خارج إطار المصالح الضيقة والصفقات، لم يكن يجري أي نقاش حقيقي حول مرفأ بيروت. فالإشكالية الأبرز التي استهلكت عدداً من السنوات، كانت تتمحور حول توسعة محطّة الحاويات على حساب محطة البضائع العامة. فلأن الأمر كان يتطلب ردم أحد الأرصفة الكبيرة العميقة التي تستخدم لإنزال حمولة السفن المحمّلة بالبضائع العامة، ولأن مرفأ بيروت هو حصيلة التوزيع السياسي - الاقتصادي لما بعد الحرب الأهلية على الطوائف، أي أنه مقسوم بين ملكية ظاهرية مسيحية ومسلمة، وهو يقع في الوسط بين النفوذ السنّي المستجدّ بعد الحرب الأهلية، وبين النفوذ الماروني المنحسر، فقد اشترك الجميع في نقاش بلا جدوى من زوايا مختلفة حول أهمية ردم الرصيف وتركيز عمل المرفأ في استقبال الحاويات بعيداً من تنافسية المرفأ وما تتطلبه.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هكذا صار ملحاً اليوم أن يكون هناك نقاش من نوع مختلف. أي مرفأ نريد؟ بأي دور إقليمي؟ في خدمة أي اقتصاد محلي؟ ضرورة الإجابة على هذه الأسئلة أن المرفأ انفجر عن بكرة أبيه. طارت إهراءات القمح فيه، وتضرّرت أحواضه وسمعته، فيما انشغل الجميع بمناقصة تلزيم إدارة وتشغيل وصيانة محطّة الحاويات. في الواقع، تبدو عملية التلزيم بمنتهى الواقعية. فالمرفأ لم يعد قادراً على استقبال 1.1 مليون حاوية سنوياً بسبب الدمار اللاحق به وسط أزمة اقتصادية عاصفة، وهو يحتاج إلى استثمارات في عملية التشغيل والإدارة ستتوافر له من خلال هذه المناقصة، بالتالي لم يعد ممكناً القبول بأسعار مرتفعة كالتي كانت مفروضة على المرفأ من المشغّل السابق (BCTC) والتي بلغت 41 دولاراً عن كل حاوية كمعدل السنوات العشرة الأخيرة. ففي هذه الفترة حصلت هذه الشركة على بدل مادي بقيمة تفوق 430 مليون دولار مقابل خدمّة 10.3 مليون حاوية، وكانت تحصل أيضاً على 40% من إيرادات الرسوم الداخلية. لكن وفق العقد الجديد سيتم توفير نحو 20 مليون دولار سنوياً لمدّة 10 سنوات.
رغم ذلك، لا يجوز حصر المسألة بإدارة وتشغيل وصيانة محطّة الحاويات. فالمرفأ لديه وظيفة إقليمية يستمدّها من موقع لبنان ودوره السياسي والاقتصادي في المنطقة. هذا ليس تفصيلاً عابراً وسط الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يترتب على لبنان العبور منها نحو التعافي. لذا، لا يمكن تجاهل النقاش الفعلي، والانطلاق من قناعات مسبقة لم تعد حقيقية. القناعات بأن لمرفأ بيروت أهمية استراتيجية تجعله تجاه مستخدميه غير قابل للاستبدال والاستغناء، هو أمر ساذج. فمنذ انفجار المرفأ لم تظهر بوادر أزمة فعلية في انتقال البضائع من وإلى لبنان، ولا عبر لبنان إلى دول أخرى. لم نشهد زحمة سفن في البحر المتوسط. رغم ذلك، قد تكون هناك أهمية استراتيجية اكتسبها المرفأ في السنوات الأخيرة في ظل الحرب السورية، لكن الأمر مرتبط بما هو أبعد من خطوط التجارة الخارجية والاتفاقات التي يعقدها لبنان مع محيطه والتي لم تكن يوماً لمصلحته. فالمنافسة التي تلحق بمرفأ بيروت بدأت أيام «خلق» البريطانيون مرفأ حيفا في مواجهة الفرنسيين، ثم قرّرت سوريا لاحقاً، ألا تخضع لقطبية مرفأ بيروت وحده، فأسّست مرفأَي طرطوس واللاذقية وبنت شبكة مواصلات تربطهما بحلب، وفي العقود الأخيرة، تحوّلت مسارات إنتاج السلع وخطوط تصديرها فأصبحت حركة شحن البضائع عبر المتوسط، أقلّ من تلك الواردة إلى مرافئ الخليج من الصين وكوريا وسواهما. وفي ظل هذه التحوّلات الإقليمية، هل يجب التعامل مع مرفأ بيروت انطلاقاً من خدمة بيروت وضواحيها فقط؟ هل يفترض بالتزامن مع التحديد الإقليمي لدور المرفأ أن تُدرس خيارات أخرى تتعلق بمرفأ طرابلس مثلاً وتنافسيته مقارنة مع مرفأ بيروت. أيهما يجب أن يكون مرفأ لنقل الركاب، وأيهما لنقل البضائع؟ هل المناسب نقل البضائع برّاً عبر الشاحنات من طرابلس في اتجاه بيروت وبقية المناطق أم من بيروت في اتجاه طرابلس وبقية المناطق؟ هل يجب أن تكون لدى لبنان شبكة نقل عبر المرفأ غير الشاحنات؟ أيهما أفضل لمستقبل العلاقات الاقتصادية التي يفترض أن يعيد إنشاءها لبنان مع سوريا نحو العراق. ألا يعد مرفأ طرابلس ذا أهمية أكبر لأن طريق الحرير تمرّ فيه؟ ربما الأجدى أن يكون مرفأ طرابلس مرتبطاً بخطوط التجارة الخارجية عبر حمص، وأن يكون مرفأ الزهراني مرتبطاً بخطوط التجارة عبر جنوب سوريا - الأردن، ومنافسة قناة السويس. ببساطة، المرفأ لا يجب أن يكون مكبّاً للمدينة. صحيح أنه استعاد بعضاً من أهميته الإقليمية خلال الحرب في سوريا، لكن لا يمكن تجاهل الاعتبارات المتعلقة بالدور الإقليمي. أن يكون مرفأ بيروت مرفأً رئيسياً في استقطاب السلع وتصديرها، أو يكون مرفأ ثانوياً لإعادة التوزيع عبر التجزئة.