قبل الأزمة، كان هناك شبه إجماع على أنّ فاتورة الإنفاق الحكومي على الصحة في لبنان كبيرة وأنها موزّعة بشكل متفاوت وعبر قنوات مشتّتة تعزّز الزبائنية والفساد. وفي التقارير الصادرة عن وزارة الصحة اللبنانية بشأن حسابات الصحّة الوطنية، فإنّ الإنفاق على الصحّة بلغ في 2019 ما نسبته 7.7% أو ما قيمته 6238 مليار ليرة. في حينه، كان هذا الرقم يُساوي 4.13 مليار دولار، وكان نصيب كل لبناني، أي باستثناء السوريين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، يبلغ 1372 دولاراً سنوياً، أما مع احتساب السوريين النازحين والفلسطينيين، فإنّ نصيب كل مقيم على الأراضي اللبنانية من هذا الإنفاق بلغ 1040 دولاراً.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أنقر على الرسم البياني لتكبيره

حالياً، تبدو النفقات السابقة ونصيب الأفراد منها كأنها مجرّد حلم، أو ذاكرة مشوّشة لروايات مشتبه في دقّتها. فالتقديرات الصادرة في التقرير الأخير الصادر عن منظمة العمل الدولية بعنوان «الحماية الاجتماعية حول العالم 2020 -2022»، تُشير إلى أنّ الإنفاق على الصحّة في لبنان، تدنّى إلى 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي مع مرجعية الأرقام لصندوق النقد الدولي. وإذا احتسبنا أنّ الناتج مقدّر بنحو 18 مليار دولار في الخطّة الحكومية التي وافق عليها صندوق النقد الدولي، فإنّ حجم الإنفاق الفعلي على الصحّة يكون قد بلغ 756 مليون دولار. وبذلك يكون نصيب المقيم الواحد في لبنان (لبنانيون وسوريون وفلسطينيون) قد تدنّى إلى 126 دولاراً، أي بما نسبته 88%.
في السابق كانت عملية توزيع الـ4.13 مليار دولار مشتّتة عبر مجموعة من الصناديق الضامنة أكبرها وزارة الصحة والضمان الاجتماعي يُضاف إليها الصناديق العسكرية ثم تعاونية موظفي الدولة وصناديق التعاضد للقضاة والمعلمون وسواهم من الصناديق التعاضدية وشركات التأمين. كان تعدّد الصناديق الضامنة مساراً لتعزيز الزبائنية ومحور انتقاد دائم حول ضعف فعالية الإنفاق وتصنيف أولويات الرعاية الصحية لفئات طائفية ومذهبية وحزبية على التصنيفات الصحية المعتمدة عالمياً. لكن بالنظر إلى ذلك الواقع، وبسبب غياب إدارة الأزمة، قد يبدو ظاهرياً أن ما سبق لم يكن واقعاً مُرّاً رغم كل التفاوت في عملية التوزيع وطبيعتها الزبائنية. فهذه الأزمة تكشف عن طبيعة حاقدة لقوى السلطة في مواجهة تبعات الأزمة وفي قيادة الجماهير بشكل عام. إذ لم يعد يكفي أن الانهيار أطاح بقنوات الزبائنية ودمّر بنيتها الفعلية وخفّض قدرتها المالية، بل أصرّت القيادة السياسية على الاستمرار في عمل هذه القنوات وكأن شيئاً لم يكن بلا أي تصحيح وبلا أي دراسة.


في السياق نفسه، كانت قنوات التغطية الأوسع، أي التغطية الاجتماعية تعمل بواسطة الزبائنية أيضاً. ورغم أن ظاهرة الفقر المتعدّد الأبعاد اجتاحت لبنان بعد الانهيار، إلا أن القيادة نفسها استمرّت على المنوال السابق. كان يمكن أن تعوّض التغطية الاجتماعية ولو جزءاً بسيطاً من فقدان التغطية الصحية، لكن الأمر أصبح أسوأ. ففي 2022 كانت التغطية الاجتماعية في أدنى مستوياتها. مستوى الهشاشة في هذه التغطية يكشف عن انتشار الفقر المتعدّد الأبعاد ومخاطره المستقبلية. على رغم انخفاض عديد القوى العاملة في لبنان ونسبتها من السكان، إلا أن التغطية ظلّت ضمن حدود الإنفاق الكبير ضمن الحدّ الأدنى من الاستفادة. الإنفاق على التغطية الاجتماعية في لبنان بلغ 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن بحسب منظمة العمل الدولية فإن 13.9% فقط من السكان في لبنان لديهم هذه التغطية (باستثناء التغطية الصحية)، وهي لا تشمل سوى 32.7% من الأطفال، و9.8% من المسنين. أما بالنسبة للأشدّ فقراً، فإن 1.7% فقط منهم، لديه تغطية اجتماعية. كما أن 4.6% من العمال فقط لديهم تغطية التقاعد.
هذه الأزمة تكشف عن طبيعة حاقدة لقوى السلطة في مواجهة تبعاتها

ففي الأردن، البلد ذو الاقتصاد المنهار الذي يشبه اقتصاد لبنان بعدد سكان مشابه أيضاً، فإنّ 27.8% من السكان لديهم تغطية صحية من مصدر واحد على الأقل، و60% من المسنين لديهم تغطية اجتماعية، و23.6% من العمال لديهم تغطية تقاعد. في لبنان يكاد يكون المجتمع بلا أي نوع من التغطية الاجتماعية، وذلك ما عدا الانهيار في التغطية الصحيّة.