أقام المنتدى الاقتصادي والاجتماعي ندوة افتراضية في 28 أيلول الماضي حضرها أكثر من 50 شخصية اقتصادية ونقابية وإعلامية، وتحدّث فيها الدكتور إيلي يشوعي والنقيب أمين صالح. كان موضوع الندوة هو إعادة هيكلة الدين العام كجزء من خطة المنتدى للتغيير والخروج من حالة الانهيار الاقتصادي والمالي. مقاربة الدكتور يشوعي ركّزت على ضرورة تخفيف عبء الدين العام، بينما مقاربة النقيب صالح ركّزت على تحميل الخسائر الناتجة من الدين العام للمستفيدين منه. بالنتيجة أوضحت المقاربتان أن تخفيف عبء خدمة الدين عبر جدولة بعض رأس مال الدين أو تحميل الخسائر للمستفيدين، هي محاولة تأتي في إطار النظام الاقتصادي والسياسي القائم، ومن دون المساس بثوابت لم نؤمن بها يوماً، رغم أنها كانت مسلّمات في السرديات الاقتصادية السياسية في لبنان. ففي نهاية المطاف، ليس ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن تخفيف العبء أو توزيع الخسائر سيكون من أولويات الحكومة الجديدة الساعية للعودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول 2019. فالبيان الوزاري، تطرّق إلى العمل بالشراكة مع حاكمية مصرف لبنان لمعالجة الأزمة ولا سيّما لجهة إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

دين شائن وبغيض
في هذا السياق، بات ضرورياً إلغاء الدين العام وشطبه كلّياً. ستكون النتيجة سلبية جدّاً على المصارف، لذا على الدولة إعادة هيكلة القطاع المصرفي برمتّه، وفقاً لنموذج مختلف بعدما برهن النموذج السائد أنه فاشل وغير جدير بالثقة. إذ أخلّ في إدارة الودائع المؤتمن عليها، وما زال يتصرّف بعنجهية ووقاحة وإذلال لمجموع المودعين. في هذا السياق، إن خطّة الحكومة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ترمي إلى ترميم بعض المصارف وتجميع المصارف الصغيرة في بوتقات أكبر مع تغيير لبعض الوجوه، إنما ستُحافظ على ديون الدولة تجاههم كأنها حقّ مقدّس. هذه الخطّة المدعومة بأكثرية نيابية وازنة، ترمي إلى الحفاظ على مصادر السلطة والقوّة لمصلحة الكتلة المصرفية الحاكمة ومن يدور في فلكها.
لكن يمكن شطب دين الدولة بلا تردّد. فلا شرعية لهذا الدين لا في الاقتصاد ولا في القانون ولا في الأخلاق. الشطب ليس ممكناً فقط، بل هو واجب قانوني. إذ إن شرعنة الدين العام مشكوك بأمره منذ تكوينه مع بداية الحقبة الحريرية. وهذا الدين هو دين شائن بالمعنى الذي وصفته الدراسة المميّزة للدكتور حسين العزّي الصادرة عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق في أيلول 2021.
فما هي مواصفات الدين الشائن أو المشين؟
لخّص الدكتور عزّي الأدبيات الصادرة حول موضوع الدين الشائن أو المشين:
- هو بغيض لعدم أخذ موافقة الشعب. المقصود هي الدول الاستبدادية التي تتجاهل الرأي العام وتقوم بتحميل الدولة ديوناً لا يمكن تسديدها. غير أن معظم المقاربة النظرية القانونية تُحاكي الديون السيادية مع أطراف خارجية، بينما الدين العام اللبناني في معظمه دين داخلي وإن كان سياديّاً، بالتالي معالجته لا تستدعي بالضرورة تدخّلاً خارجياً حتى لو كان بالدولار. لكن المشهد اللبناني يختلف، نظرياً على الأقل، عن المشهد الدكتاتوري. لبنان جمهورية برلمانية. صحيح أن نظامه الطائفي يفرز طبقة حاكمة لا تكترث للرأي العام إلاّ في المواسم الانتخابية وعبر شدّ الوتر والعصبية الطائفية والمذهبية، وبالتالي يُفسد الخيار الصحيح الديمقراطي، إلا أنه يصعب اعتبار النظام اللبناني نظاماً ديكتاتورياً بالمعنى المألوف. وما يمكن تطبيقه هو عدم شرعية الديون كما أشار إليها الدكتور جورج قرم في أكثر من دراسة وكتاب ومناسبة.
