المشكلة في لبنان هي مشكلة الدين العام. الدولة عجزت عن سداده وأعلنت أنها متوقّفة عن الدفع (مع التمييز قانوناً عن الإفلاس). هذا الدين، في الواقع، هو عبارة عن فوائد متراكمة وليست تدفّقات حقيقية دخلت إلى خزينة الدولة. منذ عام 1993 إلى اليوم، كانت الفوائد تشكّل 50% من نفقات الدولة، وفي بعض السنوات، فإن فوائد الدين العام وحدها تجاوزت 137% من نفقات الدولة. اللافت أن لا غرض من الدين سوى سداد خدمته، وعندما عجزت الدولة عن ذلك، لجأت إلى وسائل نقدية عبر خفض سعر صرف الليرة فتكبّد المواطن كلفة هائلة من خلال تضخّم الأسعار وسلب الناس مدّخراتهم ورواتبهم. وبحسب الإحصاءات فإن عجز الموازنات العامة يبلغ 124 ألف مليار ليرة، بينما فوائد الدين المتراكمة تبلغ 131 ألف مليار ليرة. فوائد الدين هي أكبر من عجز الموازنة. فإذا استبعدنا أقساط الدين، يَظهر لدينا وفرٌ في قطع حساب الدولة بقيمة 4 مليارات دولار. الخروج من الأزمة يتطلب إسقاط الدين العام. هذا الدين العام هو خسائر على الدولة لا يمكنها تسديدها طالما أنها عبارة عن فوائد مركبة مرتفعة أدّت إلى تضاعف الدين خمس مرات بنحو 10 سنوات. تحديد الخسائر يجب أن يبدأ على هذا الأساس: خسائر توقف الدولة عن الدفع، خسائر مصرف لبنان نتيجة نشاطه، وخسائر المصارف نتيجة نشاطها أيضاً، والمودعون الشركاء في عملية المكاسب.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

ارتفع الدين العام من 138% في عام 2014 إلى نحو 160% في عام 2019. وبلغ إجمالي الدين العام حتى نهاية 2020 نحو 144,108 مليار ليرة، أي ما يعادل 95.59 مليار دولار. في المقابل، بلغت نسبة الفوائد من إجمالي الدين العام خلال الفترة الممتدة بين عامَي 1993 و2019، نحو 92.8% وإذا استثنينا ما حصل في عام 2020 لجهة توقف الدولة عن تسديد سندات اليوروبوندز، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 91%. لكن من المهم الإشارة إلى أن التوقف عن الدفع لا يعني الشطب أو الإلغاء بل قد تلجأ الحكومة تحت الضغط إلى إعادة دفع هذه الفوائد.
عملياً، بلغت نسبة الزيادة في الدين العام من عام 1993 حتى عام 2020 نحو 2070%، بينما بلغت قيمة الفوائد المدفوعة عن الفترة نفسها نحو 131145 مليون ليرة. وقد تبيّن أن 36% من الإنفاق الحكومي ما بين 1993 و2018، ذهب فوائد الى الدائنين. كان هذا ربحاً للمصارف التجارية ولكبار المودعين. وهذا المبلغ وحده كافٍ لحل أزمة لبنان المالية والاقتصادية وأزمة السكن والاستثمار في الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ومعالجة أزمة الفقر والبطالة وتدنّي الخدمات الاجتماعية، بينما قدّمته الطبقة الحاكمة هدية إلى مالكي المصارف وأصحاب الودائع الكبيرة والذين يشكلون 1% من المودعين وهم نفر قليل جداً من اللبنانيين.
36% من الإنفاق الحكومي ما بين 1993 و2018 ذهب فوائد إلى الدائنين


