ربما لم نرَ بعد دولة تحدّت الدولار. فعلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء حربه في أوكرانيا بوجه «الناتو». فرغم القوّة الاقتصادية الهائلة للدولار، إلا أن الروبل تمكّن لغاية اليوم من الصمود والتقدّم في مواجهة حرب العقوبات الغربية على روسيا. هي حرب اقتصادية ضارية لا تقلّ أهمية عن الحرب العسكرية. بل على العكس، ليس هناك شكّ بأن النصر العسكري الروسي متاح في أوكرانيا، بينما المسألة التي تمتدّ جذورها في بنية النظام الاقتصادي العالمي منذ بريتن وودز لغاية اليوم، هي المسرح الأساسي للحرب الجارية. فبهذا التحدّي الذي أطلقته روسيا بوجه الدولار واليورو، وطلب تسديد ثمن الغاز المُورَّد إلى أوروبا بالعملة الروسية، تمكنت روسيا من استعادة غالبية الخسائر التي تكبّدها «الروبل» منذ بداية الأزمة قبل نحو شهر.

فمع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تعرّضت العملة الروسية إلى ضربات متتالية أدّت إلى انخفاض قيمتها مقابل الدولار. أتت هذه الصدمات كنتيجة مباشرة للعقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا ودفعت الشركات الأجنبية إلى الانسحاب من السوق الروسية. هذا ما حدث في الأيّام الأولى بعد بداية الحرب وأدى إلى ارتفاع سعر الدولار الواحد من 84 روبلاً إلى نحو 105 روبلات. ومع تزايد العقوبات والإجراءات المتّخذة ضدّ روسيا والشركات العاملة فيها والتعامل مع روسيا، ارتفع سعر الدولار إلى 150 روبلاً. فقد جرى تجميد أصول المصرف المركزي الروسي في أوروبا، ومنعت الولايات المتحدة الأميركية استيراد النفط الروسي، وفُرض حظر طيران فوق روسيا وإعادة الطائرات الأوروبية المؤجّرة إلى روسيا... رغم ذلك، عاد واستقر نسبياً على سعر قريب من 100 روبل للدولار الواحد.
ما الذي حصل؟ عملياً، الإجراءات الروسية المضادة كانت فعّالة لغاية الآن. فمنذ اهتزاز العملة على وقع العقوبات الغربية، قام المصرف المركزي الروسي بمنع المستثمرين الأجانب من بيع استثماراتهم في الأسواق الماليّة الروسيّة لضمان عدم هروب العملات الصعبة. كذلك، قام بعدّة إجراءات لضمان إبقاء السيولة عند المصارف، مثل تحرير جزء من الاحتياطات والعمل ببرنامج إعادة شراء السندات من المصارف لتزويدها بالسيولة. كما أعلن المصرف المركزي الروسي أنه سيشتري الذهب من السوق بسعر محدد، وهو عملياً تثبيت لسعر الصرف استناداً إلى الذهب، وهو أمر لم يشهده العالم منذ نشوء اتفاق بريتون وودز في الأربعينيات.
في المقابل أظهر ما حدث في سعر الروبل، أن العقوبات الغربية لم تنعكس عملياً على سعر الروبل إلا من خلال الإشارات التي أرسلتها إلى الأسواق. أي أن انعكاساتها الحقيقيّة، التي يُفترض أن تتمثّل بتجفيف سيولة العملات الأجنبية في روسيا وانهيار سعر الروبل، لم تظهر، على الأقل حتى اليوم. والدور الذي لعبته العقوبات الغربية كان لغاية الآن، محصوراً بصدمات نتائجها القصيرة الأمد، بل تكاد تكون غير مؤثّرة جدّياً. فمثلاً لم تقم أوروبا بحظر شراء النفط والغاز من روسيا كما فعلت أميركا، رغم أن المستهلك الأساسي للغاز الروسي والنفط الروسي هو أوروبا وليس أميركا. بمعنى آخر لا تزال روسيا تبيع نفطها وغازها لأكبر سوق لديها، أي أن تدفقات العملات الأجنبية من هذا القطاع لم تتوقّف، علماً بأن هذا القطاع هو أكبر مصدر للصادرات الروسيّة. ومن ناحية أخرى، فإن تجميد أصول المصرف المركزي الروسي بالدولار، هو أمر يمكن التحايل عليه من خلال المصارف الروسيّة التي لم تُطاولْها العقوبات. يمكن للمصرف المركزي الروسي أن يتعامل مع المصارف الروسية التي بدورها يمكنها أن تتعامل مع مصارف أخرى، صينيّة مثلاً، للالتفاف على العقوبات. ورغم المخاطر التي ترافق هذه الالتفافة على المصارف الصينية، إلا أن النظام الروسي يواصل صموده بدعم صيني واضح ما قلّص من تداعيات العقوبات.
وأخيراً، أعلن بوتين منذ أيام أن روسيا ستطالب الدول التي تعاملها بشكل عدائي بأن تدفع ثمن الغاز والنفط بالروبل. وقد أرسل هذا الأمر إشارات قويّة إلى الأسواق ساهمت في تثبيت وضع الروبل مقابل العملات الصعبة الأخرى. يقع سعر الدولار اليوم على مستوى 102 روبل. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يغيّره هو إذا كانت العقوبات الأوروبيّة ستطاول النفط والغاز الروسيَّيْن، لكنّ هذه الخطوة ليست سهلة بالنسبة إلى الدول الأوروبيّة، لأن تأمين البديل هو معضلة تعمل عليها هذه الدول منذ عقود.