- كل ما ينتج من نظام سياسي بغيض فهو بغيض. نعم النظام اللبناني بغيض، لكنه لم يأتِ بالقوة عبر انقلاب عسكري أو «ثورة». وُجد النظام اللبناني بحال «توافقية» فرضتها موازين قوّة دولية وعربية ومحلّية يصعب اعتبارها مكرهة بشكل قاطع للإرادة اللبنانية. لذا، لا ينطبق مفهوم «البغيض» كما ورد في دراسة الدكتور العزّي، بل هو «بغيض» لأنه ينذر باقتتال أهلي مدمّر بين مكوّناته، لا يفيد إلاّ الطبقة الحاكمة.
- عِلْم الدائن بأن الدين بغيض، في لبنان الدائن الأساسي هو النظام المصرفي الذي كان يعي أن الدين غير قابل للتسديد وأن فوائده هي ربويّة بامتياز وتخالف قانون النقد والتسليف. كان يُدرك أن شرعية الديون مطعون فيها، وإن كان معظمها موافقاً عليه من مجلس النوّاب (باستثناء معارضة بعض النواب كالوزير السابق بشارة مرهج والأستاذ زاهر الخطيب والأستاذ نجاح وكيم)، لكن هذا المجلس كان مطعوناً بحرّية قراره بسبب ظروف تكوينه في حقبة الطائف حتى 2005. كما أن امتناع حكومات متتالية بعد 2005 عن إصدار موازنة، جعل الإنفاق العام وتمويله من دون موافقة مجلس النواب، ما يجعل هذه الديون التي تراكمت خلال فترة غياب الموازنة وفوائدها، «غير شرعية».
هنا لا بد من تفصيل عملية الاقتراض. الحجة التي كانت وراء الدفعة الأولى من الاستدانة، تمثّلت في إيجاد موارد مالية لتمويل إعادة إعمار الدّمار اللاحق بالبنية التحتية بنتيجة الحرب الأهلية. لكن الاقتراض نُفّذ عبر إصدار سندات خزينة قصيرة الأجل جدّاً (شهر أو شهران) وبفوائد عالية، لذا، هل يُعقل أن الاقتراض كان لتمويل مشاريع إعادة بناء وإعمار تتطلب وقتاً طويلاً نسبياً للتنفيذ، ووقتاً أطول لإعطاء مردود مالي، وبالتالي لماذا الاقتراض على فترات قصيرة جداً؟ لتطمين الدائن؟ لماذا الفوائد العالية، لإغراء الدائن؟ ما هي المعايير التي اعتُمدت لتحديد مستوى الفائدة الذي يُخالف ما يسمح به قانون النقد والتسليف، ويُخالف معظم مستوى الفوائد العالمية، ويُخالف قبل أي اعتبار آخر، منطق الجدوى الاقتصادية والمالية؟ فالمعروف أن الفوائد العالية تكبح النشاط الاقتصادي بسبب التضخّم المالي، وتكبح الاستثمار الذي يشكّل ضغطاً على بنية الكلفة بشكل عام، إنما الوضع لم يكن كذلك في لبنان! وهذه العملية تكرّرت ليس لأغراض تنموية بل لتسديد الدين السابق عبر دين جديد وبفوائد مرتفعة. هذا هو جوهر هرم بونزي الاحتيالي. أما إذا كان الهدف اجتلاب الرساميل، فما هو مبرّر جلب رساميل خارجية لا يمكن توظيفها في الاقتصاد؟ فعندما تعرض الدولة فوائد ريعيّة مرتفعة، تضرب تمويل القطاعات الإنتاجية لأن الدائن لا يتحمل مخاطر مشاريع قد تنجح وقد لا تنجح، بينما لديه مردود مضمون ومكفول وعال جداً.
