يُمكن النّظر إلى التهرّب الضريبي من زوايا عدّة مختلفة عن بعضها؛ هناك تهرّب من تسديد الضريبة بواسطة الرّشوة والتّزوير والتلاعب بالبيانات المالية، وهناك تهرّب محميّ بقوانين وأنظمة تحافظ على استمراريّتها الطبقة الحاكمة بشراكتها مع أصحاب الرساميل، وهناك تهرّب عابر للحدود يرتبط بتنافسيّة الدول لاستقطاب الثروات. هذه الأخيرة هي الزّاوية التي على أساسها يحتسب تقرير «حالة اللّامساواة 2021»، التهرّب الضريبي في لبنان مقدّراً بأن الخسائر الضريبيّة بلغت 206 ملايين دولار مقارنة مع 145مليون دولار في السنة الماضية. لكن هذا الرقم يأتي من التهرّب العابر للحدود الذي يُمارسه الأفراد بشكل أساسي من خلال تهريب ثرواتهم إلى الخارج.
المصدر: تقرير the state of tax justice 2021 | تصميم: رامي عليان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

93% من حجم هذا التهرّب بالمعنى الذي يتحدّث عنه التقرير الصّادر في تشرين الأول 2021، مصدره الأفراد اللّبنانيون. فلدى هؤلاء ثروة تمّ تهريبها إلى الخارج مقدّرة بنحو 18.9 مليار دولار مقارنة مع 14.5 مليار دولار في التقرير نفسه الصادر في 2020. خلال 12 شهراً فقط، ازدادت قيمة ثروات الأفراد اللبنانيّين في الخارج بنحو 4.4 مليارات دولار أو ما يوازي 30.3% في سنة واحدة. المُثير للعجب، أنّه كيف يُمكن أن تزداد ثروات اللبنانيّين في الخارج في عزّ جائحة «كورونا» التي اجتاحت العالم و«كرسحت» اقتصاداته، وفي قلب أزمة محليّة تُصنّف بأنها الثالثة في مؤشّر «الأكثر شدّة» من بين الأزمات التي شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر؟ بمعنى آخر، كيف حصل الأفراد على هذه الثروة في هذا الوقت القصير إذا لم يكن ممكناً تحقيق أرباح كبيرة في الخارج، ولم يكن سهلاً الصمود في الداخل؟
الإجابة تأتي في التقرير أيضاً بشكل غير مباشر. إذ يُشير إلى أن القناة المعتمدة، أو التي تمثّل النسبة الأكبر من التهرّب الضريبي العابر للحدود هي الاستثمارات الماليّة. ففي ظلّ الجائحة انهمكت اقتصادات الدول في طباعة الأموال وضخّها في الأسواق ما أدّى إلى تضخّم سريع في أسواق الأسهم والسّندات والعملات المشفّرة وسائر الاستثمارات المتوافرة في الأسواق المالية، لكن في لبنان كانت هناك قصّة أخرى يكتبها مصرف لبنان من خلال طباعة الأموال وضخّها في السوق المحليّة وتوزيع الدولارات القليلة المتوافرة في احتياطاته على المحظيّين. المصارف نالت حصّة وافرة من هذه الأموال، إذ حصلت من مصرف لبنان على تحويلات بقيمة 8 مليارات دولار، ثم انتقل تبديد الاحتياطات إلى عمليّة دعم استيراد السلع الأساسية من محروقات ودواء وسواها. باختصار، تقلّصت الاحتياطات بالعملات الأجنبية منذ مطلع عام 2019 لغاية أيلول 2021 بقيمة 20.4 مليار دولار. فقد كان المصرف المركزي في لبنان يملك احتياطات بالعملات الأجنبية بقيمة 39.3 مليارات دولار في كانون الثاني 2019، إلّا أنّ هذه الاحتياطات انخفضت إلى 18.8 مليارات في أيلول 2021. ومن ضمن هذه الاحتياطات هناك سندات خزينة بالعملة الأجنبية بقيمة 5.03 مليارات دولار، وأُضيف إليها أخيراً 1.1 مليار دولار هي عبارة عن حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي في إطار برنامج مساعدة البلدان على تخطّي تداعيات جائحة «كورونا». كما يجب أن يُقتطع من هذه الأموال مبلغ مليار دولار مقدّرة بفواتير غير مدفوعة في إطار عمليّة الدعم. عملياً، الاحتياطات الباقية القابلة للاستعمال، وفي حال اعتبرنا أن مصرف لبنان يصرّح عن أرقام حقيقيّة لا التزامات مترتّبة عليها، فإنها تقدّر بنحو 13 مليار دولار في نهاية أيلول، وهي تدنّت حكماً في الشهرين الأخيرين.
يُمكن البناء على هذه التطوّرات الخارجية والمحليّة، للاستنتاج بأن ثروة اللبنانيّين المهرّبة إلى الخارج بواسطة القطاع المالي والاستثمارات المالية، زادت بقيمة 4.4 مليارات دولار خلال 12 شهراً بين موعد صدور التقرير الأول في تشرين الأول 2020 وموعد صدوره في تشرين الأول 2021.
في مجال التهرّب من الضرائب العابر للحدود، ليس هناك مجال واسع أمام الشركات. فالشركات التي كانت تستفيد من نظام السرية المصرفية في لبنان، والتي تستفيد من حالة الفوضى والغشّ الضريبي عبر الرشوة والتزوير والتلاعب بالبيانات، فضلاً عن بنية قانونية تشجّع التهرّب المقونن، لن تهرب إلى الخارج حيث ستكون خاضعة لضوابط أكبر ومعدّلات ضريبة أعلى. لذا، فإن التقرير يقدّر بأن الشركات اللبنانيّة تحوّل أرباحاً إلى الخارج بقيمة 120 مليون دولار فقط.
بهذا المعنى، يصبح واضحاً أن ثروة الأفراد تكوّنت من تحقيق الأرباح في الداخل وتحويلها إلى الخارج عبر القنوات المالية، لتصبح في عهدة مديري الثروات في البلدان التي أنشأت أنظمة لحماية التهرّب تحت مسمّى «الملاذ الضريبي». نسبة التهرّب الأكبر في لبنان تذهب في ثلاثة اتجاهات: الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا.

* يجب الأخذ في الاعتبار عند قراءة أرقام التهرّب الضريبي العابر للحدود، أنه لا يحتسب عمليات الغشّ الضريبي، ويستند إلى معدّلات الضريبة المعمول فيها محليّاً مقارنة مع ما هو معمول في الخارج حيث المعدّلات أعلى وتصاعديّة في بلدان كثيرة.