«القدر أو الحضارة» (Destiny or Civilization) هو عنوان الكتاب الأخير للأستاذ المميّز في الاقتصاد مايكل هدسون، في جامعة كنساس سيتي في ولاية ميسوري الأميركية والذي صدر في أيار 2022. وهو عبارة عن سلسلة من المحاضرات التي ألقاها في جامعات صينية خلال العقد الماضي لمقاربة المشهد الاقتصادي العالمي وتحوّلاته الجارية. فهو من القليلين الذين تنبّؤوا بالتراجع الاقتصادي للولايات المتحدة في كتاب أصدره سنة 1972 عندما شخّص الأزمة البنيوية التي تعصف بالولايات المتحدة منذ ذلك الحين. في السنة الماضية تمّ إصدار الطبعة الثالثة منه بعنوان «الإمبريالية العظمى» أو (Super Imperialism). اكتشفنا هذا الاقتصادي منذ بضع سنين، ونتابع كتاباته ومداخلاته الصوتية المرئية على العديد من المواقع في الإعلام المستقلّ، أي غير الخاضع للشركات، ونلتقي معه في العديد من الآراء والمواقف، وخصوصاً لجهة تحليل الأزمة البنيوية الاقتصادية في الولايات المتحدة التي نكتب عنها منذ نحو عشرين عاماً.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

ليس الغرض إعادة عرض أفكار هادسون، بل تأكيداً لمسار مواجهة الأزمات التي تعصف بلبنان والوطن العربي، وفي العالم أيضاً. فالتبعية الاقتصادية للولايات المتحدة أو الغرب هي وباء على الجميع. وقيمة كتابات هدسون تكمن في توثيق ما أقدم عليه الغرب للسطو على موارد العالم عبر ترويج لفكر اقتصادي مزيّف كنظرية التجارة الحرّة لمنع حماية اقتصادات الدول الناشئة لثرواتها. فهي تهدف إلى تشريع عملية السطو والنهب عبر ابتكار مفاهيم كالتفوّق النسبي (comparative advantage) لفرض التخصّص في تصدير السلع الخامة لدول المركز، أي الغرب، واستيراد المواد المصنّعة منه، وبالتالي اقتناص القيمة المضافة عبر أسعار بخسة للسلع الخام المصدّرة، مقابل ارتفاع أسعار السلع الصناعية المستوردة.
الجدل القائم بين الدول الناشئة والدول الصناعية، يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية بعدما فضح الاقتصادي الأرجنتيني راوول بريبيش، الظلم في أسعار التصدير والاستيراد لمصلحة الدول الصناعية. ففي مقال شهير نُشر في عام 1947، برهن بريبيش كيف تهدف التجارة الحرّة المزعومة إلى اقتناص القيمة المضافة من الدول النامية. وهذه المعركة ما زالت قائمة، إنما دخلت مرحلة جديدة بعد إنشاء المنظمة العالمية للتجارة في إطار الجهود لتكريس العولمة عبر السماح للشركات العملاقة باستيلاب الثروات من الدول الناشئة من دون قيد وشرط. فهي تستند إلى هيمنة الدولار في تسعير السلع الاستراتيجية الأكثر تداولاً كالنفط والغاز والقهوة والقمح والصلب... وهذا ما يجعل الطلب على الدولار من دون أي سقف، ويسمح تالياً، للولايات المتحدة، بتمويل العجز في ميزانها التجاري وفي موازنتها الداخلية.
لكن ما حصل أيضاً هو تغيير كبير في بنية النظام الرأسمالي في الغرب وفي بنية الاقتصاد بحدّ ذاته وخاصة في الولايات المتحدة. يمكن القول إن الولايات المتحدة قرّرت عمداً ترك قاعدة الإنتاج الصناعي، سواء في الصناعات الثقيلة كصناعة الصلب والحديد، أو الصناعات التحويلية، وتوطينها خارج أميركا التي تحوّلت إلى اقتصاد خدمات ويرتكز على الخدمات المالية عبر السيطرة على شرايين المال في العالم بفعل هيمنة الدولار في التجارة الدولية ونظام المدفوعات.
هنا لا بد من وقفة في تاريخ هذه التطوّرات. فمنذ مطلع الستينيات، بدأت أزمة نظام المدفوعات الدولية، إذ إن كمية الدولارات المتداولة حول العالم لم تكن كافية، وخصوصاً في ظل منافسة العملات الأخرى كالجنيه الإسترليني والمارك الألماني والفرنك السويسري. لم تكن أيّ من هذه العملات متداولة بشكل كاف حيث العرض والطلب عليها في توازن ويكفيان فقط لسد الحاجات التمويلية الدولية الثنائية وليس لنظام عام. آنذاك كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول يدعو إلى نظام دولي يستند إلى الذهب، لأنه كان يخشى منذ تلك الفترة هيمنة الدولار على التجارة الدولية ونظام المدفوعات الدولية، ما يضع الولايات المتحدة في موقع المركز ويقوّض حرّية التحرّك لمعظم الدول، أي يجعلها تابعة لقراراتها ولسياساتها. يومها اقترح الرئيس الفرنسي العودة إلى نظام يرتكز على الذهب كي يربط حجم النقد بحجم الذهب الموجود في احتياط كل دولة.
