«الدولرة» في لبنان ليست من أسباب الأزمة، بل هي كانت في الماضي وما زالت أحد نتائجها القديمة المتجددة. والحديث هنا ليس فقط عن الأزمة التي انفجرت في نهاية عام 2019، بل هو تعبير عن الأزمة وتراكماتها منذ التسعينيات، وربما قبل ذلك. وبحسب الكاتب المؤرّخ هشام صفي الدين، تعود «الدولرة» إلى النصف الثاني من الثمانينيات عندما بدأت موجات الانهيار تتراكم على قيمة الليرة وتتوالى على البلد. في تلك الحقبة، وبعدما خسر الناس ثرواتهم المقوّمة بالليرة، سواء كانت على شكل ودائع في المصارف أو أموال متداولة، بدأ الاقتصاد يتحوّل نحو بديل من الليرة، فانتشرت ظاهرة الودائع المقوّمة بالدولار، وهي أحد أوجه «الدولرة».
(ناير طلال ناير ــ أثيوبيا)


«الدولرة» أنواع
«الدولرة» هي كلمة كثيرة التواتر عند الحديث عن الاقتصاد اللبناني، إلا أن معناها المباشر غير مطروح بشكل واضح. فكثيراً ما يقال أن الاقتصاد اللبناني «مدولر». لكن ماذا يعني أن يكون الاقتصاد «مدولراً»؟ «الدولرة» هي عندما يستعمل الفاعلون الاقتصاديون في بلد ما عملة أخرى سائدة إلى جانب عملتهم المحليّة، ورغم أن الكلمة تُنسب إلى الدولار، إلا أنها قد تحدث مع أي عملة أجنبية. وقد انتشر مصطلح «الدولرة» بكثافة في الثمانينيات، عند تشخيص اقتصادات دول أميركا اللاتينيّة التي عانت حينها من أزمات ديون متتالية أدّت إلى أزمات ماليّة فيها. فقدراج في هذه الدول استخدام الدولار في معاملاتها الاقتصادية (من ضمنها معاملات الادّخار). ولقياس هذه العملية، لجأ بعض الاقتصاديين إلى إجراء مقارنة بين نسبة التعاملات الاقتصادية الجارية بالعملة الأجنبية، مع التعاملات الجارية بالعملة المحلية. ولعل أكثر المعاملات الاقتصادية التي يمكن ملاحظتها بدقّة هي المدخرات في المصارف. لذا تعدّ نسبة الودائع المعتَمَدة بالعملات الأجنبية، من إجمالي الودائع الموجودة لدى المصارف، مؤشراً مهماً لقياس مدى «الدولرة» في الاقتصاد.

مبدئياً، هناك نوعان من «الدولرة»
النوع الأوّل يهدف إلى استبدال الأصول، بمعنى استبدال وظيفة النقد كأصل حافظ للقيمة. ويتجه الفاعلون الاقتصاديون إلى هذا الخيار، عندما تصبح الظروف الاقتصادية التضخميّة، عائقاً كبيراً أمام قدرة العملة المحليّة على الاحتفاظ بقيمة الثروة، فيصبح الملاذ الآمن لهم، نقل ثرواتهم إلى العملة الأجنبية الأكثر استقراراً. بهذه الطريقة تستخدم «الدولرة» كأداة للهروب من المخاطر التي قد تتعرض لها وظيفة العملة المحليّة كحافظة للقيمة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أما النوع الثاني، فيهدف إلى استبدال العملة المحلية كوسيلة للتبادل التجاري، وهو ما يحدث عندما تصبح مخاطر تغيّر قيمة العملة المحليّة كبيرة جداً، وقد تتسبب لأطراف المعاملات بخسارات كبيرة. في هذه الحالة يتجه الفاعلون الاقتصاديون إلى اعتماد وسائل تبادل بديلة عن العملة المحليّة، لأنها تمتاز بأن مخاطر اعتمادها أقل من مخاطر العملة المحلية، وغالباً ما تكون العملات الأجنبية هي تلك الوسائل. المشكلة في هذا النوع من «الدولرة»، أنه عند دخول الاقتصاد في هذه الحالة، تُصبح العودة إلى العملة الوطنية صعبة جداً.
إلا أنّ الفصل بين مدى «الدولرة»، أو نسبتها، مهم أيضاً. فالدولرة قد تكون تحت الأمر الواقع (de facto)، أي أنها لم تنظّم بقرار رسمي. في هذه الحالة تكون محدودة، تجري على أرض الواقع من دون أن تكون مقَوْننة. ويمكن «للدولرة» أن تكون شاملة، وفي هذه الحالة تتخلّى الدولة عن عملتها وتقوم بالانتقال كلياً إلى العملة الأجنبية، فتصبح إيراداتها من جباية الضرائب والرسوم والاشتراكات كلها بالعملة الأجنبية، وتتحوّل كل ديونها إلى العملة الأجنبية.

