عرض المقال السابق (راجع العدد رقم 200 من ملحق رأس المال) نبذة عن عدد من المنتديات التي نشرت الفكر النيوليبرالي مثل جمعية «جبل الحاج» إلى «اللجنة الثلاثية» و«جمعية بيلدبرغ». وكان ينقص هذه الجمعيات الدراسات المستقبلية والتوقّعات البيئوية التي تتفاعل مع الملتوثية الحديثة. الباحث الكندي مات أهريت أصدر ثلاثية في عامَي 2021 و2022 بعنوان «صراع الأميركيّتَين» شارحاً كيف تم تسخير الفكر العلمي لصالح أجندة سياسية، ثم لخص كل ذلك في مقال نشره على موقع The Canadian Patriot في 1 تموز 2022 بعنوان «انتقام الملتوثيين وعلم الحدود».
انجل بوليغان ــ المكسيك

في رحلة تشكّل البيئة الفكرية والمؤسسية للقرارات الغربية التي حكمت العالم خلال القرون الماضية وحتى الماضي القريب جداً، نجد أن في القرنين العشرين والحادي والعشرين امتداداً لأفكار تبلورت منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كالملتوثية ونظرية الريع، ولاحقاً الداروينية و«علوم تحسين النسل» أو ربما «التطهير العرقي» الذي اقتبسه النازيون في ما بعد. وروّاد الفكر الملتوثي كانوا مؤثّرين في السلطة وفي الجامعات ولا سيما كلّيات الاقتصاد، لكن منتديات الدمار الشامل روّجت هذه الأفكار لتخفيف عدد السكان ولاستدامة الأوليغارشيات المالية الحاكمة التي استطاعت سرقة معظم الثورات التي حصلت في القرنين الماضيين.

نادي روما
نادي روما: تأسس عام 1968 على يد الصناعي أوريليو بيتشيي وألكسندر كينغ مدير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD). ضمّ هذا النادي 100 عضو من كل أنحاء العالم. من بين الأسماء، هناك ميخائيل غورباتشوف، الأمير الحسن بن طلال، بيار اليوت ترودو رئيس وزراء كندا السابق ووالد رئيس الوزراء الحالي جاستين ترودو، الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز، ومهدي المنجرة الاقتصادي المغربي الراحل المختص في الدراسات المستقبلية. فكرته الأساسية، تحديد الإشكالية التي تواجه البشرية. لذا، يرى النادي أن مشكلات الفقر وتدهور البيئة والجائحات المرضية والجريمة والازدحام المديني لا يمكن معالجتها بشكل منفرد، لأنها مترابطة. وفي هذا السياق أصدر النادي دراسة عام 1970 تمهّد لمؤلف صدر لاحقاً بعنوان «الحدود للنمو» (The Limits to Growth) عام 1972. ركّز الكتاب على محدودية الموارد الطبيعية، مشككاً باستدامة نمط النموّ. ثم جاءت الأزمة النفطية عام 1973 لتزيد الاهتمام بالبيئة وبات الكتاب من أكثر الكتب البيئوية ترويجاً وبيع منه 30 مليون نسخة! ويشير الكتاب إلى أن التزايد السكاني بمعدّلات هندسية سيصطدم مع اضمحلال الموارد الأساسية. ورغم أن حقبات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الثالثة شهدت نمواً عالمياً في الإنتاج يدحض تقديرات النادي، إلا أنه خرج من يعتقد أن الواقع الذي نشهده في العقد الثاني من الألفية الثالثة يؤكّد هذه التوقعات. وبمعزل عن صحّة أو عدم صحّة تنبؤات النادي، إلّا أنه أثّر على العديد من صنّاع القرار في الدول الغربية، فتبنّوا صراحة أو ضمناً أفكاره. والخطورة تكمن في تمازج الفكر النيوليبرالي مع الملتوثية الجديدة التي أخدت الطابع «العلمي» من خلال استعمال المعادلات الرياضية لبلورة سياسات اعتمدتها الحكومات الغربية محلياً وفرضتها أيضاً على دول الجنوب الإجمالي، ولا سيما في ما يتعلّق بالبيئة. عبر «الحفاظ» على البيئة يتم إفقار الدول والمجتمعات.