طبعاً، لم توافق الولايات المتحدة على ذلك واستطاعت الإطاحة بالرئيس الفرنسي في ما سُمّي آنذاك بالربيع الفرنسي سنة 1968. وفي عام 1970 توفّي الرئيس الفرنسي، ثم في عام 1971 أقدم الرئيس الأميركي على قطع العلاقة بين الدولار والذهب. وفي عام 1972 رُفعت أسعار برميل النفط بمبادرة شاه إيران وبمباركة الإدارة الأميركية، وتبعتها الدول العربية المنتجة للنفط. ثم كانت حرب تشرين 1973 التي استعمل فيها العرب، لأول وآخر مرّة، سلاح النفط في مواجهة الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين. وبنتيجة الحرب، تمّت بالصفقة بين الحكومة الأميركية، وحكومة بلاد الحرمين على تسعير برميل النفط بالدولار مقابل تأمين «حماية» بلاد الحرمين، كما تمّ التعهّد بعدم استعمال النفط كسلاح أو وسيلة ضغط على الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.
منذ ذلك الحين استطاعت الولايات المتحدة تدوير الفوائض المالية الناتجة عن التجارة الخارجية والتدفقات المتراكمة عند الدول، عبر الإيعاز إليها بشراء سندات الخزينة الأميركية. وبهذه الطريقة استطاعت الولايات المتحدة تمويل عجزها في الميزان التجاري وفي موازنتها العامة عبر طباعة الدولار وطباعة السندات. ولم تتجرّأ أي دولة على الاعتراض وإلا لواجهت غضب الولايات المتحدة. الرئيس صدّام حسين تمّ احتلال بلاده وثم قتله لأنه تجرّأ على المطالبة بتسعير النفط بسلّة من العملات وليس بالدولار. كذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس معمّر القذافي الذي طالب بتحويل العملة الأفريقية إلى عملة تستند إلى الذهب. وأخيراً، أقدمت الولايات المتحدة على مصادرة أموال الدول التي تختلف معها كالجمهورية الإسلامية في إيران، وليبيا، وأفغانستان، وأموال أكبر دولة نووية في العالم، أي روسيا. هذه البلطجة الاقتصادية السياسية وصلت إلى طريق مسدود. فروسيا ومعها الصين والعديد من دول عالم الجنوب الإجمالي لم تعد قادرة على تحمّل هذه البلطجة، ما دفعها إلى الإقدام منذ فترة على دراسة منظومة مدفوعات جديدة تتجاوز الدولار.
لذا، أصبحنا على أبواب مرحلة جديدة في النظام الدولي على الصعيد السياسي والاقتصادي والمالي. فالنظام الجديد المرتقب سيكون متحرّراً إلى حد كبير من الإملاءات الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص. كما أن النموذج الاقتصادي للنظام الجديد يرتكز على اقتصاد إنتاجي من دون أن يقع في فخّ الاقتصاد الريعي المالي. وعلى الصعيد المالي والنقدي سيفقد الدولار هيمنته، وكذلك شرايين المال التي كان يسيطر عليها ويفرض من خلالها إملاءاته على العالم.
والاقتصاد الإنتاجي لا يمكن أن يتماهى مع مبادئ الاقتصاد النيوليبرالي الذي يقضي على الطبقة الوسطى لصالح الطغمة المالية الحاكمة. فالنظام النيوليبرالي يتناقض مع الديمقراطية رغم الادّعاء العكسي، إذ إنه لا يستطيع تحمّل الرأي الآخر الذي يمكن أن يفرض المساءلة والمحاسبة. والنظام النيوليبرالي يعتمد على سيطرة الأسواق المالية فقط لرسم القرارات والسياسات، بينما الاقتصاد الإنتاجي باستطاعته أن يتساكن مع التخطيط المركزي الذي يحدّ من فرص التجاوزات التي يفرزها اقتصاد السوق المطلق. أما التنافس الحرّ المطلق فيفضي إلى خلق التمركز الاقتصادي ثم الاحتكارات، وبعدها نحو التحوّل إلى اقتصاد ريعي، وصولاً إلى النيوليبرالية التي تقضي على الديمقراطية والمشاركة. الاقتصاد الإنتاجي بحاجة إلى طبقة وسطى وهذه لا يمكن أن تستمر في ظل الاقتصاد الريعي الذي تفرضه النيوليبرالية. النيوليبرالية والاقتصاد الريعي وجهان لعملة واحدة والنظام المسيّر لنظام سياسي تحكم فيه أقلية أوليغارشية وتقضي على الطبقة الوسطى.
