من خلال هذه الأداة، أكثر ما يمكن للدولة أن تفعله، هو أن ترفع الحد الأدنى المسموح أن يتلقاه العمّال في السوق، وهذا الأمر ينعكس على هيكليّة الأجور كلّها لأن رفع الحد الأدنى يدفع العاملين في هرمية أعلى، إلى المطالبة بأجور أعلى، وبالتالي ترتفع الأجور كلّها.
إلا أن هذا الأمر قد لا يعني بالضرورة ارتفاع الأجور الحقيقيّة في الاقتصاد. اضطرار أصحاب العمل إلى رفع الأجور الاسميّة لا يلغي قدرتهم على زيادة الأسعار بحجّة ازدياد الكلفة، ما يؤمّن لهم حفاظاً على مستوى أرباحهم الرأسمالية. في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى العلاقة التنافسيّة بين حصص الأرباح الرأسمالية والأجور. وهي علاقة يرى فيها الاقتصادي توماس بيكتي، أحد أسباب ازدياد اللامساواة في المجتمعات. وارتفاع الأسعار يعني معدلات تضخّم أعلى، ما يعني أن القيمة الحقيقيّة للأجور لن ترتفع، إذ إن القدرة الشرائيّة للعامل ستبقى في نفس مستواها. كما أن رفع الحد الأدنى للأجور، قد يعطي حافزيّة أكبر للقطاع غير النظامي وهو القطاع الذي لا يصرّح للدولة عن أوضاع العمالة عنده، ولا تستطيع الدولة أن تفرض عليه رفع الحد الأدنى للأجور. وبذلك يتحول رفع الحد الأدنى إلى أداة قد تسهم في زيادة حصّة القطاع غير النظامي من الاقتصاد، ما يعني خسارة الدولة للإيرادات الضريبيّة.
أُثبت هذا الأمر في لبنان مع رفع الحد الأدنى للأجور رسمياً من 650 ألف ليرة إلى مليون و325 ألفاً في أيّار الماضي. ارتفاع كهذا لا يساوي أكثر من 23 دولاراً على سعر الصرف السوقي اليوم، إلا أن رفع الحد الأدنى للأجور لم يكن له انعكاس على الأجور الحقيقيّة. ففي الواقع، كان الحدّ الأدنى يساوي 430 دولاراً أيام كان سعر الصرف مستقرّاً، لكن مع انهيار سعر الصرف تراجع الحد الأدنى 19 مرّة ليبلغ 22 دولاراً، وفي المقابل لا تمثّل الزيادة الأخيرة للحدّ الأدنى أكثر من مرّة واحدة. أما القرار غير الرسمي بشأن زيادة إضافية على الحدّ الأدنى ليصبح مليوني ليرة، فهو لا يعدّل كثيراً في الخسائر الهائلة التي تكبّدتها الأجور.

خيارات ما بعد الأزمة
في موازاة النقاش المتعلق بتصحيح الأجور في القطاع الخاص، برزت مسألة القطاع العام. هنا تصبح المسألة مختلفة في آليات التصحيح. موازية القوّة التي تحكم العلاقة بين صاحب العمل والعمال في النظام الرأسمالي تمنح مرونة أكبر لتصحيح الأجور في القطاع العام، بينما يصبح الأمر شائكاً في تصحيح أجور القطاع العام. فالعاملون في القطاع العام لن يواجهوا فقط ربّ عملهم، أي الدولة، بل سيواجهون أيضاً كل أرباب العمل الآخرين الذين غالباً ما يتذرّعون بأن الدولة ربّ عمل فاشل، وأنها وكر للفساد والرشوة، وأن كل إنفاق تقوم به لا يصبّ في مصالحهم مباشرة، هو إنفاق تضخّمي. انعدام المرونة في تصحيح أجور القطاع العام، أدّى إلى انكشاف العاملين في هذا القطاع على الفقر بشكل أكبر بكثير من أي شرائح أخرى. فقد فقدت أجور العاملين في القطاع العام قيمتها بشكل واسع وسط صعوبة اتخاذ قرار في الدولة لتصحيحها وباتت تُراوح بين 80 دولاراً و200 دولار شهرياً. وسط الأزمة الراهنة، هناك عدّة خيارات مطروحة لتصحيح أجور العاملين في القطاع العام وهي:
- الطريقة الأولى عبر السياسة الماليّة. في ظل عدم زيادة الإيرادات بشكل طبيعي، فإن كلفة تصحيح الأجور ستؤدي إلى زيادة في عجز الموازنة وتغطيته من خلال الاستدانة. في الواقع الحالي، لا يمكن الاستدانة من الأسواق الماليّة بالليرة، لأن الليرة فقدت قيمتها، وهي معرّضة لفقدان إضافي في القيمة، لذلك من المستبعد أن يستثمر أي أحد في سندات الليرة اللبنانية. ولا يمكن أيضاً الاستدانة بالدولار (عبر اليوروبوندز)، لأن الدولة تخلّفت عن دفع ديونها في شهر آذار 2020. فلا يتبقّى إلا الاستدانة بالعملة اللبنانية من مصرف لبنان، ما يعني أن المصرف عليه أن يزيد من طبع الليرات التي ستصل، في نهاية المطاف إلى السوق. وإن ضخّ المزيد من الليرات في السوق يعني تراجع قيمة الليرة أكثر فأكثر، أي المزيد من التضخّم. والمزيد من التضخّم يعني أن الأجور الحقيقيّة، حتى بعد تعديلها، ستبقى مكانها، وقد تنخفض أيضاً إذا تجاوز معدّل التضخّم معدّل الزيادة في الأجور.
ولكن عبر السياسة الماليّة، تستطيع الدولة أن تزيد إيراداتها بدلاً من زيادة العجز في الموازنة. بالطبع، هذا لا يعني زيادة الضرائب التنازليّة على جميع فئات المجتمع. بل قد تكون من خلال وضع نظام ضريبي تصاعدي على الدخل، وزيادة ضرائب استثنائيّة أخرى مثل ضريبة الثروة. ومن هذه الإيرادات يمكن للدولة أن تموّل زيادة الأجور في القطاع العام.
هناك أنواع أخرى من الأجور التي يتلقّاها العامل مثل الخدمات التي تقدّمها له الدولة، سواء بسعر مدعوم أو من دون مقابل


- الطريقة الثانية هي عبر السياسة النقدية. كما فعل مصرف لبنان مع القضاة الأسبوع الماضي، إذ قرر دفع أجورهم على أساس سعر صرف 8000 ليرة مقابل الدولار، بدلاً من 1500 ليرة. علماً أن هذا الأمر ليس إجراءً نقدياً اعتيادياً، فليس من مهمة أي مصرف مركزي في العالم أن يحدّد سعر صرف أجور العاملين في القطاع العام. فهؤلاء تُحدد أجورهم بالعملة المحليّة ولا تُربط بالدولار. إلا أن ما فعله مصرف لبنان كان سابقة، وهو خيار يجب دراسة أثره. فإذا عُمّمت التجربة على القطاع العام كلّه، هذا يعني أنه سيتوجّب على المصرف المركزي طباعة تريليونات الليرات شهرياً لتطبيق قرار كهذا، ما يعني أن السياسة النقدية أيضاً، سينتج عنها انخفاض في قيمة العملة، وبالتالي دخول الاقتصاد في دوامة تضخميّة.

النموّ والخدمات الاجتماعية
لكن الأجر ليس فقط أجراً نقدياً يتقاضاه العامل مقابل عمله. فهناك أنواع أخرى من الأجور التي يتلقّاها العامل مثل الخدمات التي تقدّمها له الدولة، سواء بسعر مدعوم أو من دون مقابل. هذا النوع من الأجور يُسمّى بالأجر الاجتماعي. في الوقت الراهن قد لا يكون هناك حلّ مباشر للأجور النقدية من دون مفاعيل تضخمية، إذ لا إمكانية لدفع الأجور صعوداً من خلال الأدوات الماليّة أو النقدية، إلا أنه يمكن للدولة أن تقدّم لجميع العاملين، في القطاعين العام أو الخاص، أجراً اجتماعياً.
يمكن أن يكون الأجر الاجتماعي عبارة عن تقديم خدمات الطبابة بشكل مجاني، أو مقابل أسعار مدعومة. أو من خلال تقديم قطاع نقل عام يخفف كلفة التنقّل على العمّال. إلا أن تقديم هذه الخدمات يحتاج إلى موارد، فالدولة لا تستطيع تمويلها من خلال عجز في الموازنة. هذا الأمر يستدعي استخدام زيادة الإيرادات عبر ضرائب الدخل التصاعديّة والضرائب الاستثنائيّة.

تستطيع الدولة أن تزيد إيراداتها من خلال وضع نظام ضريبي تصاعدي على الدخل وزيادة ضرائب استثنائيّة أخرى مثل ضريبة الثروة


لكن على المدى الطويل، هذا الأمر لا يكفي. فالأجور النقدية بحاجة إلى الارتفاع أيضاً. فمع انهيار النموذج الريعي ومعه مستوى الأجور المضخّم، من الطبيعي أن يمرّ مسار إعادة رفع مستوى الأجور الحقيقيّة من خلال نمو الاقتصاد. وهذا الأمر يحتاج إلى خلق نموذج اقتصادي، يخلق قيمة إضافيّة، بمعنى آخر خلق نموذج منتج للقيمة. وهذه القيمة تتوزّع في الاقتصاد بين أرباح وأجور، ما يعني تلقائياً ارتفاع مستوى الأجور الحقيقيّة. بالإضافة إلى ذلك، فإن النمو الاقتصادي يخلق فرص عمل، أي إن الطلب على العمل يزداد، بالتالي هذا الأمر يعني ارتفاع قيمة العمل السوقيّة، أي دفع الأجور إلى قيمتها الطبيعيّة. لذا، لا يمكن التفكير في تصحيح الأجور الحقيقيّة في المجتمع من دون نسيان النموذج الاقتصادي الذي انهار وبناء اقتصاد قائم على الإنتاج الفعلي.