«الجسد الاقتصادي: لماذا التقشّف يقتل. الركود، معارك الميزانية، وسياسة الحياة والموت» هو كتاب يُعيد التذكير بدور الدولة في الاقتصاد والمجتمع. يقدّم الكثير من الأمثلة عن أميركا واليونان وأيسلندا ليقول أن دعاة التقشّف تجاهلوا وجود أدلّة حقيقية على عواقب وصفات التقشّف التي مارستها الدول أو المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي. المشكلة أنهم يواصلون هذه الدعوة الفاشلة. فثمن التقشّف «قاتل» ولا يمكن قياسه بمعدلات نموّ الاقتصاد حصراً، إنما بعدد سنوات العمر المفقودة والوفيات التي كان يمكن تجنّبها. يستعيد الكتاب عبارة من روبرت كينيدي: «ما فائدة زيادة معدّل النموّ الاقتصادي إذا كان هذا الأمر يشكل خطورة على صحتنا؟». ما يمكن استنتاجه من الكتاب أن فكرة «الأجر الاجتماعي» هي الحلّ لحماية الناس من مخاطر البطالة والفقر عبر توفير الرعاية الصحيّة للأفراد بدلاً من رفع قدرتهم على الدفع. النص الآتي هو جزء من خلاصة الكتاب
ماذا نعني بمصطلح «الجسد الاقتصادي» The BODY Economic؟ إنه بالطبع ردّ على مصطلح «الجسد السياسي».
التعريف المعياري للجسد السياسي كما يرد في القاموس هو «مجموعة من الأشخاص المنظّمين تحت سلطة حكومية واحدة، الشعب يُعدّ وحدة جماعية».
لذا، نشرح الجسد الاقتصادي بالشكل نفسه: «مجموعة من الأشخاص المنظّمين بموجب مجموعة مشتركة من السياسات الاقتصادية؛ الأشخاص الذين تتأثر حياتهم بشكل جماعي بهذه السياسات».
لا يعني «الجسد الاقتصادي»، الأنظمة المالية التي نشكل جميعاً جزءاً منها فحسب، بل يُشير أيضاً إلى النتائج الصحيّة للسياسات الاقتصادية. بصفتنا متخصّصين في علم الأوبئة، ندرس أنماط المرض وأسبابه وآثاره. وعندما نفكر في «الجسد الاقتصادي»، فإننا نسعى إلى فهم انعكاس الميزانيات الحكومية والخيارات الاقتصادية على حياة وموت شعوب بأكملها في جميع أنحاء العالم، والمرونة والمخاطر التي يتحملونها.

تحدّد القوى الاقتصادية الأشخاص الأكثر عرضة للإفراط في تناول الكحول، أو الإصابة بالسلّ في مأوى للمشردين، أو الانزلاق إلى الاكتئاب. ويمكن أن تؤثّر هذه القوى، ليس فقط على المخاطر التي يتعرّض لها الناس، ولكن أيضاً على مدى الحماية التي يتمتّعون بها. كما تسهم في تحديد من هم الأكثر حظاً في الحصول على الدعم الاجتماعي، أو في الحفاظ على سقف فوق رؤوسهم. لهذا السبب، إن أي تغيير طفيف في ميزانية الحكومة يمكن أن يكون له نتائج كبيرة، وربما غير مقصودة، على «الجسد الاقتصادي».
ما هي الآثار الصحية للاختيار بين سياسَتي التقشّف والتحفيز الماليّتَين؟ ما يحصل اليوم هو تجربة طبيعية واسعة، يتم إجراؤها على الجسد الاقتصادي. إن الأمر مشابه لتجارب السياسات خلال الكساد الكبير، وأزمة ما بعد الشيوعيّة في أوروبا الشرقية، والأزمة المالية في شرق آسيا. وكما هو الحال في تلك التجارب السابقة، تكشف الإحصاءات الصحية من الركود العظيم في عام 2008، عن الثمن القاتل للتقشّف، وهو ثمن يمكن احتسابه ليس فقط بمعدلات النموّ الاقتصادي، ولكن بعدد سنوات العمر المفقودة والوفيات التي كان يمكن تجنبها.
