العمالة الماهرة وغير الماهرة تكمل بعضها البعض في عملية الإنتاج. ففي سياق ندرة العمالة الماهرة ووفرة العمالة غير الماهرة، كما هو الحال في لبنان وفي الكثير من البلدان النامية، يكون لهجرة العمالة الماهرة تأثير سلبي قوي على إنتاجية العمل وتراجع الأجور، ما يحرم هذه البلدان من المنافسة الاقتصادية والتنمية المستدامة التي توفّرها فئة الشباب، ويخلق اختلالاً في البنية الديموغرافية ليصبح المجتمع بنسبة كبيرة أكثر شيخوخة.بُني الاقتصاد السياسي في لبنان على ركائز خدماتية من أبرزها المصارف والتعليم. العلاقة بين الاثنين لم تكن متوازنة. فوجود المصارف وتنميتها جاء على حساب خنق القطاعات الأخرى وفرص العمل التي يمكن أن تولد فيها. وانسحب الأمر على الاستثمار في التعليم بجذوره التاريخية مع الغرب، فاستحوذ على جزء من الرساميل الوافدة، ما أتاح له تعزيز مستواه. وفيما كان هذا القطاع ينتج يداً عاملة لا يمكن استيعاب القسم الأكبر منها في السوق المحلية ما أدّى إلى معدلات بطالة مرتفعة، وخصوصاً بين الخرّيجين الشباب، ازداد الطلب الخارجي على العامل اللبناني ليصبح نزيف الأدمغة ظاهرة تاريخية من أبرز مظاهرها محلياً هي تلك الهوّة بين السياسات التعليمية وحاجات سوق العمل المحلية. فالهيكل الاقتصادي يلعب دوراً أساسياً في التأثير النهائي لرأس المال البشري على التنمية الاقتصادية المحلية.

دائماً ما يرتبط الاستثمار الأجنبي المباشر ارتباطاً إيجابياً بنموّ الناتج المحلي الإجمالي. وفي المقابل، ترتبط التحويلات (المغتربين) بنموّ سلبي في الناتج المحلي، ثم تُستخدم تدفّقاتها للتعويض عن النموّ السلبي. والتحويلات، تُعدّ ثاني أكبر مصدر للتمويل الخارجي للبلدان النامية بعد الاستثمار الأجنبي المباشر، إلا أنّ هذه المعادلة معكوسة في لبنان لأن التحويلات هي المصدر الرئيسي لعائدات النقد الأجنبي، لا بل أثبتت تاريخياً هذه التحويلات أنها المصدر المالي الأكثر أماناً واستقراراً، وكانت بمثابة تأمين ضدّ الحرب وانعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي رغم أنها خلقت تفاوتاً كبيراً في البنية الطبقية وتكوّن المجتمع اللبناني. فالتحويلات توفّر التعليم والرعاية الصحية، ما فرض شعوراً بالظلم لبعض الأسر ودفعها إلى الهجرة للتعويض عن الأوضاع الاقتصادية السيئة وضعف تقديمات الدولة. بعبارة أوضح، إنّ رأس المال البشري في لبنان يتشكّل طمعاً بالهجرة، ما زاد خطر اعتماد الأسر على التحويلات المالية والتدفقات النقدية الخارجية التي كانت تُدخّر في المصارف أو تُستهلك بدلاً من استثمارها، أي أنها كانت تعود إلى الخارج على شكل طلب على الاستيراد. وأدّى ذلك إلى خفض الأجور المعروضة في لبنان وأحدث فوضى في سوق العمل الداخلية. هذا ما يفسر جزئياً سبب امتناع العديد من اللبنانيّين عن أداء وظائف محدّدة، وتواجد العمال المهاجرون العرب والآسيويون بدلاً منهم. أما السياسات الحكومية، فلم تستجب لهذه الظاهرة باعتبارها انحرافاً اقتصادياً واجتماعياً، بل تعاملت معها على أنها ظاهرة صحية يمكن البناء عليها، فعمدت إلى تنمية التحويلات عبر سياسات اقتصادية توفّر أرضية مالية جاذبة لها، ثم استخدمت وصولها إلى تحويلات المهاجرين كعنصر قوة للحصول على قروض ومساعدت أجنبية.

ثلاث اتجاهات
الأدبيات النظرية والتجريبية حول هجرة الأدمغة وذوي المهارات العالية من البلدان النامية متباينة إلى حدّ كبير. غير أنها بمعظمها أجمعت على أنّ قضية الهجرة تعبّر عن مظهر آخر للعملية التي تستخرج من خلالها البلدان في مركز الاقتصاد الرأسمالي، الفائض والموارد من البلدان الموجودة في الأطراف. من هذا المنظور، يتّضح أنّ الهجرة ما هي إلا عملية استبدال لعوامل الإنتاج المادية إلى أخرى بشرية تعبّر عن انعكاس لسياسات وترتيبات الدول الكبرى التي من خلالها تخضع الاقتصادات الأضعف لمصالح وأولويات الاقتصادات الأقوى. ومع ذلك، فإن هذا لا يلغي التأثيرات المتفاوتة للهجرة بين بلد وآخر لجهة الفرص، وهيكل الحوافز التي يواجهها العمال، وارتفاع العوائد المتوقعة في البلد الأجنبي.

