يشهد العالم، اليوم، اجتياحاً تضخمياً من النادر أن يحصل. فالولايات المتحدة الأميركية تشهد أعلى معدّلات تضخّم مرت بها منذ ثلاثين عاماً مسجّلة نحو 7.5% في كانون الثاني الماضي. كذلك سجّلت بريطانيا ارتفاعاً مماثلاً نحو 5.4%، وروسيا 8.7% والبرازيل 10.4%. وإزاء هذا الوضع، تتحضّر المصارف المركزية للجم هذه الموجة عبر رفع أسعار الفائدة وامتصاص كتل من السيولة النقدية التي ضخّتها خلال السنتين الماضيتين بكميات كبيرة. أوّل المتحرّكين كان المصرف المركزي البريطاني الذي نشر في تقريره النقدي لشهر شباط، أنه سيرفع معدّل الفائدة إلى 0.5%، محذراً المقيمين في بريطانيا من أنهم سيعيشون في السنوات المقبلة انحساراً في مستوى العيش الذي اعتادوه، وأن عليهم أن يتقبلوا تراجع نوعيّة حياتهم بسبب انخفاض القيمة الحقيقيّة لأجورهم بفعل التضخّم. عملياً، طبّقت هذه الدول سياسات مالية توسّعية عبر أدواتها المحلية والدولية من دون أي اعتبار لانعكاسات سلوكها، على الدول النامية التي لم يكن لديها القدرة على التوسع النقدي، وهي بمثابة أسواق استهلاكية للدول القوية اقتصادياً التي يعرّفها وولرستاين بأنها «دول المركز الرأسمالي». فخلال الجائحة، استخدمت دول المركز الرأسمالي سياسة طبع العملة للحفاظ على رفاهية شعوبها، بينما تُركت الدول النامية بلا أي حماية تعيش اليوم تداعيات سياسات نقديّة وماليّة لم تكن مسؤولة عنها ولا علاقة لها فيها، بل ذنبها أنها جزء من نظام عالميّ قائم في الأصل على استغلالها.

أنجل بوليغان ــ المكسيك


التضخّم: انتقالي أم عميق؟
التضخّم هو، بالشكل، ظاهرة ارتفاع الأسعار في السوق، لكنّ التفسير الأدق له أنه يعبّر عن انخفاض القدرة الشرائيّة. فإذا كانت ورقة الدولار الواحد تشتري لوحين من الشوكولا قبل سنة مثلاً، فإنها لا تكفي اليوم لشراء أكثر من لوح واحد. هذا يعني أننا نعيش في حالة تضخّم تخلط أوراق كل صانعي السياسات، ولا سيما صانعي السياسات النقديّة المسؤولين في مواجهة التضخّم. تختلط أوراقهم لأن التقلّبات في أسعار السّلع، تغيّر سلوك الأفراد الاستهلاكي. فعلى أساس هذا السلوك كانت تُرسم سياسات للسيطرة على السوق، لكنها تصبح عديمة الأثر إذا لم تعد قادرة على استباق السلوك الاستهلاكي. فعندما تتحرّك الأسعار صعوداً، ويشتمّ الناس رائحة التضخّم، تميل توقعاتهم نحو استمرار ارتفاع الأسعار وانعدام اليقين. لذا، يتخلّون عن بعض إنفاقهم تحسّباً لارتفاع كلفة استهلاك الأساسيات، أو يستخدمون الوفر لشراء أصولاً تحافظ على قيمة ثروتهم، مثل الذهب. ومن ناحية أخرى يترجم انعدام اليقين بمخاطر استثمار أعلى لدى المؤسّسات التي تقلص إنفاقها أيضاً.

4%

هو معدّل البطالة في الولايات المتحدة في شهر كانون الثاني الأخير، وهو يمثّل تعافٍ شبه كامل إلى مستويات ما قبل الجائحة، حيث بلغ معدّل البطالة حوالي 3.5% في شهر آذار 2020 قبل أن تصل موجة كورونا إلى أميركا. في حين بلغت معدلات البطالة مستويات قياسيّة خلال الأزمة، لامست الـ14.7% في شهر نيسان 2020