تجاهَل دعاة التقشف، الأدلة على العواقب الصحية والاقتصادية لتوصياتهم. تجاهلوا الأمر رغم أنه، كما هو الحال مع صندوق النقد الدولي، غالباً ما يأتي الدليل من بياناتهم وأرقامهم الخاصة. ويواصل مؤيدو التقشّف، مثل رئيس الوزراء البريطاني (السابق) دايفيد كاميرون، كتابة وصفات التقشّف للجسد الاقتصادي رغم الأدلة على فشلها.
في نهاية الأمر، لقد فشلت سياسات التقشّف لأنها غير مدعومة بأي منطق سليم أو بيانات تثبت صحّتها. إنها مجرد أيديولوجية اقتصادية، تنبع من الاعتقاد بأن الحكومات «الصغيرة» والأسواق الحرّة تكون دائماً خياراً أفضل من تدخّل الدولة. إنها أسطورة معتقد راسخ بين السياسيين استفاد منه أولئك الذين لديهم مصلحة في تقليص دور الدولة، وفي خصخصة أنظمة الرعاية الاجتماعية لتحقيق مكاسب شخصية. إن سياسة التقشّف تسبّب أضراراً كبيرة، إذ تعاقب الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً، بدلاً من أن تعاقب الذين سبّبوا الركود الكبير.

اتباع التقشف هو خيار غير ملزم
في الأزمات السابقة، جرت الاستجابة لحالات الركود من خلال برامج مثل «الاتفاق الجديد»، الذي طبقه الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت. لم يحُل «الاتفاق الجديد» دون حدوث كوارث في ما يخص الصحة العامة فحسب، بل أنشأ أكثر برامج الحماية الاجتماعية حيويةً في أميركا، والتي استمرت حتى اليوم، مثل برنامج قسائم الطعام والضمان الاجتماعي. أما اليوم فالاستجابة للصعوبات الاقتصادية تأتي عكس سياسة «الاتفاق الجديد». ففي أيار 2009، نفّذ الرئيس (باراك) أوباما قانون إعادة الاستثمار والإنعاش الأميركي الذي ساعد الكثيرين ممن هم في أمسّ الحاجة إليه. لكن برنامج التحفيز المالي هذا انتهى، ويقوم السياسيون الآن بالاقتطاع من أموال برامج الصحة العامة، بما في ذلك البرامج التي تعزّز النمو الاقتصادي وتمنع المصاعب أثناء فترات الركود.
لكن هناك بديل من سياسات التقشف: الخيار الديمقراطي. عانت أيسلندا من أسوأ أزمة مصرفية في تاريخها وتعرضت لضغوط لاتباع إملاءات التقشف. لكن بعد أن نزل الناس إلى الشوارع احتجاجاً، اتخذ السياسيون الأيسلنديون خطوة مهمة. فقد سمحوا للناس بأن يقرروا، بشكل ديمقراطي، ما إذا كانوا سيقبلون بإجراءات التقشف المُرّة لدفع ثمن جشع المصرفيّين. كلمة «لا» الصاخبة التي سُمعت حول العالم من شعب أيسلندا، أثارت الجدل. لكن التاريخ أثبت صوابية خيار الناس. أصبح اقتصاد آيسلندا أقوى من ذي قبل، ورغم الركود الهائل، فقد تحسّن وضع الصحة العامة بالفعل خلال فترة الركود.
فشلت سياسات التقشّف لأنها غير مدعومة بأي منطق سليم أو بيانات تثبت صحّتها. إنها مجرد أيديولوجية اقتصادية، تنبع من الاعتقاد بأن الحكومات «الصغيرة» والأسواق الحرّة تكون دائماً خياراً أفضل من تدخّل الدولة


إذا اتخذنا الخيار الديمقراطي، الحقيقي، فإن الخطوة الأولى تكمن في تحديد ما هي السياسات التي تدعمها الأدلة، وما هي السياسات التي لا أدلة تدعمها. مع وجود مخاطر كبيرة للغاية، لا يمكننا أن نأتمن بقراراتنا إلى الأيديولوجيات والمعتقدات. غالباً ما يروّج السياسيون، من اليسار واليمين، للأفكار القائمة على النظريات الاجتماعية والأيديولوجيات الاقتصادية المسبقة، وليس على الحقائق والأرقام والأدلة القاطعة. فقط عندما يتمكن المواطنون من الحصول على الأرقام والأدلة، يمكن للسياسيّين أن يكونوا مسؤولين حقاً عن اتخاذ قراراتهم، وعن آثار تلك القرارات في ما يخصّ الحياة والموت.