ويمكن تقسيم الأطروحات الاقتصادية حول تأثيرات الهجرة على استنزاف العقول واليد العاملة الماهرة إلى ثلاثة أجيال من الأبحاث:
- تحدثت ورقة أعدّها هيربيرت غروبل وأنطوني سكوت، عن فوائد الهجرة ودور التحويلات المالية في رفع دخل عائلات المهاجرين بشكل كبير، ما يفرض تجاهل الخسائر للدول المصدرة للعاملين التي اعتبروها ضئيلة وغير ذات تأثير. مثل هذه الأفكار كانت سائدة في الستينيات حين أكدت معظم الدراسات بشكل عام أن تأثير نزيف الأدمغة مؤقّت، ويشكّل خسائر اقتصادية على المدى القصير فقط إلى حين تدريب بدائل للمهاجرين.
- يتناقض الجيل الثاني تناقضاً حاداً مع الجيل السابق من الدراسات. فخلال السبعينيات، كان يُنظر إلى هجرة العقول بأنّها عامل خارجي سلبي على السكان الباقين في البلد بفعل خلل سوق العمل المحلّي، وإحلال نقص بين العمالة الماهرة المتعلّمة تعليماً عالياً وغير الماهرة. وقد شدّد الاقتصادي جاديش باجواتي، في أبحاثه مع اقتصاديين آخرين، على الآثار السلبية لهجرة الأدمغة، ونفوا وجود أي دور للتحويلات المالية من المهاجرين في تعزيز فرص التنمية. وخلصوا إلى أنّ الناس يهاجرون بسبب الافتقار إلى التنمية الهادفة في المقام الأول. فمعظم المجتمعات المرسلة للمهاجرين، هي من دول نامية بعيدة عن الأسواق العالمية، وتفتقر إلى البنية التحتية الأساسية مثل الطرق المعبدة والكهرباء والمياه والهواتف والتكنولوجيا الحديثة، ويتّسم الكثير منها برداءة نوعية الأراضي ونظام الحيازة المجزّأ وعدم المساواة في الدخل، وضعف في الإعانات الحكومية. وفي المقام الثاني، بفعل غياب السياسات المصمّمة لتوجيه مدخّرات المهاجرين وتحويلاتهم إلى استثمارات منتجة. لذا، وجدوا أنه من غير الواقعي، أن يُتوقع من الهجرة تعزيزاً للتنمية لأنّ البنية التحتية والخدمات غير ملائمة والسياسات الحكومية مُخفقة وفاشلة.
رأس المال البشري في لبنان يتشكّل طمعاً بالهجرة وهذا ما زاد خطر اعتماد الأسر على التحويلات التي كانت تُستهلك أو تُدّخر بدلاً من الاستثمار


- ظهر جيل ثالث من أبحاث هجرة الأدمغة في منتصف التسعينيات يتمحور حول فكرة مفادها أنّ آفاق الهجرة يمكن أن تعزّز الالتحاق المحلّي في التعليم في البلدان النامية. تبحث هذه الدراسات في كيفية تكوين مخزون الدولة من رأس المال البشري وكيف تغيّر الهجرة هيكل الحوافز التي يجنيها سكان البلدان النامية عند اتخاذ قراراتهم التعليمية. المسألة تنطلق من فكرة أنّ البلدان النامية قد لا توفر فرص العمل المثلى للمتعلّمين، وهم يبحثون عن وظائف بمردود مرتفع. وبالتالي، فإنّ البقاء في البلد قد لا يدفع الأشخاص إلى التعلّم، في حين أنّ الهجرة تدفع بهم إلى تكثيف تعليمهم من أجل زيادة حظوظ فرصهم في وظائف الخارج ما ينتج زيادة في التعليم بين المواطنين. يمكن لاحتمال الهجرة تغيير الخيارات التعليمية للأفراد الذين يعملون على استثمار مواردهم بشكل أكبر في اكتساب المهارات القابلة للتطبيق عالمياً، والتي تزيد من تنقّلهم في أسواق العمل الدولية بدلاً من المهارات القابلة للتطبيق محلياً. هذه الدراسات فسّرت سبب ارتفاع جودة التعليم وزيادة رأس المال البشري الكفء والماهر في البلدان الفقيرة والنامية. في هذه الحالات، لا ينضب مستوى رأس المال البشري في بلد المصدر، ويعزّز الاستثمار في التعليم ويمنح عائداً أعلى في اقتصاد مفتوح.

ضريبة على دول المهجر
يقترح جاديش باجواتي استعادة جزء من موارد البلد المصدّر للهجرة من خلال الآتي: على البلدان المستقبلة للمهاجرين أن تعوّض البلدان المصدّرة لهم، عن الخسائر التي تكبّدتها أو عن المكاسب التي جلبها لهم العمّال المتعلّمون والمهرة. يقوم الاقتراح على أساس فرض ضرائب بخلفية أن الحكومات في بلدان المصدر، أنفقت على تعليم الأشخاص من المال العام لكن بعد هجرتهم يقومون بدفع الضرائب لبلد الهجرة ويحرمون بلدهم من تغطية الإيرادات، ما يسهم في تراجع النفقات على التعليم في المستقبل والتي هي من حصّة الأجيال القادمة. وفرض الضرائب هنا لا يقع على دخل المهاجرين أنفسهم بل على البلدان المضيفة للمهاجرين. إذ تتقاسم البلدان المصدّرة عائدات ضريبة الدخل المجباة من قبل جهاز الضرائب في البلدان المضيفة.


بمعزل عن جدوى هذا المخطط الضريبي، فإنّ الأمر يتطلب تعاوناً ضريبياً دولياً بين الحكومات، للتوافق على تقاسم الإيرادات الضريبية التي تجنيها من مواطني البلدان المصدّرة على أساس صيغة ما. فعلى سبيل المثال، هناك اتفاقية بين جنيف وفرنسا بموجبها يكون العمال الفرنسيون عرضة لدفع ضريبة في جنيف بما يتناسب مع المعدلات الفرنسية، ثم تُعيد سويسرا بعضاً من هذه الضرائب إلى الخزانة الفرنسية. لكنّ المفارقة أنّ اقتراح مشاركة العوائد الضريبية وُجد في الأصل ليكون بين بلدٍ نامٍ وآخر متقدّم، ما يدفع البلدان النامية لزيادة اعتمادها على نفسها. ففي النهاية، يتم دفع هذه الإيرادات من قبل القوى العاملة الموهوبة والمتعلمة التي تشكّل «موارد الدولة» وهذا يُضفي الشرعية على ترتيبات تقاسم الإيرادات التي تمكّن البلدان النامية من المشاركة في الضرائب المتولّدة من مداخيل مواطنيها.
في الواقع، تسعى الدول المتضرّرة من هجرة أبنائها إلى حشد الطاقات ورسم السياسات للحؤول من دون تفاقم مشكلة نزيف الأدمغة. فمنها من قضى بزيادة مخصّصات الأبحاث بنسبة جيدة كأستراليا وتايوان من أجل استقطاب الأدمغة والكفاءات. ومنها من قام باستيراد التكنولوجيا والتقنيات الحديثة كالمملكة المتحدة من أجل إرساء المهنيّين والفنيّين البريطانيّين في البلاد بعد تكبّدها لخسائر كبيرة في رأسمالها البشري في الولايات المتحدة. كما وضعت الصين سياسة تنصّ على إجبار حاملي الإجازات الجامعية للعمل في البلاد لمدة خمس سنوات قبل الهجرة، أو بيع شهادتهم للسلطات المعنية.

قصور لبناني
أما في لبنان، فالأمر لا يقتصر على عدم استغلال رأس المال البشري، لأن هذا البلد لم يتأهّب أيضاً لمواجهة موجات الهجرة الجماعية التي يتعرّض لها. كما لم تنتج أنظمة التعليم ما احتاجته أسواق العمل. وحتى لو نجحت أنظمة التعليم في إنتاج فئة متعلّمة ومدرّبة بشكل محترف، فإنّ إسهامها في المجتمع والأفراد لم يكن كافياً بسبب تدني مستويات النمو الاقتصادي وغياب الاستثمارات. والأسواق نفسها لم تتطور بشكل كافٍ ليُتاح لها امتصاص القوى العاملة الجديرة ووضعها في المكان مناسب. يتوجّب رسم سياسات للحد من هجرة الأدمغة حتى لا يبقى عدم استيعاب سوق العمل لكافة الخرّيجين والجامعيّين أمراً طبيعياً وحتى لا يبقى خيار الهجرة مفتوحاً، وخصوصاً في ظل تحديات الاقتصاد المعرفي ونمو القيود المالية في الآونة الأخيرة. الأمر الأساسي يكمن في بنية النظام الاقتصادي السياسي للبنان. فإعادة النظر في سياسات الإنتاج المحلية هي المفتاح نحو إعادة النظر في حاجات السوق المحلية. تحديد الدور والوظيفة للاقتصاد اللبناني خارج الحدود، هو أمر ضروري لإعادة تحديد الأولويات وإعداد خطّة تنظيمية معينة يجري من خلالها الحفاظ على موارد البلد البشرية. فإعادة توجيه استثمارات التعليم نحو متطلبات السوق يتطلب أن يكون هناك اقتصاد بأفق واضح تتيح له عقد اتفاقات مع دول المهجر، وإبرام عقود مع مؤسّسات تهمّها هذه الثروة البشرية. ربما قد يكون تصدير الثروة البشرية لسنوات معيّنة مقابل قيمتها المادية في السوق العالمية أمر ملائم، لكن الأمر يتطلب إقراراً بإعادة هيكلة النموذج بكامله.