خلال جائحة كورونا، عملت الدول المتقدّمة، مثل أميركا ودول الاتحاد الأوروبي، على تحفيز الأسواق بأشكال مختلفة. فاستخدمت السياسات النقدية لخفض الفوائد إلى ما يقارب 0%. كان ذلك بهدف تسهيل استدانة الشركات والأسر، لتحفيز جانبي الاستثمار والطلب في الاقتصاد. وتزامن مع هذه السياسة خلق كتلة نقدية هائلة وضخّها في الأسواق. كذلك، عملت هذه الدول على صعيد السياسة المالية أيضاً. إذ قدّمت الحكومات حزمات دعم للأسر، على شكل دفعات نقدية، وحزمات دعم للشركات، على شكل دفعات نقدية وتسهيلات ضريبيّة. لكن لم تكن لدى الدول النامية القدرة نفسها على الاستجابة للجائحة لأن مواردها ليست كافية للعمل بحرية في إطار السياسة النقدية، إذ إن خفض الفوائد بشكل كبير، كما فعلت الدول المتقدّمة، يتطلب قدرة على طباعة النقود وضخّها في السوق وتحمّل أعباء إدارتها وتغطيتها. فالدول النامية لا تملك هذه الحريّة، لأن معظمها لديه حساب خارجي مفتوح وهو خاضع لكمية التدفقات الواردة إليه بالعملات الأجنبية، فضلاً عن أن إيجاد توازن ما لتغطية كمية النقد المتداولة، باحتياطات العملات الأجنبية يحتاج إلى حسابات ليست متوافرة في معظم هذه البلدان. لذا، فإن ما فعلته هذه الدول لمواجهة الجائحة انحصر بالسياسة الماليّة، أي بالاستدانة لدعم الاقتصادات خلال أشهر الإقفال. كما أن هذه الدول عانت من انخفاضات في إيراداتها بسبب توقّف الدورات الاقتصادية عن العمل في فترات الإقفال، ما رفع العجز في موازناتها الذي يتطلّب تغطيته بمزيد من الاستدانة أيضاً.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في ذلك الوقت، كان خيار الاستدانة سهلاً على هذه الدول. فالظروف النقدية العالميّة، التي فرضتها الدول المتقدّمة من خلال خفض معدلات الفائدة فيها إلى مستويات قريبة من الصفر، انعكست على باقي معدلات الفائدة في العالم وسهّلت استدانة الدول النامية. أما اليوم، فقد بدأت تظهر المفاعيل التضخمية لتريليونات الدولارات واليورو التي ضخت في السوق أثناء جائحة كورونا، ثم ازداد الأمر سوءاً بفعل تداعيات الحرب الروسيّة - الأوكرانيّة التي اندلعت في نهاية شهر شباط الماضي وسبّبت خضّة في أسواق النفط والغاز والسلع الأساسية حول العالم، ما أدّى إلى ارتفاعات إضافية في معدلات التضخّم. فما كان من المصارف المركزيّة في الدول المتقدّمة إلا أن بدأت برفع الفوائد بهدف لجم الاستهلاك في الأسواق، وبالتالي خفض الأسعار. لكن رفع الفوائد في الدول المتقدّمة يعني ارتفاع كلفة الاستدانة لدى الدول النامية أيضاً، لأنه يجبر هذه الدول على رفع الفوائد عندها لتبقى قادرة على جذب رؤوس الأموال. هذا الأمر وضع الدول النامية في وضع ترتفع فيه مخاطر الأزمات المالية، كما حصل في سريلانكا في الأشهر الماضية.
بشكل عام، الدول النامية التي تعاني من مستويات ديون مرتفعة ستلجأ إلى خفض إنفاقاتها على الخدمات الأساسية، لأن كلفة خدمة الدين ستأخذ حصّة أكبر من موازنات الدول. بحسب الأمم المتحدة، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، بدأت دول مثل الكاميرون، ليبيريا، موريتانيا، ميانمار ونيبال بهذه الإجراءات. وبحسب موقع debtjustice.org، الدول التي تدفع أكثر من 15% من إيراداتها على الديون وخدمتها، تواجه انخفاضاً بنسبة 3% في الإنفاق العام منذ عام 2019، وهذا الرقم من المتوقّع أن يرتفع في المستقبل مع تضخّم خدمة الدين بفعل ارتفاع الفوائد عالمياً. هذا الأمر سيخلق أوضاعاً اقتصادية صعبة في جزء كبير من الدول النامية، وسينعكس على الأوضاع المعيشيّة لسكّان هذه الدول، الذين لا يزالون يعانون أصلاً من نتائج جائحة كورونا على اقتصاداتهم.