المجتمع المفتوح
الأفكار التي يروّجها رجل المال المجري الأصل جورج سوروس هي أكثر تأثيراً وخطورة. سوروس اكتسب شهرته كمضارب ماهر في المال، وإنشاء الصناديق الاستثمارية مثل «كوانتوم فند». لكن شهرته أتت من تمويل مؤسّساته المعروفة بـ«المجتمع المفتوح» في العديد من الدول لنشر «الديموقراطية والحوكمة والعدالة والصحة والتربية» في دول أوروبا الشرقية بداية، ثم في دول الجنوب الإجمالي. هذه المؤسّسات موجودة في 37 دولة ومركزها الرئيسي في نيويورك، إنما هي موزّعة تحت عناوين جغرافية مثل مبادرة المجتمع المفتوح لغرب أفريقيا، وأخرى لجنوب أفريقيا، وأخرى معروفة باسم جامعة أوروبا الوسطى.
سوروس استثمر في هذه المؤسّسات بما يوازي 32 مليار دولار خلال العقود الأربعة الماضية، والميزانية السنوية ارتفعت إلى 1.2 مليار دولار. ترتكز هذه المؤسسات على مفهوم «المجتمع المفتوح» الذي أوجده في الثلاثينيات الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، وطوّره الفيلسوف النمسوي كارك بوبر في مؤلّفه الشهير بمجلّدين «المجتمع المفتوح وأعدائه». نُشر المؤّلف عام 1949 بعدما نشر الاقتصادي النمسوي فريدريش فون هايك مؤلّفه الشهير «الطريق إلى العبودية» الذي يعد منطلق الفكر النيوليبرالي. بوبر كان صديقاً ومرشداً لسوروس. كذلك الأمر بالنسبة للفيلسوف البريطاني برتراند راسل الذي يروّج أيضاً عن ملتوثية جديدة تتلازم مع الداروينية لبلورة سياسات تتفاعل مع هذه الرؤية.
ثمة من يعتقد أن وظيفة هذه المؤسّسات، الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم كما فعلت سابقاً مؤسّستي روكفلر وفورد. لكن مؤسسات سوروس اشتهرت بدعم ما يُسمّى المجتمع المدني، بالتنسيق مع المؤسسات التابعة لوزارة الخارجية الأميركية في الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي. وبمعزل عن «أحقيّة» أهداف هذه المؤسسات، إلّا أنها أفضت إلى زعزعة استقرار الدول وعملت على تغيير نظامها السياسي. ولا يخفي سوروس أفكاره حول دور الدولة الوطنية والدولة الأمة والعولمة. فهو يجسّد بامتياز أن المجتمع المفتوح لا يتكيّف مع الشعور الوطني والقومي وأنه لا بد من نقل السلطة إلى القوى التي تؤمن بالمجتمع المفتوح. كذلك لا يخفي عداءه للصين وروسيا لأنهما أعادتا الاعتبار إلى مركزية الدولة في التنمية والنمو وليس لحكم السوق وآلياته التي تؤدّي إلى التمركز والاحتكار. ففي المقابل، إن جوهر الفكر النيوليبرالي وتجلّياته في «المجتمع المفتوح»، يحصر دور الدولة بالحفاظ على العقود التجارية والاقتصادية والملكية الخاصة وليس في تحديد مسار الاقتصاد، أي أنها ليست معنية بحماية ثرواتها بل عليها ألا تمنع الشركات الكبرى الأجنبية (هنا المقصود الغربية فقط!) من الاستثمار (أي نهب ثروات الدول). ديموقراطية سوروس هي آلية لضرب التماسك الداخلي وزعزعة الدولة لصالح «انفتاح» إلى الخارج، ما يذكّر بحقبة «الانفتاح» الساداتية التي أدّت إلى ضرب إنجازات ثورة 23 يوليو وتكريس التبعية للغرب وللولايات المتحدة.
