علاقة متوتّرة تجمع بين ألمانيا والمفاعلات النووية. حادثة «ثري مايل آيلند» في الولايات المتحدة عام 1979، وتشرنوبيل في أوكرانيا عام 1986، صنعتا مناخاً رافضاً للطاقة النووية في الدولة الصناعية الأولى أوروبياً. في عام 2000، ومع مشاركة حزب الخضر في زعامة الحكومة آنذاك، وُضع أول قانون يهدف للتخلّص من هذه المنشآت على المدى الطويل. إلّا أنّ حادثة فوكوشيما في اليابان عام 2011، أجبرت حكومة أنجيلا ميركل في ذلك الوقت، وتحت وطأة ضغوط شعبية، على إقرار القانون بسرعة وتحديد شهر كانون الأول من عام 2022 موعداً لإيقاف آخر مفاعل نووي على الأراضي الألمانية.مخاوف كثيرة يعبّر عنها الألمان تجاه الطاقة النووية. قد يكون بعضها مبالغاً فيه. لكنهم اتخذوا قراراً لا رجعة عنه. فانطلقوا نحو مستقبل لا طاقة نووية فيه، ولا انبعاثات كربون، كما تنصّ الخطة الألمانية التي تقضي بالتخلّص النهائي من انبعاثات الكربون بحلول عام 2045. خطة طموحة جداً، لكن الأمثلة التي يمكن أن تستفيد منها ألمانيا لتنفيذ مشروع كهذا تكاد تكون منعدمة، ما يضعها أمام تحديات لم تواجهها أي دولة سابقاً. السؤال الذي كان على الحكومات الألمانية المتعاقبة الإجابة عنه هو: إن كنا سنطفئ منشآتنا النووية، وقد تعّهدنا بالتقليل من الانبعاثات الملوّثة للهواء، فكيف سننتج الكهرباء؟


بالنسبة للألمان، الحلّ يكمن في الاستثمار في قطاع الطاقة المتجدّدة، من ألواح شمسية ومراوح عملاقة وسدود مائية. وبالفعل، تطوّر هذا القطاع بشكل هائل في السنوات الماضية. فقد تمكّن الألمان من تزويد شبكة الكهرباء الألمانية بـ46% من احتياجاتها في 2020، و42% في 2021 عبر الموارد المتجدّدة. كما أنّه بين عامَي 2011 و2017، كانت كمية الطاقة المستخرجة من الموارد المتجدّدة أكثر من كافية لاستبدال الطاقة النووية، بحسب موقع Grist المتخصّص في الشأن البيئي.
استبدال الطاقة النووية بالطاقة المتجدّدة هو مسار ينظر إليه الألمانيّون باعتباره مساراً ضرورياً لبلد غني ولديه قدرات تكنولوجية كبيرة. ففي مقابلة نشرتها صحيفة «فاينانشل تايمز» البريطانية عام 2020، يقول عضو حزب الخضر الألماني، والنائب في البرلمان الأوروبي، سفين غيغولد، إنّ «الطاقة النووية والطاقة المتجدّدة هي بدائل وليست مكمّلات، وإذا لم نوقف الطاقة النووية بالكامل، فإن الطاقة المتجددة لن تحقّق كامل إمكاناتها». ويُضيف: «ألمانيا بلد غنيّ، يمكننا الاستثمار في التكنولوجيا المتجدّدة بسرعة. أستطيع أن أتفهّم من يرى حاجة في إبقاء محطّة طاقة نووية مفتوحة لفترة أطول في بلد أفقر، لكن هذا ليس هو الحال هنا».
لكن في مقابل هذا الإصرار والتفاؤل، ثمة تحديات تخلقها خطّة الانتقال إلى الطاقة النظيفة. فالمرحلة الانتقالية بين موعد إطفاء آخر مفاعل نووي ألماني في نهاية السنة الجارية، وبين موعد تطوّر تكنولوجيا الطاقة البديلة إلى حدّ يسمح بالاستغناء عن مصادر الطاقة الملوّثة للهواء مفتوحة وغير معروفة الأجل. وهذا ما يضع الحكومة أمام حلّ ضروري لا غنى عنه، وهو العودة إلى مصادر الطاقة الملوّثة، لا بل زيادة استهلاكها من أجل تغطية العجز الذي سيخلّفه الاستغناء عن إنتاج الطاقة بواسطة المفاعل النووي.
هذا الرأي يؤكّده اتحاد مستوردي الفحم الحجري في ألمانيا حين أشار إلى أنّ عودة الطلب على استيراد الفحم بعد خمس سنوات من الانخفاض المستمر. ففي عام 2021 ازداد الاستيراد بنسبة 24.5%، ويتوقّع أن يزداد بنسبة 7.7% في هذه السنة. ويعود هذا الارتفاع الكبير في الاعتماد على الفحم، وهو من أكبر الملوّثات عندما يُستخدم لإنتاج الطاقة، إلى سببيْن أساسيّين؛ أولهما هو إيقاف ألمانيا لمعظم منشآتها النووية، والثاني هو الارتفاع الجنوني لأسعار الغاز، الأمر الذي أجبر العديد من الدول على العودة إلى الفحم كمصدر أرخص سعراً لإنتاج الكهرباء.