لذا، فإن ظاهرة التضخّم هي أحد الأمور التي لا تريد المصارف المركزيّة مواجهتها بسبب صعوبة توقّعها والتعامل معها. والنقاش المتصل بهذه الظاهرة بين الاقتصاديين، يتمحور حول كونها «ظاهرة انتقالية» لا بد من خوضها خلال مرحلة التعافي، أو تكون بوابة لأزمة تضخمية عميقة طويلة المدى شبيهة بأزمة الثمانينيات التي اتّسمت بمعدلات تضخّم مرتفعة؛
مناصرو الفكرة الأولى يقولون بأن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي حقّق الأهداف التي رسمها لنفسه وأعاد معدلات التوظيف إلى مستويات ما قبل الأزمة، أو ما يقاربها. كما أنه أعاد الناتج المحلّي إلى مستويات ما قبل الأزمة وأكثر. ويفسّرون بأنه من الطبيعي أن يتضمّن العبور نحو التعافي موجة تضخّم يسيطر عليها الاحتياطي الفيدرالي من خلال التشدّد في سياسته المالية عبر رفع الفوائد.
في المقابل، يؤيد مناصرو الفكرة الثانية، أنه لا يمكن أخذ موضوع التضخّم من دون النظر إلى السياسات الماليّة والنقديّة التي سبقته. برأي هؤلاء، إن المشكلة الأساسيّة تكمن في اصطدام الأسواق بالمعروض النقدي الذي ضُخّ في السنتين الأخيرتين. وهو ما يسعى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لمواجهته. فالسياسة الماليّة الإنفاقيّة التي انتهجتها معظم دول المركز الرأسمالي، وعلى رأسها أميركا، بالإضافة إلى السياسة النقديّة التوسعيّة، تسبّبت بانتفاخ كتلة المعروض النقدي بشكل هائل لم يسبق للعالم أن عرفه. كانت هذه السياسات تهدف إلى تحفيز جانب الطلب في الأسواق، من خلال الحزم المالية التي دُفعت للناس، و«تصفير» الفوائد الذي جعل الحصول على الأموال، من خلال القروض، أمراً شبه مجاني. كما كانت السياسات تهدف إلى تحفيز العرض عن طريق تسهيل تمويل الاستثمارات بالفوائد المنخفضة وحزم الإعانة التي قدّمتها الحكومات.
وبالفعل، شهد الاقتصاد، كنتيجة لهذه السياسة، تعافياً تدريجياً، مع تحذيرات كثيرة أُطلقت في ذلك الوقت بشأن مخاوف من موجات تضخّم قادمة بسبب الزيادة الكبيرة في المعروض النقدي. وتزامن مع التعافي ازدهار كبير في الأسواق الماليّة، تربطه إحدى النظريات المطروحة بالأموال التي ضُخّت في الأسواق عبر السياسات الماليّة والنقديّة، التي تحوّلت للاستثمار في الأسواق الماليّة، وهو كان السبب وراء تأخر موجة التضخّم. فعندما دخل هذا المعروض النقدي إلى الأسواق الماليّة، نظرياً، لم يتوجّه إلى الاقتصاد الحقيقي، على شكل استثمارات حقيقيّة، كما كان الهدف منه. ومن المثير للاهتمام أن الارتفاع في معدلات التضخّم، الذي حصل في الأشهر الماضية، تزامن مع خسائر كبيرة في الأسواق الماليّة. وقد يكون تفسير هذا الأمر، أن خروج الأموال من الأسواق الماليّة إلى السوق الحقيقي، رفع الطلب على السّلع بالتوازي مع وجود أزمة في العرض، تسببت بها التأخيرات التي حصلت في سلاسل التوريد عالمياً. فالعالم يعاني اليوم من تأخير في تلبية الطلبات التجاريّة ومن ارتفاع في أسعار الشحن، بالإضافة إلى أزمة الشحّ في أشباه الموصلات التي تُشكّل جزءاً أساسياً من مُدخَلات الإنتاج في الاقتصاد العالمي. هذا الارتفاع في الطلب، والشحّ في العرض يؤدّيان بشكل تلقائي إلى ارتفاع في الأسعار، وهذا ما نشهده اليوم.



خطوات متوقّعة
إزاء موجة التضخّم الحالية، لجأت المصارف المركزية إلى رفع الفائدة لإبقاء الأسواق المالية، وتحديداً سوق السندات، تحت السيطرة. هذا بالتحديد ما يشغل بال الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. سبب الاهتمام أن سوق سندات الخزينة الأميركيّة هي أكبر الأسواق الماليّة التي يتداول فيها نحو 20 تريليون دولار، أي أكثر من 100% من الناتج المحلي الأميركي. فإذا أصيب حاملو هذه السندات، ولا سيما السندات التي أُصدرت خلال فترة الفوائد المنخفضة، بحالة انعدام يقين، فهم يلجأون مباشرة إلى تسييل سنداتهم ما يخلق نمطاً من السوق خارج إدارة الفيدرالي الأميركي.
عملياً، هذه المخاوف تأتي في إطار نظريّة «توقّعات التضخم». فالسند هو أداة ماليّة مدرّة للعائد الثابت المحدّد يوم الإصدار بالاستناد إلى معدلات الفائدة على أن يدفع سنوياً أو فصلياً. فالمستثمر الذي يتوقّع استمرار التضخّم ويسعى للحفاظ على قيمة استثماره، سيتوقّع أن تقلّ القيمة الشرائية للعائد، ما يدفعه إلى بيع السند. حصول هذا الأمر بشكل مكثّف، سيرفع معدلات الفائدة في السّوق تلقائياً. لذلك، ما يفعله «الفيدرالي» هو أنه يخلق نمطاً من ارتفاع أسعار الفائدة تحت سيطرته، فيرفع الفائدة بالمقدار الذي يراه مناسباً لطمأنة المستثمرين. لذا، نرى اليوم أن التوقّعات تشير إلى أن الاحتياطي الفيدرالي ينوي رفع الفوائد على دفعتين خلال السنة الحالية.
يحاول الاحتياطي الفيدرالي بهذه الطريقة استباق السوق برفع الفوائد، وفي الوقت عينه امتصاص السّيولة النقدية من الأسواق، إذ إن رفع الفوائد يجذب رأس المال إلى المصارف والسندات. لكن هذا الأمر لا يعني أن معدلات التضخّم ستنخفض بشكل «أوتوماتيكي»، بسبب صعوبة التوقعات الناجمة من موجات التضخّم.
موجة التضخّم تصيب «دول الهامش» التي لا تملك أدوات المواجهة التي تملكها المصارف المركزيّة في دول المركز الرأسمالي


