في العقدين الماضيين كان لبنان يزداد تعرّضاً للمخاطر الناتجة من حركيّة رأس المال وتبعيّته المفرطة للأموال الآتية من الخارج، تلك التي فاقت نسبتها في عامَي 2007 - 2011، ثلث ناتجه المحلي، وصاحَب ذلك زيادة في تمركز عمليات الإقراض والاقتراض بين المصارف والدولة ومصرف لبنان. ورغم عدم تكامل البيانات التي تبيّن توزيع ودائع المصارف في البنك المركزي، فإنّ تقاسم عوائد أكبر عمليات الهندسة المالية الشهيرة التي حصلت عام 2016 تظهر درجة تمركز هذه العلاقة، إذ استحوذ مصرف واحد على أكثر من ثلث فوائض هذه العمليّات، ومصرفان على نحو 54%، وخمسة مصارف على نحو 78% منها. واستمر الأمر على هذا المنوال أو أكثر في الأعوام اللاحقة، بل جرى الاعتراف به علناً عندما وافقت المصارف على دفع ضريبة استثنائية على أرباح لا تقلّ قيمتها عن 1% من الناتج المحلي حقّقتها من هذه الهندسات.
حسن بليبل ــ لبنان

ولولا انهيار القطاع المصرفي وتوقّفه عن الدفع وعجزه عن استقطاب الأموال، لصارت الهندسات أسلوب عمل عادي في استقطاب الأموال شأنها في ذلك شأن الاستدانة بالليرة، ثم بالعملات، ثم جلب المال من خلال المؤتمرات الدوليّة، أو برفع معدلات الفائدة. وقد سهّلت حركية رأس المال المصحوبة بزيادة في تمركز العمليات المصرفيّة والماليّة، وضع لبنان في مرمى الاستهداف الخارجي، فأُحيط بحصار غير معلن أطبق على القنوات التي يمر منها تمويله الخارجي، ولم يكن من مفرٍّ أمام حكومته سوى إعلان التوقف عن الدفع في آذار 2020، وفعل المصرف المركزي ذلك قبلها في أواخر عام 2019 مختاراً ومن دون إعلان.

مفترق طرق
وها نحن الآن عند مفترق جديد: إمّا سلوك الطريق نفسه الذي أفضى إلى الأزمة، ليقع البلد مجدداً في فخّ المديونيّة وقبضة القوّة البنيويّة للمال والمخاطر الناتجة من الإقامة في زوبعة حركيّته الفائقة، أو اتباع طريق آخر هدفه بناء قاعدة إنتاجية قويّة، يمكن على أساسها ترميم الوعاء الضريبي وتوسيعه بما يسمح لنا بالخروج من فخّ الديون المباشرة وغير المباشرة (بما فيها تدفّق الودائع من الخارج)، وكذلك لضبط ظاهرة الأمولة إن عادت إلى الظهور بأداء اقتصادي فعّال يقلّل من خطرها. لكن اتخاذ القرار الصحيح بين الطريقَين يحتاج إلى فاعلين جدداً يؤدّون وظائف مختلفة.
وفي العموم، كانت «النخبة» المسيطرة في لبنان هي المحرّك الأساسي في تعظيم القوة البنيويّة للقطاع المالي ومضاعفة مخاطر التبعيّة للتمويل، كما تولّت من دون توقف توسيع نطاق الاقتصاد المالي الذي حرّرها من قيود العقد الاجتماعي التوافقي ومساوماته. ولا يمكن فصل هذا العقد في أي دولة عن اقتصادها السياسي. إذ إنّه يعمل بفعالية في الدولة التقليديّة، دولة الضريبة، ويفقد جدواه في الدولة النيوليبرالية المعتمدة على القروض. وبذلك لم تكن «النخبة» المسيطرة لتحظى بهذا القدر من حرية الفعل والحركة لولا أنها استعاضت عن الجباية والضريبة بالاستدانة والاكتتاب، وضاعف من قوتها أنها تحكّمت بزمام حركيّة المال واستفادت من رياح الأمولة التي هبّت حتى عشيّة الأزمة بما يخدم أشرعتها. أمّا وقد انفجرت الأزمة ونضبت مصادر المال السهل، فلا مناص من إحياء العقد الاجتماعي من خلال اقتصاد سياسي جديد، تقوده نخبة جديدة.