من مظاهر الأزمة
الدولرة في لبنان ليست ظاهرة جديدة، بل هي تعود إلى ما قبل بداية نظام الطائف، وهي كانت دائماً تعبر عن استبدال الليرة كأصل يحفظ القيمة بعملة أخرى، وبدرجة أقل كانت استبدالاً لليرة كوسيلة للتبادل التجاري. وهناك عوامل سهّلت حصول «الدولرة»، مثل التدفقات الماليّة التي تأتي من الخارج، سواء من المغتربين أو من المودعين الأجانب، بالإضافة إلى كون الاقتصاد اللبناني اقتصاداً مفتوحاً، أي أن حساب رأس المال فيه محرَّر، كما أن عملية التحويل من الليرة إلى الدولار مضمونة، و لم تكن يوماً مكلفة. والكلفة في عمليات التحويل بين العملات تكون عادةً من خلال العمولات التي تأخذها الدولة من كل عملية تحويل، ما يعني أن الدولة كانت تسهّل عمليات التحويل بين العملات. كل هذه الأمور جعلت وصول الدولار إلى أيدي العامة وإلى حسابات المقيمين في لبنان أمراً سهلاً أرسى التداول بالعملة الخضراء.
لكن عوامل تسهيل التعامل بالدولار ليست كافية لدفع الاقتصاد إلى التخلّي عن الاعتماد على العملة المحليّة. فكان دائماً، العامل الذي يدفع الاقتصاد نحو ظاهرة «الدولرة»، هو تدهور قيمة الليرة. ففي النصف الثاني من الثمانينيات، شهدت العملة اللبنانية دورات متتالية من الانخفاض في قيمتها، ما أدّى إلى خسارة اللبنانيين قيمة ثرواتهم ومدخراتهم التي كانوا يحتفظون بها بعملتهم الوطنيّة، كما أدّى ذلك إلى خسارة الموظفين قيمة أجورهم في ظل اقتصاد يعتمد بالدرجة الأكبر على الاستيراد. هذه الأمور، بالتوازي مع العوامل المسهّلة للتداول بالدولار، أدّت إلى لجوء اللبنانيين إلى العملة الأميركيّة، أولاً، للحفاظ على قيمة ثرواتهم، وثانياً، لتقليل المخاطر في المعاملات الاقتصادية.
واستمرّت ظاهرة «الدولرة» في الاقتصاد اللبناني حتى بعد انتهاء مرحلة التخبّط النقدي لغاية مطلع التسعينيات، وحتى بعدما أطلق مصرف لبنان مشروع تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار (التي بلغت أقصاها في عام 1997، عندما تم تثبيت سعر الدولار على 1507.5 ليرة لبنانية). هذا الأمر كان يعني أن انعدام الثقة بالليرة اللبنانية، الذي ساد في نهاية الثمانينيات بسبب ظروف الانهيار الذي شهدته قيمتها، لم ينتهِ مباشرة بعد تطبيق اتفاق الطائف. وهذا الأمر هو تطبيق للنظريّة التي تقول أن «الدولرة» كوسيلة لاستبدال العملة وكأداة للتبادل هو أمر يصعب التخلّص منه. لذا، يمكن القول أن «الدولرة» لم تكن سبباً في الأزمة، بل كانت أحد مظاهرها، ولم يكن الحل الذي أتى بعد نهاية الحرب، حلاً اقتصادياً يعيد القيمة لليرة بشكل حقيقي بدليل أن السوق لم تُظهر ثقة بالليرة على مدى العقود الثلاثة التالية لسريان نظام الطائف، وما يوضح ذلك هو تمسّك الأفراد والمؤسسات بالحرص على حماية ثرواتهم من خلال اللجوء إلى الدولار بدلاً من الليرة اللبنانية.
لو بُني، في ذلك الوقت، اقتصاد لبناني منتج، يخفف عجز الميزان التجاري من خلال زيادة الإنتاج المحلّي ويعطي استقراراً حقيقياً لليرة، لربما كانت تقلصت نسبة التعاملات التجارية بالدولار، وبالتالي تراجعت نسبة الادخار بالعملة الأجنبية. بدلاً من ذلك، كانت الحلول التي أتت بعد الحرب، قائمة على توسيع الفجوة في الميزان التجاري، من خلال تثبيت سعر الصرف، وبالتالي زيادة الاعتماد على الدولار في الاقتصاد. فالمودع يعرف أن أي انخفاض في قيمة الليرة، يعني أنه سيفقد قدرته الشرائية بشكل مساوٍ لانخفاض الليرة، لأن معظم الاستهلاك في البلد قائم على الاستيراد (تشير التقديرات إلى أن 90% من الاستهلاك مستورد). لذا، فضّل المودع أن يبقي على مدّخراته بالدولار لتجنّب هذه الخسارة (بيد أنه لم يتوقّع أن المصارف ستسيء إدارة الودائع بالشكل الذي حصل، ولهذا الأمر بحث آخر).
التخلّي عن السيادة النقدية يعني الغرق في المزيد من التبعيّة الخارجية على عمق يُجاوز التبعيّة التي وضعنا فيها نظام تثبيت العملة