لكنّ سلوك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لا يقتصر على السوق الأميركية فحسب، بل ينطوي على انعكاسات تشمل باقي المصارف المركزية في دول المركز الرأسمالي. فبمجرّد أن يرفع «الفيدرالي» فوائده، سيعني ذلك عمليّاً أن باقي المصارف المركزيّة في العالم مضطرّة الى أن ترفع فوائدها، لأنها إذا لم تفعل ذلك ستشهد هجرة لرأس المال من أسواقها إلى الأسواق الأميركيّة، وسيوقعها في مأزق كبير. وقد اتّضح هذا الأمر مع المصرف المركزي البريطاني، الذي استبق قرار «الفيدرالي» ورفع فوائده بداية الشهر الحالي إلى نسبة 0.5%. ومن المتوقّع أن يلحق البنك المركزي الأوروبي بهذا المسار خلال الشهر القادم عندما يصدر تقريره الفصلي.

«دول الهامش» تدفع الثمن
السؤال المحوري في هذه المقاربة لا يتعلق فقط بمدى تأثير الأسواق الأميركية على باقي دول المركز الرأسمالي، بل في أن مفاعيلها تمتدّ نحو الدول النامية المعروفة باسم دول الجنوب، أو التي يسمّيها إيمانويل وولرستاين «دول الهامش». فهذه الدول تقع على هامش النظام الرأسمالي العالمي، وهي مستغلّة من دول المركز الرأسمالي. دول الهامش هي مجرّد أسواق استهلاكية لدول المركز الرأسمالي، وبالتالي فإن عدوى التضخّم تنتقل إليها سريعاً. فبعد أن تبيع دول الهامش موادها الخام لدول المركز الرأسمالي، تستوردها منها مجدداً على شكل سلع. وهذا الإنتاج يتضمّن الأكلاف الوسيطة المعرّضة للارتفاع بسبب موجة التضخّم. فبالنتيجة، تصيب موجة التضخّم بلدان الجنوب النامية، وهي لا تمتلك أدوات المواجهة التي تمتلكها المصارف المركزيّة في دول المركز، لذا تدفع شعوبها الثمن عبر تقلّص قدرتها الشرائيّة وتراجع مستوى عيشها ونوعية حياتها.

الارتفاع في معدلات التضخّم، الذي حصل في الأشهر الماضية، تزامن مع خسائر كبيرة في الأسواق الماليّة


لا يقف الأمر عند حدّ التضخّم. فعندما تقوم دول المركز بمواجهة التضخّم عبر رفع الفوائد، تتأثر دول الهامش أيضاً. أوّلاً، لأن رفع الفوائد في دول المركز يجبر دول الهامش على رفع فوائدها، ما يعني أن الدول التي استغلّت انخفاض معدّلات الفوائد خلال الجائحة للاستدانة، ستكون في مأزقٍ كبير عندما تحتاج إلى الاستدانة مجدداً من أجل سداد دينها. لأن إعادة الاستدانة ستكون بمعدلات فائدة أعلى، ما يعني كلفة استدانة وخدمة دين أكبر وأكثر كلفة ستأكل نسباً أكبر من موازنات هذه الدّول، وبالتالي سينعكس ذلك حصّة أقل في أبواب الموازنة المخصّصة لخدمة الشعوب. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على الدّول، بل أيضاً على المؤسسات القائمة في هذه الدول، التي استغلّت انخفاض معدّلات الفائدة خلال الجائحة للوصول إلى تمويل قليل الكلفة، وهي بمجرّد ارتفاع المعدّلات مرّة أخرى سترتفع أكلاف الديون عليها.
وهناك الدّول التي تعاني أصلاً من أزمات، مثل تركيا، التي حاولت خفض معدّلات الفائدة عندها، فجعلها هذا الأمر تعاني من نزف في رأس المال لديها. ويعني ارتفاع الفوائد مواجهة قاسية لدى دول مثل تركيا، تُترجم صعوبات أكبر في تحقيق أهدافها، فتغرق في أزمات أعمق من التي وقعت فيها. ببساطة، إن الضحيّة الأكبر لموجة التضخّم، وانعكاساته، هي تلك الدول القابعة على هامش النظام العالمي عاجزة عن ابتداع سياسات اقتصادية ومالية يمكن أن تنتشلها من بؤسها.