لكسر حلقة برامج التقشف الراديكالية، نحتاج إلى «اتفاق جديد» حديث. تظهر البيانات أن سياسة «الاتفاق الجديد» نجحت في المرة الأولى، وفي المرات الأخرى تمّت تجربتها بأسماء مختلفة. انتعشت الاقتصادات وتحسّنت صحّة الناس. يضمن «الاتفاق الجديد» طريقاً بعيداً من سياسات التقشف نحو جسد اقتصادي أكثر صحة. وليعمل هذا الاتفاق، يجب أن يتبع ثلاثة مبادئ رئيسية: ألا يسبب أي أذى، وأن يساعد الناس للعودة إلى العمل، والاستثمار في الصحة العامة.

أولاً، أن لا يتسبب بالأذى
إن عدم التسبّب بالأذى هو القانون الأسمى للمهن العلاجية. نظراً لأن السياسات الاجتماعية والاقتصادية لها تأثيرات جانبية على الصحة والمرض، يجب أن يصبح شعار الأطباء شرطاً أساسياً لكل هذه السياسات. لكي تعمل الديمقراطيات، نحتاج إلى معرفة العواقب الكاملة لخياراتنا السياسية. نحتاج إلى تقييم السياسات العامة بنفس الصرامة التي نستخدمها لتقييم الأدوية والأجهزة الطبية الجديدة. بعد ذلك يمكن اتخاذ قرارات بشأن المقايضات: هل تفضّل الحصول على ميزانية أقل بنسبة 0.3% على المدى القصير أو 2000 قتيل أميركي آخر؟
لضمان مراعاة الجانب الصحي في جميع السياسات التي تؤثر عليه، يجب إنشاء آليات مراجعة للصحة العامة. على المستوى الفيدرالي، يمكن أن نطلق عليه اسم مكتب «المسؤولية الصحية». يجب أن يكون هناك مكاتب مماثلة في الحكومة على كل المستويات. تكون مماثلة للوكالات الحكومية التي تحمي الجمهور من المنتجات الخطرة والأدوية غير الآمنة. ويقوم مكتب «المسؤولية الصحية» بتحليل البرامج الحكومية و الإفصاح للجمهور عن كيفية تأثير السياسات المختلفة على الصحة العامة.

ثانياً، مساعدة الناس على العودة إلى العمل
في الأوقات الصعبة، غالباً ما يكون الحصول على وظيفة مستقرّة هو الدواء الأفضل. تعدّ البطالة والخوف من البطالة من بين أهم العوامل الدافعة لسوء الصحة التي يواجهها الناس خلال الأزمات الاقتصادية. قد يكون سوق الأسهم عاد في مسار متصاعد، لكن البطالة لا تزال مرتفعة جداً بحيث لا تشكل تعافياً ديمقراطياً حقيقياً، أي تعافياً للجميع، وليس تعافياً للأقلية المحظية فقط. تساعد البرامج المبتكرة، مثل برامج سوق العمل النشطة، العاطلين من العمل، على البقاء نشطين خلال فترات الركود. وتمنع هذه البرامج الاكتئاب والانتحار، ليس فقط بين العاطلين من العمل، إنما بين الموظفين الذين قد يكونون قلقين بشأن فقدان وظائفهم. لكن يمكن أيضاً أن تعيد هذه البرامج الناس إلى العمل، وبالتالي توفر أموال الحكومة في تعويض البطالة وأيضاً تزيد المعروض من العمالة، وهو محرك للنمو الاقتصادي والتعافي.
قد يكون صعباً العثور على الوظائف في فترات الركود، لذا فإن الحافز الاقتصادي ضروري أيضاً للمساعدة في خلق فرص العمل. كما قال كينز، قد يكون من الأفضل توظيف نصف العاطلين من العمل لدفن ورقة خمسين جنيهاً نقدية، والنصف الآخر لاستخراجها مرة أخرى بدلاً من إبقاء الناس عاطلين من العمل وخاضعين لشيكات البطالة. ومع ذلك، إذا كنّا نرغب في بذل المزيد من الجهد لتنشيط العمالة وتعزيز الاقتصاد، فعلينا سن النوع الصحيح من التحفيزات. تعد برامج الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية من بين السياسات المالية ذات العائدات الأعلى على الاقتصاد. ففي حالة قطاع الصحة، يعزز الاستثمار العام في هذا القطاع الاقتصاد بأكثر من ثلاثة دولارات مقابل كل دولار يتم إنفاقه. وفي الوقت نفسه، غالباً ما يكون العائد المالي على الاقتصاد لعمليات إنقاذ البنوك والإنفاق العسكري سالباً. مع هذا النوع الأخير من الإنفاق الحكومي، يتقلص الاقتصاد، لأن الأموال تميل إلى التدفق من المشاريع التجارية الجديدة المنتجة التي توظف الأفراد، إلى الحسابات المصرفية الخاصة والملاذات الضريبية الخارجية.

ثالثاً، الاستثمار في الصحة العامة
إذا كان أي فرد من أفراد الأسرة مريضاً ويعاني، نبذل قصارى جهدنا لمساعدته. نفس المنطق ينطبق على الجسد الاقتصادي. ففي الوقت الذي يُعاني فيه الناس من الركود، يجب على السياسيّين العمل على حماية الناس من مخاطر البطالة والفقر. يجب عليهم سن قوانين توفر الرعاية بناءً على الاحتياجات الصحية للأفراد، بدلاً من قدرتهم على الدفع. قد يؤثّر الركود على أموال الناس وثرواتهم، ولكن لا ينبغي لأحد أن يفقد وصوله إلى الرعاية الصحية بسبب الانكماش الاقتصادي. كمواطنين، يجب أن ندعو حكومتنا إلى اتخاذ قرارات تصون الصحة العامة.
يتم إغفال مدى أهمية برامج الوقاية من الأمراض حتى فوات الأوان. إن المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، ونظراء هذه المراكز في أوروبا، تحمي المجتمعات من الأوبئة المتنوعة مثل الأمراض التي تنتقل من خلال الأغذية والسلّ. فقد ساعد مشروع كاليفورنيا لالتهاب الدماغ، منطقة بيكرسفييلد على الحدّ من وباء «غرب النيل»، ولكن عندما حدث تفشٍ ثانٍ للوباء في عام 2012، أدّت الاقتطاعات في الموازنة، إلى ترك المنطقة من دون مساعدة. هذا الحضور القوي للقطاع العام في الصحّة والرعاية الصحيّة ضروري لتحسين مراقبة الأمراض، ولتسريع الاستجابة للأوبئة، ولتجنّب المزيد من المآسي. في الولايات المتحدة، رأينا ما يحدث عندما نتنازل عن الصحة للقطاع الخاص. تُترك إدارات الصحة العامة لتلملم ما تبقى بعدما تفشل الشركات الخاصة في حماية الناس في الأوقات العصيبة. في أوقات الأزمات، تحتاج برامج الصحة العامة إلى الدعم، وليس إلى التقليص.
لتحقيق تعافٍ بشري حقيقي ودائم، يجب علينا تغيير طريقة تفكيرنا في الأمور الأساسية. النموّ الاقتصادي هو وسيلة لتحقيق غاية وليس غاية بحدّ ذاته. كانت هذه هي البصيرة الأساسية لروبرت كينيدي في خطابه الانتخابي الرئاسي عام 1968، حين تساءل «ما فائدة زيادة معدّل النموّ الاقتصادي إذا كان هذا الأمر يشكل خطورة على صحتنا؟».
عندما نخبر أطفالنا عن الركود الكبير، فإنهم لن يحكموا علينا من خلال معدلات النموّ الاقتصادي أو من خلال خفض العجز في الموازنة العامة. سوف يُحكم علينا من خلال مدى رعايتنا للفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وما إذا كنا قد اخترنا تلبية الاحتياجات الصحية الأساسية لمجتمعنا: الرعاية الصحية، والإسكان، والوظائف. المصدر النهائي لثروة أي مجتمع هو شعبه، والاستثمار في صحتهم اختيار حكيم في أفضل الأوقات وضرورة ملحّة في أسوأ الأوقات.