سوروس لا يرحم حتى الدول الغربية. فهو ضارب ضد الجنيه الإسترليني عام 1992 وحقق أرباحاً فاقت المليار دولار. وهو أيضاً كان وراء الحملة على عملات دول جنوب شرق آسيا عام 1997. واتّهمه رئيس ماليزيا آنذاك محمد محاذير، بالتحريض على تدمير الاقتصادات الآسيوية لصالح الشركات الكبرى. عداؤه للصين ولروسيا قد يكون على خلفية منعهما شركات سوروس من الاستثمار في المعادن والشركات الصينية الروسية. يحاول سوروس إضفاء بُعد نظري لفكره السياسي الاقتصادي عبر نظرية الانعكاسية (reflexivity theory) حيث تتفاعل الأسباب مع النتائج، وتصبح الأخيرة «أسباباً» لمرحلة ثانية. هذا هو جوهر الفكر الدوري (circular reasoning) الذي يحوّل وقائع قد تكون افتراضية أو غير قابلة للبرهان، إلى وقائع دامغة. المقصود أن سوروس يستند إلى جوهر الفكر النيوليبرالي مستحضراً الداروينية على قاعدة الملتوثية، أي أن صراع البقاء هو لصالح الأقوياء وأن كثرة الشعوب تهدّد الموارد التي يتنعّم بها الأقوياء. دور مؤسسات سوروس في تشجيع الثورات الملوّنة في الدول التي كانت في فلك الاتحاد السوفياتي، يتلاقى مع الثورات التي روّج لها جين شارب الأميركي في تشجيع مؤسسات المجتمع المدني للتمرّد على السلطات القمعية (على حد قوله!). ويحدّد موقع المؤسسة على الشبكة العنكبوتية أن المهمة الأساسية كانت التشجيع على التمرّد على الاتحاد السوفياتي، بينما هي اليوم نحو نشر الديموقراطية في روسيا والصين! وشارب نفى قبل رحيله عام 2018. سوروس لم يكن مؤيّداً للكيان الصهيوني كما يتصوّر البعض ولكن لم يكن معادياً له، بينما شارب استهدف زعزعة الدول العربية المعارضة للكيان، لذلك تعرّض سوروس، وهو يهودي، لانتقادات كبيرة من المحافل الصهيونية.

المنتدى الاقتصادي العالمي
المنتدى الاقتصادي العالمي: أنشأه كلوس شواب في مدينة كولونيي السويسرية عام 1971، ويُعرف بـ«منتدى دافوس». وهو من أخطر المنتديات التي تشكّلت في الغرب وما زالت مؤثّرة عند النخب الغربية الحاكمة و/ أو الطامحة للحكم في بلادها. والمرشد الفكري لشواب، هو هنري كيسنجر. يلاحظ تلازم التواريخ بين قرار إدارة نيكسون بقطع العلاقة مع الدولار، وما تلاها من تحوّلات أدّت إلى تسعير النفط بالدولار، بالإضافة إلى تلازم التواريخ مع اللجنة الثلاثية، والقرب من تاريخ إنشاء نادي روما، علماً بأن الدور الوظيفي لهذه المؤسسات يصبّ ضمن توجّه لضمان سيطرة الغرب على العالم. كما يلاحظ وجود نفس الأشخاص في هذه المنتديات.
كان اسمه في البداية منتدى الإدارة الأوروبية، ثم تحوّل عام 1987 إلى المنتدى الاقتصادي العالمي، إذ بات واضحاً أنه مع اقتراب انهيار المنظومة السوفياتية فإن إدارة العالم تحتاج إلى رؤية مشتركة يهيمن عليها الغرب. والمنتدى مموّل من نحو ألف شركة عالمية عملاقة لا يقل رأس مال الواحدة منها عن 5 مليارات دولار. ومساهمة هذه الشركات تُراوح بين 60 ألف و600 ألف فرنك سويسري. وهناك ثلاثة مستويات من الاشتراكات السنوية: الاشتراك الفردي 52 ألف دولار، والشريك القطاعي 252 ألف دولار، والشريك الاستراتيجي 527 ألف دولار. وتقدّر الميزانية السنوية بنحو 5 مليارات فرنك سويسري كل فرنك سويسري يساوي 1.03 دولار، لكن لم تنشر تقارير مالية سنوية للمنتدى ما يثير الشكوك حول هذا التعتيم المتعمّد الذي يشمل أيضاً آلية الإدارة واختيارها واتخاذ القرارات. كما أن المعلومات حول «أتعاب» المسؤولين في المنتدى تُفيد بأنها تُجاوز مليون فرنك سويسري سنوياً.