سياسة الاستدانة لم تكن يوماً بريئة، بل كان واضحاً منذ البداية أنها عملية نهب ونصب واحتيال شارك فيها معظم الطبقة السياسية وقام بتسهيلها حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف اللبنانية، وكان هدفها الوصول إلى الخصخصة


إذا كان الاقتراض لدفع فوائد مرتفعة من أموال الدولة، أي من المكلّفين، إلى حاملي السندات، فهذا تحويل ممنهج لإثراء حامليها على حساب المكلّف اللبناني. الدائن كان يعلم ذلك. هذا ما يجعله شريكاً فاعلاً وواعياً لعملية السلب والتحويل المالي والتضليل الذي رافق تلك العملية. لذا، فإن الدين كان مصاباً بعيب جوهري يُبطله، وهو ناتج عن عملية احتيال وتدليس ما يزيد من بطلانه. وهو أسهم في إفساد المجتمع، وضرب الاقتصاد عن سابق تصوّر، ما يهدّد الأمن القومي الوطني، كما تم بطريقة الإكراه لأن المكلّف اللبناني لم يُسأل عن رأيه.

فلسفة إثراء الـ1%
إلى جانب ذلك، هناك اعتبارات نظرية، فالاستدانة لم تكن لأغراض تنموية، والفوائد المرتفعة ليست مبرّرة اقتصادياً ومالياً، بل كانت لإثراء حاملي السندات والانخراط في حلقة جهنمية بتواطؤ من الطبقة الحاكمة وداعميها إقليمياً ودولياً. الهدف كان لإثراء قلّة قليلة من المحظوظين. في الواقع، هذه هي فلسفة النيوليبرالية. هي الوجه القبيح للفكر الاقتصادي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي الذي يدّعي حرّية التنافس، لكنه فعلّياً يدعم وينظّر للاحتكار بأشكاله المتنوعة كالكارتيلات (cartels) والترستات (trusts) والاحتكار في الشراء (monopsony) والاحتكار العادي (monopoly) واحتكار القّلة (oligopoly). جميعها تجني الريع وليس الربح كما تشرحه النظرية الاقتصادية التي يتم تعليمها في الجامعات. فلنأخذ مثلاً إعادة إعمار وسط بيروت التي لُزّمت لشركة «سوليدير» بلا مناقصة، وهي تقاضت أجرها عبر الاستيلاء على عقارات بطرق ملتبسة في تخمين قيمتها لأصحابها الشرعيّين، وعبر عقارات مستحدثة بعد طمر البحر من جهة مرفأ بيروت حتى خليج الزيتونة (سابقاً خليج السان جورج)... الدين العام لم يكن بهذا الغرض، وهذا ما يزيد الشكوك بشرعيته، ولا سيما أن البنى التحتية كالكهرباء والماء والمواصلات ومعامل النفايات لم يُستثمر بأي منها.
العديد من الدول التي انتهجت النيوليبرالية كان هدفها إيجاد ريع لمصلحة أقليّة لا تتجاوز 1%. والريع هو مجمل المدّخرات الوطنية التي تم تحويلها إلى الأقلية عبر الاستدانة. لماذا هذه اللصوصية الموصوفة؟ لأنهم يستطيعون ولن يحاسبهم أحد. لكن هناك سبب إضافي يطرحه الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، والأستاذ في الاقتصاد (Emeritus Professor) مايكل هدسون: الإفقار المتعمّد للناس. هذا ما ورد في معظم مؤلّفات هدسون، وفي محاضرة مشتركة مع بيكتي أُجريت في 1 تشرين الأول 2021. الدافع هو أن المردود على الاستثمار المالي يفوق النمو الاقتصادي. ماركس أوضح أن نسبة الربح في النظام الرأسمالي يتناقص، بينما وجد الرأسماليون طريقة أخرى لتأمين زيادة مستدامة لنموّ الربح عبر «أموَلة» الاقتصاد والمضاربات المالية عبر إصدار أوراق «تراهن» على المستقبل وليس على الواقع. فنموّ الربح المالي تفوّق على النموّ الاقتصادي ما ساهم في زيادة الفجوة بين أقلّية الـ1% وبين باقي الناس في كل مجتمع.