التغاضي المؤقّت عن التزاماتها البيئية ليس الثمن الوحيد الذي تدفعه الدولة الصناعية الأولى في أوروبا. فبحسب دراسة أجراها «المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية» في ولاية ماساشوستس الأميركية، إنّ الفاتورة الناجمة عن استبدال الطاقة النووية بالفحم خلال السنوات القليلة المقبلة، ستبلغ 12 مليار دولار أميركي سنوياً، و70% من هذا المبلغ هو عبارة عن فاتورة استشفائية سببها تعرّض سكان المناطق المحيطة بمعامل الكهرباء العاملة على الفحم، إلى انبعاثات سامة بكميات كبيرة. كما أنه، وبحسب المركز نفسه، هناك فاتورة بشرية ستدفعها ألمانيا وتُقدّر بـ1100 وفاة سنوياً بسبب التلوّث البيئي المرتبط بالاستعمال المتزايد للفحم.
أيضاً، من ضمن الأكلاف التي ستتكبدها ألمانيا، خسارة في سوق الكربون الأوروبية المشتركة. ففي عام 2005، أطلق الاتحاد الأوروبي «نطام تبادل الانبعاثات» الذي يهدف، بشكل أساسي، إلى خفض انبعاثات الكربون في القارة العجوز، من طريق فرض ضريبة كل طن متريّ تُنتجه معامل إنتاج الطاقة والمصانع وشركات الطيران داخل الاتحاد. وحالياً، يقترب سعر الطن المتريّ الواحد من الكربون من حاجز المئة يورو، وسيكون على معامل إنتاج الطاقة العاملة على الفحم التابعة للدولة الألمانية، أن تدفع هذه الأكلاف الباهظة المترتّبة على إنتاجها كميات أكبر من الكربون.

«نورد ستريم2»: حلّ مؤقّت إلى أجل غير مسمّى؟
إذاً، الفترة الممتدة بين تاريخ إيقاف المنشآت النووية وموعد اعتماد الطاقة البديلة كمصدر طاقة رئيس لكل ألمانيا، غير معروفة الأجل، بينما استعمال الفحم لا يبدو كأنه العلاج المحبّذ لدى ألمانيا، خصوصاً في ظل التزامها بوقف إنتاج الطاقة عبر حرق الفحم نهائياً في عام 2038. فهل يمكنها الاعتماد على الغاز؟
هنا يدخل أنبوب «نورد ستريم 2» الروسي كحلّ رئيسي للمشكلة. هو أنبوب يصل روسيا بألمانيا مباشرةً عبر بحر البلطيق، وهو مكتمل الإنشاء وجاهز لضخّ الغاز. لكن «بيروقراطية» ألمانية ما زالت تعترض الترخيص للمشروع في انتظار تبلور صورة واضحة لتموضع ألمانيا بين أوروبا وروسيا والمفاضلة بين حاجتها للغاز الروسي وقدرتها على مواجهة الضغوط الأميركية. فالأنبوب ومنذ ما قبل اكتماله، تعرّض لانتقادات كثيرة من قبل واشنطن، التي ترى أنه يعزز قبضة موسكو على بروكسل. فروسيا تزوّد أوروبا بنحو 40% من احتياجاتها من الغاز، وبالتالي تستطيع ابتزاز جيرانها الأوروبيّين في أي وقت تعتبره مناسباً. وفي مسعاها لوقف «نورد ستريم 2»، فرضت واشنطن في أكثر من مناسبة عقوبات على الشركات الأوروبية العاملة فيه.
فاتورة استبدال الطاقة النووية بالفحم ستبلغ 12 مليار دولار أميركي سنوياً 70% منها كلفة استشفاء السكان في محيط معامل الكهرباء العاملة على الفحم