يدعو المنتدى كل سنة نحو ألف شخصية من النخب الحاكمة حول العالم التي تضمّ رؤساء سابقين، وزراء، سفراء، نوّاب، جامعيين، رجال أعمال في كل القطاعات، وإعلاميين وأخصائيين في تكنولوجيا التواصل بمختلف أشكاله. وهو أصبح أهمّ مؤسّسة دولية تروّج للعولمة كمنهاج سياسي واقتصادي وبيئوي وإن كان على حساب سيادة الدولة الأمة وخصوصيات الشعوب. ابتكر المنتدى قاعدة فكرية نظرية لتبرير ما يروّج له، وهي مبنية على نظرية رأس مالية صاحب المصلحة (stakeholder capitalism). تعريف «صاحب المصلحة» يغيّب «المجتمع» قصداً بما يتماهى مع ما قالته مارغاريت تاتشر أنه ليس هناك شيء اسمه «مجتمع» بل مجموعة أفراد. تاتشر قادت حملة تفكيك دور الدولة في العجلة الاقتصادية وكتابها المفضّل مؤلف فون هايك «الطريق إلى العبودية». وهذه النظرة هي امتداد لفكرة ميلتون فريدمان الذي اعتبر أن المسؤولية لرجل الأعمال هو إثراء المساهمين وليس المجتمع. النظرة للمجتمع وللإنسان هي نظرة سلبية كما يؤكّده «المفكّر» الإسرائيلي يوفال هراري كبير المستشارين لكلوس شواب. من سخرية المشهد أنّ المنتدى يزعم مكافحة الفقر عبر دعوة أثرياء العالم الذين يأتون بواسطة طائراتهم الخاصة. وقد أظهرت مجلّة «فوربس» منذ أكثر من سنتين، مدى انقطاع المنتدى ومشرفيه عن الواقع. هذه الصورة السلبية المتصاعدة للمنتدى، أجبرت رئيس وزراء المملكة المتحدّة بوريس جونسون، على منع وزرائه من حضور المنتدى الذي روّج للإجراءات التي تبنّتها الدول الغربية لمواجهة جائحة كورونا والتي أدّت إلى انكماش كبير في النشاط الاقتصادي العالمي وتضخّماً في الأسعار تفاقم لاحقاً بسبب المقاطعة الأوروبية لروسيا.
منتديات الدمار الشامل روّجت الأفكار الملتوثية والريع والداروينية لتخفيف عدد السكان ولاستدامة الأوليغارشيات الحاكمة التي سرقت معظم الثورات التي حصلت في القرنين الماضيين

المنتدى أيّد ذلك «دفاعاً عن الديموقراطية» وعن «خطورة التغيير في المناخ» الذي سببه الوقود الأحفوري (fossil fuels) كما جاء في أحد تقاريره. فالمنتدى من أهم مؤيّدي الحركات والأحزاب الخضر في أوروبا في حربها ضد الغاز والنفط والفحم، ويسهم في تسييس الحركة البيئوية وإن كان على حساب المجتمعات الغربية وعالم الجنوب أيضاً. فالمعروف أن الطاقة هي شرط ضرورة وكفاية لأي تقدّم في المجتمعات. وأي هجوم على الطاقة هو هجوم على تقدّم المجتمعات وحتى الحضارة. أحدث المنتدى ضجّة عام 2020 بسبب إعلان كلوس شواب برنامج المنتدى للحقبة المقبلة تحت عنوان المؤلف الذي أصدره «إعادة التعيين الكبير» (The Great Reset). منطلق الفكرة تلازم «صدفة» مع انتشار جائحة كورونا التي كشفت «عورات» النظام العالمي. وقد ألقى شواب محاضرة بمناسبة عقد الدورة الخمسين للمنتدى استعادت مضامين مؤلّفه وتتضمن ثلاثة أجزاء: خلق الظروف التي تؤدّي إلى تمكين صاحب المصلحة في الاقتصاد وجعل الاقتصاد لأصحاب المصالح، طريقة أكثر عدلاً واستدامة ومرونة، تسخير الإبداعات التكنولوجية التي ستوجدها الثورة الصناعية الرابعة لإحداث تنمية أكثر عدالة واحتراماً للبيئة و«أذكى». هذه الأجزاء تهدف إلى إعادة هندسة المجتمعات وفقاً لرؤية تعتبر أن الحكومة الوطنية فشلت، وأنه لا بد من هيئة أو حكومة عابرة للدول لا تخضع للتجاذبات السياسية الداخلية وتستطيع أن تأخذ القرارات المطلوبة التي يحدّدها العلم.
أين تكمن الخطورة في العناوين الجذّابة التي يطرحها منتدى دافوس؟ من الصعب أن نرفض مسبقاً مفهوم التنمية الأكثر عدلاً وخصوصاً إذا كانت مستدامة وأكثر رأفة بالبيئة. كما من الصعب اعتبار أداء الحكومات في العالم أداء يجدّد الثقة بها. لكن ما وراء هذه الشعارات، نظرة تشاؤمية بالبشرية عبّر عنها بوضوح كبير مستشارين شواب، يوفال هراري، الذي يعدّ فيلسوف المنتدى. وهذا الأخير ألقى محاضرة في أيار 2022 يشير فيها إلى وجود فائض سكان في العالم لا قيمة له بسبب الثورة التكنولوجية وخاصة مع الذكاء الاصطناعي الذي سيجعل من الإنسان الآلي (robot) يحلّ مكان العامل في الإنتاج الصناعي والزراعي. لذا، لا مبرّر لوجود بشر يأخذون من الموارد المتناقصة. هذه هي الملتوثية في أقصى تعبيراتها.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي العربي