ثمة عذر اقتصادي لكل ذلك: تشغيل حلقات الاقتصاد من دون رفع الأجور. الواقع، إن ثقافة الاقتراض الاستهلاكي حلّت مكان ثقافة الاستهلاك المستند إلى الدخل. هذا هو هدف بطاقات الائتمان التي أطلقت الاستهلاك إلى مستويات لا تتناسب مع الدخل. ويُلاحظ أن الفوائد على الأرصدة المدينة هي 2.5% شهرياً، أي إن الفائدة المرجوة من الديون المتراكمة من حاملي بطاقات الائتمان قد تصل إلى 30% سنوياً بفعل الفوائد المركّبة. أما على صعيد الشركات، فكان الدين هو «رافعة» لجني مردود أكبر على قيمة رأس مال منخفض. في هذا السياق، من المفيد الإشارة إلى أن مستوى الدين الخاص في الولايات المتحدة وصل إلى أكثر من 28 تريليون دولار، أي ما يفوق الدين العام.
في لبنان، اتبعت الحكومات المتتالية منذ 1993، سياسة الفوائد العالية لتحويل مدخرات المواطن اللبناني إلى حاملي سندات الخزينة بلا أي مردود اقتصادي. ومع الفوائد المرتفعة استطاعت فئة قليلة من حاملي السندات، الإفراط بالاستهلاك المستورد ما أدّى إلى ارتفاع منسوب الاستيراد إلى 20 مليار دولار قبل انفجار الأزمة.

هدف الاستدانة: الخصخصة
سياسة الاستدانة لم تكن يوماً بريئة. كانت واضحة منذ البداية، ولا يمكن الادعاء بحصول خطأ في التقدير. كانت أولاً وأخيراً عملية نهب ونصب واحتيال شارك فيها معظم الطبقة السياسية وقام بتسهيلها حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف اللبنانية. لذا لا يمكن إعفاؤهم من المسؤولية القانونية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي يصبح شطب الدين العام واجباً وطنياً وقانونياً وأخلاقياً واقتصادياً. والشطب يحرّر موارد الدولة من خدمة هذا الدين البغيض، ويمكّنها من تقديم الخدمات الاجتماعية والاستثمار في البنى التحتية التي تعيد ثقة المواطن بالدولة. بحسب مايكل هدسون، إن قيمة الدين العام توازي مدّخرات فئة الـ1% التي تتحكم بمقدّرات البلاد. فالعمل السياسي للتغيير والحدّ من نفوذ جماعة الـ1% هو عبر إلغاء الدين العام! هدف هذه الفئة، هو توحيد المدخرات عبر السطو على الأملاك العامة عبر الخصخصة.
لكن الهدف الاستراتيجي للاستدانة كان وما زال الوصول إلى «الخصخصة». هذه العملية جرت في العديد من الدول، وها نحن نرى فصولها في لبنان، وتحت رعاية صندوق النقد الدولي. والذين سيعترضون على إلغاء الدين العام سيتحجّجون بـ«سمعة لبنان» التي ستتدهور بسبب عدم دفع الديون. هذه السمعة في الخارج، ليست مرتبطة بالقدرة على دفع الديون، ولا سيما أن معظمها ديون داخلية وإن كانت بالدولار، إذ لم يقترض لبنان من مصارف خارجية. بل بالعكس، شاهدنا خلال هذه الحقبة خروج المصارف الأجنبية من لبنان، ما يدل على أن السوق اللبنانية لم تعد مربحة لها رغم الفوائد المرتفعة على السندات. هذه المصارف كانت تعي بأن لعبة البونزي لن تستديم.
أما مصير القطاع المصرفي فلا بد من إعادة تركيبه على قاعدة جديدة، أي أن يكون قطاع منفعة عامة مثل الكهرباء والطاقة وليس بغرض إنتاج الثروة. هذا الأمر يحتاج إلى نقاش بين القوى التي تريد التغيير الفعلي في لبنان.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي