الأزمة المالية الراهنة ليست قضاءً وقدراً، بل أسّست لها ممارسات وانحرافات متنوّعة في السياسة والإدارة والاقتصاد والمال وغيره. في ما خصّ المصارف، يسجّل الانحرافات التالية من قبل إداراتها:1- المخالفة الصريحة لأحكام المادة 121 من قانون النقد والتسليف.
فهذه المادة تذكر أنّ الموضوع الأساسي للمصرف هو تلقّى الأموال من الجمهور لإعادة استعمالها «لحسابه الخاص» في عمليات تسليف مع الالتزام عملاً بالمادة 123 من ذات القانون والمادة 307 من قانون التجارة بردّ الودائع لأصحابها عند حلول الأجل أو عند طلب منهم.
بيد أن المتتبع لتصريحات أركان جمعية المصارف والعديد من المصرفيين يستوقفه كلام مثير للاستغراب صدر عنهم ومفاده أن أموال الناس المودعة لدى المصارف قد أقرضتها الأخيرة للدولة، وأن عدم رد الدولة للمصارف ما اقترضته منها سيجعل من المتعذّر على المصارف ردّ الودائع إلى أصحابها، لذا إن مشكلة المودعين هي مع الدولة وليس مع المصارف.
مارسيلو شامورو ــ إسبانيا

كلام يظهر بشكل جلي الانحراف القائم في ذهن القيمين على إدارة المصارف والمتمثّل بتحويرهم الأساس القانوني لتعاملهم مع المودعين من «عقد وديعة مصرفية» محكومة بالمادة 307 من قانون التجارة، إلى أنموذج خاص من «عقود إدارة المال» أو «العقود الائتمانية» يتعين بمقتضاه على المودعين، لا المصارف، تحمّل تداعيات العقود التي يبرمها القيمون على إدارات هذه الأخيرة، والمقصود هنا طبعاً الأثر السيئ لهذه العقود، لا الجيد منها.
2- الخضوع لسطوة السياسيين.
التشريع اللبناني لا يتضمن نصوصاً تحكم بشكل فعّال مسألة جمع وممارسة أفراد السلطة السياسية للأنشطة الخاصّة والعامة على غرار ما تنصّ عليه بعض القوانين (كالقانون الفرنسي مثلاً). أيضاً الأنظمة الصادرة عن مصرف لبنان لا تتعرّض بشكل خاص لانغماس أركان السلطة السياسية في النشاط المصرفي.
وقد أفاد عدد من السياسيين من هذا النقص في التشريع والتنظيم لتكريس نفوذهم وسطوتهم على العديد من المصارف، إما شخصياً، أو من خلال أفراد من عائلاتهم أو مفوّضين عنهم وبطرق عدّة أهمها اكتساب المساهمات في رؤوس أموال المصارف أو السيطرة على أصولها (ذكرت جريدة The Washington Post في أحد تقاريرها، أن السياسيين في لبنان وعائلاتهم يسيطرون على ثلث أصول القطاع المصرفي!).
من الصور التي تعكس الواقع المحكي عنه، جمع أحدهم بين منصب وزير ورئاسة مجلس إدارة أحد المصارف بذات الوقت، وآخر بين منصب رفيع في إدارة المجلس النيابي وعضوية مجلس إدارة أحد المصارف، وأمثلة أخرى عديدة ليس المقام للتوسّع باستعراضها من دون أن يقابل الأمر بأي اعتراض أو تعليق من المعنيين.
عملياً، كشفت الأزمة المالية عن انحرافات عديدة حصلت بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط السياسيين والمصرفيين وتبادلهم المنافع والخدمات. وقد أشارت العديد من الصحف ووسائل الإعلام الغربية إلى هذه الانحرافات، كما تناولتها أيضاً وكالات التصنيف الدولية وآخرها ما صدر قبل أيام عن وكالة Moody's التي ذكرت وجود تحويلات أدّت إلى خروج نحو 9.5 مليار دولار أميركي من لبنان بعد اندلاع الأزمة، مشيرة إلى أن قسماً كبيراً منها تم لمصلحة نافذين سياسيين ورجال أعمال كبار.