عنوان الصراع القائم بين روسيا والأطلسي بقيادة الولايات المتحدة هو التخلّي عن التصنيع. فالولايات المتحدّة تفرض على أوروبا التخلّي عن التصنيع عبر فرض قطع العلاقة مع روسيا التي تزوّد أوروبا وخاصة ألمانيا بالطاقة بأسعار بخسة تجعلها على قدرة كبيرة من التنافس. وقطع العلاقة مع روسيا، بالنسبة إلى أوروبا، يعني التخلّي عن التصنيع، بما يعنيه ذلك لجهة التخلّي عن الطبقة الوسطى وتوسيع الفجوة الاقتصادية بين مكوّنات الدول. والإفقار المتعمّد يتلازم مع حرب على القيم والرموز الثقافية لجعل المجتمعات الأوروبية مجتمعات استهلاكية بلا هُوية، والتمسّك بتاريخها وتراثها لمصلحة عالم خارج إطار الهوية الوطنية والثقافة والحضارة. الاستهلاك هو عنوان الثقافة الجديدة التي تروّجها العولمة. الحكومة غير المنتخبة التي تشكّلها اللجنة العليا للاتحاد الأوروبي هي النموذج المثالي لحكومة عابرة للدول لا تأخذ في الحسبان مصالح الدول الأعضاء وتتصادم مع موروثها الثقافي. التصنيع هو ضمانة وجود طبقة وسطى متمسّكة بتاريخها وتقاليدها. العولمة كما يفهمها النيوليبراليون تلغي كل ذلك.
من هنا نفهم تشجيع سياسات الهجرة الوافدة إلى أوروبا من قبل الدول الأفريقية والآسيوية التي تضغط نزولاً في مستوى الرواتب والأجور والتي تسمح بتفكيك الاتحادات العمّالية التي تحمي حقوق العمّال. والتشجيع الأوروبي يعود إلى السبعينيات وهو مستمر رغم الاعتراض المتزايد من قبل شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية التي تعيش حال الضيق الاقتصادي. فالذرائع الثقافية والدينية أصبحت مادة صناعة الكراهية ضدّ الآخر في الغرب، وتجلّى ذلك في العنصرية التي انفجرت في تغطية أحداث أوكرانيا والتي «استغربت» القتال بين أصحاب البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرقاء. فأوكرانيا أوروبية وليست دولة «غير متحضّرة» كسوريا والعراق وأفغانستان!
ما نشهده اليوم في الولايات المتحدة، هو إرهاصات الصراع بين النيوليبرالية التي اتّخذت سلوك الفاشية عبر إلغاء الرأي الآخر، وبين معاقل مجموعات تدافع عن الاقتصاد الإنتاجي والتي تلاقي صدى كبيراً عند قسم كبير من الأميركيين. من هذه الزاوية يمكن فهم نجاح الرئيس السابق دونالد ترامب في استقطاب ما يوازي نصف الأميركيين، وما زال حتى الساعة. ومن هنا أيضاً، نرى شراسة عداء النيوليبراليين الذين يمثلهم الحزب الديمقراطي للرئيس السابق وخطابه السياسي. وما يساعد الرئيس الأسبق هو تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة وترهّل البنى التحتية وتفاقم الاضطرابات الاجتماعية الناتجة عن موروث ثقافي قديم تجاه الأقلّيات، وعن مجموعة من القيم الجديدة التي يريد الحزب الديمقراطي فرضها على الأميركيين.
الولايات المتحدة تفرض على أوروبا التخلّي عن التصنيع، عبر فرض قطع العلاقة مع روسيا التي تزوّد أوروبا وخاصة ألمانيا بالطاقة بأسعار بخسة تجعلها على قدرة كبيرة من التنافس


والترهّل في المشهد الاقتصادي يعكس الترهّل الذي حصل في الفكر الاقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع التنظير الفكري لعودة الريع وإعادة تأهيله، فحلّ محلّ الفكر الاقتصادي الكلاسيكي المرتكز على آليات السوق في تحديد العرض والطلب، إذ إن الاقتصاد الريعي أصبح هدفاً أخلاقياً، وبات رؤساء الشركات الذين يتقاضون رواتب ومخصّصات فلكية أقرب إلى الريع، تصبح مشروعة لأنها تعود لأشخاص أكثر «إنتاجية». هكذا تتفاقم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي تلغي الطبقات الوسطى والتي شكّلت عبر التاريخ صمام الأمان للاستقرار المجتمعي. والشركات الصناعية أصبحت ملكيتها للشركات والمؤسّسات المالية. وتغيّر مفهوم الاستثمار من إنفاق على توسيع القاعدة الإنتاجية، إلى إنفاق على رفع سعر السهم عبر الاستثمار في الأسواق المالية بدلاً من الاقتصاد العيني. أما الأفق الزمني الذي يتحكّم بالقرار التنفيذي لدى المسؤولين في الشركات فلم يعد يتجاوز 3 أشهر، وهي الفترة التي يبني عليها المحلّلون الماليون تقييم أسعار الأسهم وتوجّهاتها ارتفاعاً أو نزولاً أو ركوداً. لم يعد التخطيط المتوسّط والطويل الأجل مرتكزاً على سياسات الاستثمار، وبالتالي فقدت الشركات المنتجة تفوّقها في الإنتاجية والتنافسية، ثم جاءت عملية التفكيك الصناعي (deindustrialization) في الولايات المتحدة الذي بدأ منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي في لبنان