وفي المرحلة الأخيرة، أي منذ انفجار الأزمة في نهاية عام 2019، لم يعد إجراء المعاملات التجارية بالدولار في السوق أمراً سهلاً، لأن سعر الدولار مقابل الليرة أصبح كثير التقلّب. بمعنى أنه لم يعد أمراً سهلاً تسديد الحساب في مطعم أو في المحلات التجارية بالدولار (في معظم الحالات) بسبب صعوبة الاتفاق على سعر الصرف بين الزبون وصاحب المحل، وذلك لأن سعر الصرف يتغيّر كل نصف ساعة تقريباً. السبب وراء ذلك كله أن التسعير للمستهلك بالدولار لم يكن مقونناً رغم أنه قبل الأزمة كان التسعير بالدولار رائجاً من دون أن يمثّل مشكلة فعليّة في ظل سعر الصرف ثابت. بل كان متاحاً للجميع تحويل الدولار إلى ليرة والليرة إلى دولار على سعر الصرف الثابت. لكن في الفترة الأخيرة برزت ظاهرة جديدة في الأسواق، وهي العودة إلى التسعير بالدولار، وكان أبرزها إصدار وزير السياحة قراراً بالسماح للمؤسسات السياحيّة بتسعير سلعها وخدماتها بالدولار. فقد فتح هذا القرار باباً أمام كل المؤسسات لاعتماد هذا الإجراء. وبالتالي نشّط انتقال «الدولرة» من هدف استبدال الأصول إلى استبدال العملة كأداة لإجراء المعاملات التجارية، وهي خطوة يصعب التراجع عنها.

تخلٍّ عن الاستقلاليّة
تتعدد الأبحاث والدراسات التي حاولت تحديد ما إذا كانت الدولرة، بما فيها الدولرة الشاملة، مفيدة للاقتصاد أم لا. والنتائج تختلف بين تلك الدراسات، فمنها ما يقول أن انعكاسات «الدولرة» على الاقتصاد غير مؤثّرة، إذ إن الاقتصادات المدولرة لم تشهد نمواً اقتصادياً إضافياً قياساً إلى الدول التي يمكن مقارنتها معها. مثل ما فعل سيباستيان إدواردز في ورقته «الدولرة والأداء الاقتصادي»، حيث أظهر أن بنما، الدولة التي اتجهت إلى «الدولرة» الشاملة، لم تشهد نمواً إضافياً في اقتصادها، بين عامَي 1970 و1998، مقارنة مع الدول المرجعيّة غير «المدولرة»، كما أن الصدمات الخارجيّة كان لها أكلاف أكبر على الاقتصاد «المدولر» في بنما. في المقابل تظهر دراسات أخرى أن الدولرة ساعدت بعض الدول في السيطرة على التضخّم.

الدولرة في لبنان ليست ظاهرة جديدة، بل تعود إلى ما قبل بداية نظام الطائف، وهي كانت دائماً تعبر عن استبدال الليرة كأصل يحفظ القيمة بعملة أخرى


واقعياً «الدولرة» الشاملة تعني التخلّي عن دور السياسة النقدية الوطنية في أي بلد. إذ يفقد المصرف المركزي دوره كمموّل أساسي للاقتصاد، كما يفقد فعالية أدواته النقدية، التي يمكن من خلالها أن يحفّز السوق ويحقق أهداف معدلات التوظيف التي يضعها كل سنة. ويفقد المصرف المركزي كذلك ورقته الأقوى وهي أرباح صك العملة (Seigniorage)، أي الأرباح التي يحققها البنك المركزي، بصفته محتكراً لوظيفة إصدار النقد (بشكل مبسّط، هي الفرق بين كلفة طباعة الورقة النقدية وقيمتها الحقيقيّة).
والأهم من كل ذلك، تعني «الدولرة» الشاملة التخلّي عن السيادة النقدية بشكل كامل. فمن أهم عوامل سيادة أي بلد هي السيادة الاقتصادية، التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون السيادة النقدية. بحسب تعريف روبرت ماندل، الأب الروحي للسياسات الاقتصادية للرئيس الأميركي الأسبق ريغان، أو ما يعرف بـ«Reaganomics»، فإن السيادة النقدية هي عبارة عن الحق في تحديد ما يشكّل وحدة الحساب في تحديد الأسعار، والحق في تحديد وسائل الدفع، وأخيراً الحق في إنتاج النقود، أو تحديد الظروف التي بموجبها سينتجها الآخرون. هذا التعريف يعود إلى رجل يُعد في أقصى يمين الرأسمالية. في الواقع، إن الاتجاه إلى «الدولرة» الشاملة يعني التخلّي عن الحقوق المذكورة بكليتها. والتخلّي عن السيادة النقدية يعني، بطبيعة الحال، الغرق في المزيد من التبعيّة النقدية، على عمق يُجاوز التبعيّة النقدية التي وضعنا فيها نظام تثبيت العملة.