كشفت الأزمة المالية عن انحرافات عديدة حصلت بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط السياسيين والمصرفيين وتبادلهم المنافع والخدمات


وقد استُند، لتبرير جزء من التحويلات لمصلحة النافذين المحكي عنهم، إلى كونها عمليات ائتمانية محميّة بالاتفاقات الدولية، وكأن الاتفاقات المذكورة لا تُطبّق على المودعين الآخرين غير المقيمين من لبنانيين وأجانب؟
قانون الائتمانية «la fiducie» الذي كان يقصد منه تحويل لبنان إلى مركز إقليمي جاذب للثروات لإدارة توظيفها في احتياجات لبنان والمنطقة على غرار ما فعلت لوكسمبورغ وسنغافورة، استُخدم، للأسف، من قبل تحالف السياسيين والمصرفيين، بطريقة مشوّهة ومعكوسة من أجل تهريب المليارات من الداخل إلى الخارج تماماً كما حصل الأمر مع قانون السرية المصرفية.
3- خلق المصارف لما يسمّى «دولار لبناني» بشكل مخالف للقانون والدستور.
ظهر هذا الأمر مع بداية الترويج لحسنات اعتماد الدولرة في لبنان في التسعينيات. يومها توسّع الانحراف في ممارسات المصارف، وتمثّل هذا الأمر بتلقيها أموالاً من المودعين بالليرة اللبنانية لتحويلها إلى الدولار بناء لطلبهم، إضافة إلى فتح حسابات بالعملة الأخيرة لهم لديها، حتى ولو لم تكن المصارف تحوز فعلاً العملة الأميركية. هذا ما أسّس لخلق ما يسمى ودائع «الدولار اللبناني».
هذه الظاهرة استمرّت حتى بعد اندلاع الأزمة المالية الراهنة، وبعد قيام المصارف بتقييد السحوبات بالعملة الأميركية على مودعيها بحجّة نضوب سيولتها بالدولار، ما يشير بوضوح، ويؤكد، أن جوهر عملية خلق ودائع «الدولار اللبناني» وحقيقتها القانونية، تكمن في قيام المصارف ببيع ما ليس موجوداً. بالتالي فإن التوصيف الصحيح للعملية هو أنها غشّ وتدليس واحتيال.
من مخاطر هذه العمليات، أنها لم تقف عند الحدود السابقة، بل تعدّتها بالتأسيس على حسابات ودائع «الدولار اللبناني»، للتوسّع في خلق الودائع المشتقّة منها، بالتالي خلق هرم من النقود المصرفية «بالدولار اللبناني».
أمر تنبّهت إليه باكراً الدول الأوروبية بعد أول تفشٍّ لظاهرة التعامل باليورو دولار في مصارفها وأسواقها المالية ابتداء من الخمسينيات على إثر صدور القانون الأميركي المعروف بـ Q. وبمقتضى هذا القانون، تم تحديد سقف أعلى لمستويات معدلات الفوائد على الودائع التي أصبحت مع الوقت دون معدلات التضخم، ما فتح الباب أمام هجرة واسعة للودائع الأميركية نحو أسواق أوروبا وبداية التعامل باليورودولار فيها. لاحقاً فرضت الدول الأوروبية رزمة من القيود للتصدّي للانحرافات في فتح حسابات اليورودولار، منها تزويد المصارف للمصرف المركزي بما يثبت تكوينها لأرصدة مقابلة بالعملة الأميركية لديه أو لدى المصارف المراسلة عند أو بعد فتحها لحسابات اليورودولار مقابل أموال بالعملة المحلية.
يذكر أن بعض القانونيين تطرقوا إلى هذا الأمر آنذاك من ناحية دستورية وقانونية، ولفتوا إلى أن خلق النقد ما زال (بانتظار سيادة نظرية النمساوي Von Hayek بترك العملية للقطاع الخاص)، أمراً سيادياً يعود للدولة التي يمكنها مارسته بذاتها أو أن تمنحه بموجب صكّ امتياز إلى مصرف مركزي، على أن يتولّى الأخير وأو الهيئة المشرفة على تأسيس المصارف ونشاطاتها ضبط مسألة خلق النقود المصرفية من قبل المصارف إن بالعملة المحليّة أو الأجنبية انطلاقاً من حسابات مفتوحة أساساً بعملات قانونية قائمة.
وعليه، فإن قيام المصارف في لبنان بفتح حسابات بعملات غير قائمة وغير قانونية (دولار لبناني) والتأسيس عليها للتوسّع في خلق الودائع والنقود المشتقة، لا يشكّل فقط غشّاً وتدليساً واحتيالاً، كما أسلفنا، بل مسّاً بأمر سيادي ومخالفة لأحكام قانون النقد والتسليف المتعلقة بإصدار النقد والتعامل به من قبل وبواسطة المصارف.
لقد كان أمراً جيداً أن يفكّر المسؤولون، ولو بشكل متأخّر بالتصدي لهذا الأمر إذ تضمّن مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي وزّعه نائب رئيس الحكومة قبل عدة أيام مادة تقضي بمنع تحويل الحسابات المصرفية للعملاء من الليرة اللبنانية إلى أي عملة أجنبية، بيد أن الشرطين اللذين وضعا لتجاوز هذا المنع لم تحاكِ ما سبق الإشارة إليه في ما خصّ الإجراءات والتدابير التي اتُّخذت من عدد من الدول الأوروبية في الستينيات والسبعينيات، إذ تضمّن مشروع القانون استثناء غير ذي صلة بالموضوع وهو تغطية العملية من قبل العميل نقداً أو بواسطة تحويل عبر المصرف المراسل الأجنبي.
4- انحراف المصارف عن القواعد السليمة في ممارسة النشاط المصرفي.
لقد قامت المصارف في لبنان بتوظيف الجزء الأكبر من ودائع عملائها، إن بالعملة الوطنية أو الأجنبية في سندات القطاع العام (سندات الخزينة واليوروبوندز كما السندات المصدرة من قبل مصرف لبنان)، ومعروف أن توظيف الموارد بصورة أساسيّة بالصكوك والسندات هو أمر يدخل في صلب عمل مصارف الاستثمار لا المصارف التجارية التي تسلف أموالها بموجب عقود إقراض لا بالاكتتاب بالإصدارات في السوق الأولية.
وهذا الأمر أدّى إلى التالي:
• انكشاف المصارف على مخاطر الدين السيادي، الأمر الذي حذّر منه صندوق النقد الدولي في عدد من تقاريره الأخيرة المعدّة استناداً للمادة 4 من قانون تأسيسه من دون أن تلقى تحذيراته الآذان الصاغية.
• انحراف المصارف عن الأصول والقواعد التي ترعى توظيف مواردها بشكل آمن وسليم، والتي تحظر عليها توظيف هذه الموارد لعميل واحد في ما يتعدّى حدّ معين، وهذا الحدّ يقلّ بحسب تعميم مصرف لبنان عن ثلث الحدّ الذي بلغه إقراض المصارف للقطاع العام.
• مخالفة المصارف لقواعد راسخة وبديهية في التعامل وردت ليس فقط في القوانين المالية والمدنية، بل حتى أيضاً في التعاليم الدينية منها الآية الكريمة «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم» وشروحات هذه الآية كما شروحات «المجلة» العثمانية التي أخذت بهذه القاعدة وعمل بها في لبنان لحين صدور قانون الموجبات، والعقود تشير إلى عدم جواز تسليم الأموال للمبذّرين والمسرفين (بتعبير أعمّ للفاسدين)، ولم تتقيد المصارف في لبنان بهذا النهي عند إقراضها الدولة، وحين حاول رئيس جمعية المصارف السابق الدكتور فرنسوا باسيل لفت الانتباه في عام 2014 إلى خطورة استمرار المصارف بتمويل فساد السلطة السياسية القابضة على الحكم جوبه بدعوى حرّكت ضدّه أمام القضاء من قبل أحد السياسيين وبحملات التجريح والتقريع!

* محاضر في قانوني النقد والمصارف المركزية