تفكيك النخبة شرطاً للتعافي
لقد ظهر تسلّط «النخبة» في ازدرائها الملحوظ بأركان الدولة الأخرى ومؤسساتها عند تعارض النظرة للأمور (انظر مثلاً إلى الاستخفاف الذي طبع تعامل مصرف لبنان مع موقع رئاسة الحكومة أثناء الخلاف الشهير على خطّة التعافي، وكذلك، اللامبالاة وعدم الجدّية في أداء جمعيّة المصارف تجاه القضاء وبعض القوانين كالدولار الطالبي...). لكنها وجدت نفسها بعد تسارع خطى الانهيار، مضطرة للارتماء في أحضان الطبقة السياسية التقليدية والاحتماء بحصونها الطائفيّة والسياسيّة والمؤسّساتية في انعكاس مؤقّت لاتجاه التبعيّة. وسنعثر على شواهد عدّة تبيّن اعتماد النخبة الماليّة في لبنان على الدولة في الصعود، وإلقائها عبء الأزمات عليها في الهبوط كما حصل مرّات عدّة في تاريخنا الاقتصادي القريب والبعيد.
ومع ذلك فإنّ «النخبة» المالية التي كانت في موقع الصدارة والهجوم طوال ربع قرن من الزمن، بدأت تفقد زخمها وتآلفها وهي مشغولة الآن بالدفاع عن الحد الأدنى من مكتسباتها، ولا أسف عليها بعدما صار تفتيت وحدتها شرطاً لوضع البلد في نصاب الإنقاذ والتعافي والنهوض وإطلاق قطار الاقتصاد على السكّة الصحيحة، وعدم تفويت ما تبقّى من فرص في معارك جانبيّة عالية الكلفة. فخلال أكثر من سنتين من الانهيار لم يكتفِ أعضاء النادي السياسي/المالي التجاري الممثّل للنخبة، بتحوير مواضيع النقاش ومنع الاتفاق على برنامج للحل، وساهموا في تعطيل الاستفادة من انخفاض التكاليف مثلاً لزيادة الصادرات ومن الإمكانيات الأخرى التي تُتيحها الأزمات، بل جرى استنزاف مؤسّسات الدولة في ثلاث معارك خاضها النادي المذكور: معركة حماية المصالح المباشرة للدائرة الضيقة من أعضائه، ومعركة إعاقة الحلول التي تمسّ تلك المصالح، ومعركة عرقلة السياسات التي تنوّع خيارات لبنان الاقتصاديّة وتوسّع دائرة علاقاته وتخفّف تبعيته.
ولنتذكر هنا أن النخبة الماليّة والتجاريّة أدّت سابقاً، ببراعة وأمانة منقطعتي النظير، الدور التاريخي لحكم «النخبة» الذي يمكن اختصاره في أمرين؛ أولهما تجريد الدولة من القوّة اللازمة للوقوف في وجه تمدّد الاحتكارات واستحواذ القلّة على الثروات. والثاني، تكريس الاستقطاب الاجتماعي مع ما يستدعيه من زيادة في فجوة الموارد وتعاظم الحاجة إلى الديون لردمها. وها هي تكرّر اليوم ما تفعله الليبراليات الحديثة، بدعوتها الدولة (ومواطنيها) إلى شراء المخاطر المالية وتحمّل الشطر الأكبر من المسؤولية عن الأزمة وقيادة الركب نحو الخروج منها من دون أن تتكبّد مشقّة المساهمة في ذلك وتحمّل بعض أكلافه.
أختم بالآتي: إنّ تفكيك بؤر المصالح التي أمسكت بزمام السياسات عقوداً عدّة، أو على الأقل إعادة تشكيل أدوارها، هو شرط لإطلاق الدولة والمجتمع من أسر الأزمة، والاقتصاد من جدران الخيارات الضيقة التي ارتهن لها. لكن ذلك لن يكون طوعيّاً وتلقائيّاً، بل يحتاج إلى قرارات وسياسات وتشريعات تحجب عنها القوّة المستمدّة من مؤسّسات الدولة أو من التفاعل معها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك: جمعية المصارف التي تعبّر في واقع الحال عن مصالح فئة محدّدة من مؤسّسات المال لا جميعها، ومع ذلك فإن القوانين تعطيها دوراً مركزيّاً في السياسات النقديّة بحكم مساومات ستينيات القرن الماضي التي سمحت بإقرار قانون النقد والتسليف، فالجمعيّة كما هو معروف ممثلة في لجنة الرقابة على المصارف، والهيئة المصرفيّة العليا، ويُستطلع رأيها في قضايا عدّة، وهذا يعرّض عمل مصرف لبنان وهيئاته لتبعات تضارب المصالح، ويقيّد صلاحياته في اتخاذ القرارات الرقابية الصحيحة.
ظهر تسلّط «النخبة» في ازدرائها الملحوظ بأركان الدولة الأخرى ومؤسساتها عند تعارض نظرتها للأمور لكنها ارتمت في حضن الطبقة السياسية التقليدية للسلطة بعد تسارع خطى الانهيار للاحتماء بحصونها الطائفيّة والسياسيّة والمؤسّساتية


ينطبق الأمر نفسه على الهيئات الاقتصاديّة التي تجمع تحت مظلّتها تجمّعات متباينة المصالح والأهداف (تمثّل التجار والصناعيين والمصارف والمقاولين ورجال الأعمال ومؤسّسات الضمان...) لكنها تتوحّد في مواجهة مطالب العمّال والعاملين بأجر، وفي المقابل تعاني النقابات العمّاليّة من ضعف في الهيكليّة والتمثيل يجعلها الطرف الأضعف في معادلة الإنتاج. ولا نغفل في السياق، أن أزمة الإدارة العامة مكّنت «النخبة» من نشر خلاياها في كل زاوية منها، ومضاعفة سطوتها على الاقتصاد.
إنّ إغلاق المنافذ أمام توغّل الأقليّة المتحكمة وإزالة بؤرها داخل السلطة، يقتضي تصحيحات جوهريّة في الاقتصاد وسياساته، يساعد على نزع أنيابها في المؤسّسات ومراجعة التشريعات التي تمدّها بأسباب القوّة، وهذا يفتح الباب أمام التعامل مع معضلة النظام التي تزيد من حدّة التضارب بين المشروعية والانضباط المالي، وتجعل السياسة مسرحاً عبثيّاً لا حدود له ومعولاً للهدم غير الخلّاق.