في المقابل، دائماً كان الألمان متروّين في التعامل مع الملفّ لحساسيّته الشديدة بالنسبة إليهم. فالغاز شكّل 15.8% من خليط الطاقة الألمانية خلال العام المنصرم، فيما شكلت الطاقة النووية 11.9% والطاقة المتجددة 41%، بالإضافة إلى مصادر أخرى للطاقة من ضمنها الفحم. وإن كانت نهاية العام ستشهد إطفاء آخر مفاعل نووي ألماني، فإنّ على أحد هذه المصادر أن تحلّ مكانه، ومن ضمن الخيارات المتوفرة، يبدو الغاز الروسي الأكثر واقعية والأقل تلويثاً.
خيار برلين بالالتزام بالمشروع وعدم التخلّي عنه، رغم التوتر الذي بلغ أقصاه بين الغرب وموسكو خلال الأسابيع الأخيرة، إثر الأزمة على الحدود الروسية الأوكرانية، يعكس الحاجة الألمانية الكبيرة للغاز الروسي. فعلى عكس الدول الأوروبية الكبرى الأخرى، على غرار فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، التي أعلنت وقوفها إلى جانب أوكرانيا في الصراع، واستعدادها لمساعدة كييف في الاستعداد عسكرياً لأي هجوم روسي محتمل عبر إرسال كميات هائلة من الأسلحة إلى خطوط التماس في الشرق، فقد تراجعت ألمانيا خطوة إلى الوراء واكتفت بإرسال 5000 خوذة للجنود الأوكرانيين بدلاً من إرسال الأسلحة، وهو ما أثار سخط كييف. كما أن تصريحات قائد البحرية الألمانية في نهاية الشهر الفائت، والتي اعتبر فيها أنّ بوتين رئيس يستحق الاحترام، وأن شبه جزيرة القرم لن تعود أبداً لأوكرانيا، والتي اضطر إلى الاعتذار والاستقالة على إثرها، تؤكّد خيارات الدولة الألمانية، وإن لم تخرج إلى العلن.

الغاز شكّل 15.8% من خليط الطاقة الألمانية في السنة الماضية مقابل 11.9% للطاقة النووية و41% للطاقة المتجدّدة ومصادر أخرى ضمنها الفحم


ولعلّ بيان وزارة الاقتصاد الألمانية، الأربعاء الفائت، عن بلوغ مخزون البلاد من الغاز مستويات «مقلقة»، دون الحدّ الأدنى الذي تعتبره الحكومة الألمانية ضرورياً لتحمّل موجة برد قارس على مدى سبعة أيام متتالية، أبلغ دليل على استحالة الاستغناء عن الغاز في المدى القريب.
مجموعة من الخيارات السياسية المتعلقة بالطاقة والبيئة منذ عام 2000 أوصلت ألمانيا إلى ما وصلت إليه اليوم. نجاح كبير وقدوة بين الدول على صعيد استغلال الطاقة المتجددة، إلا أنّ خيارها استبعاد الطاقة النووية من خليط الطاقة المحلّي كان له ارتدادات لم تكن على الأغلب تتوقعها. فقرار إطفاء آخر مفاعلاتها النووية نهاية هذا العام، أجبرها على الخروج عن الإجماع الأوروبي والغربي، من أجل ضمان استمرار تدفّق الغاز إلى مخازنها، كما أنّه يُسهم بكل تأكيد في تعزيز سيطرة موسكو على إمدادات الغاز إلى أوروبا، ما سيمنح الروس ورقة ضغط إضافية تستخدمها في حال حدوث أي نزاع محتمل في المستقبل.