إن تضخّم كلفة فوائد الدين العام سببه الأساس السياسة النقدية المعمول بها من قبل مصرف لبنان بالاتفاق مع المصارف ووزارة المال ولا سيما بعدما وصلت أسعار الفوائد إلى 43% في بعض الأحيان. وإلى جانب ذلك، هناك أسباب أخرى أقلّ أهمية مثل الإنفاق على الكهرباء الذي استحوذ على 15% من نفقات الحكومة في الفترة المذكورة، أو ما يعادل 28 مليار دولار. أُنفق هذا المبلغ لتشغيل مؤسّسة كهرباء لبنان من دون إنشاء أي معمل إنتاج للكهرباء، ويترتب عليه فوائد لا تقلّ عن 12 مليار دولار. إنما في النتيجة، لا كهرباء في البلد حتى اليوم، بل مجرد قانون أقرّته السلطة الحاكمة، يقرّ صلاحيات للوزير بإعطاء امتيازات مرافق عامة خلافاً لأحكام المادة 89 من الدستور، هذا بالإضافة إلى شرعنة مافيات النفط والمحروقات والمولّدات في الأحياء والأزقة والبلدات بحسب الطوائف والمذاهب.
لكنّ الإنفاق لم يكن محصوراً في هذه الأبواب. فالإنفاق على الرواتب والأجور بلغ 31% من مجمل النفقات في الفترة المذكورة، لكنه ذهب إلى نحو 360 ألف عائلة لا يمكن تحميلها وزر الحشو الذي مارسته قوى السلطة في الإدارة العامة. والإنفاق الجاري تضمّن تحويلات إلى مؤسّسات عامة وخاصة لا جدوى منها، أو مؤسّسات تدّعي أنها لا تبغي الربح، أو عطاءات خاصة لا اسم لها، ودعم فوائد القروض السكنية والصناعية والزراعية التي يستفيد منها كبار الأغنياء وعلية القوم. من هذه المؤسسات:
- 101 صندوق ومؤسسة وهيئة وبرنامج ومشروع داخل القطاع العام يُخصص لها في الموازنة العامة مبلغ 2486 مليار ليرة.
- 81 هيئة لا تبغي الربح يُخصص لها 312 مليار ليرة.
- 63 جهة خاصة غير مسماة يُخصص لها 45 مليار ليرة.


نتج عن هذا الإنفاق عجز في الموازنات العامة بلغ 120804 مليارات ليرة بين عامَي 1993 و2019. في المقابل، بلغت قيمة الفوائد المتراكمة على الدين العام عن الفترة نفسها نحو 128228 مليار ليرة. أي أن نسبة الفوائد إلى العجز بلغت 106.15%، أما في حال كانت الفوائد في لبنان مثل المعدلات العالمية، فتصبح نسبة الفوائد إلى العجز تساوي 34.75% وتكون نسبة الوفر 71.4%. لذا، لا بد من التوقف ملياً أمام الفرق في الفوائد بين المستوى المحلي والعالمي والذي بلغ نحو 86257 مليار ليرة ونسبة 67.26% من إجمالي الفوائد، ويساوي 62.43% من إجمالي الدين العام، وذلك حتى عام 2019. السبب في ذلك يعود إلى الفارق الكبير بين معدلات الفوائد المفرطة التي دفعتها الحكومات ومعدلات الفوائد في أسواق النقد العالمية.
إذاً، ما الغرض أو الغاية من الدين العام في لبنان؟ عملياً، إن هدف الدين العام هو خدمة الدين العام. إذ لم يكن له دور في زيادة الإنتاج، أو رفع مستوى الدخل الوطني، أو في تنمية الموارد وبناء اقتصادَات الدولة أو في تنمية وحسن استخدام موارد الدولة أو تحقيق استقرار الدخل ومحاربة الفقر والبطالة. في المقابل، رتّبت فوائد الدين العام أعباء كبيرة على الاقتصاد الوطني مثل حجب الأموال عن الاستثمار الحقيقي المنتج، وتحوُّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي. فضلاً عن آثار انكماشية ناتجة من تحويل قوّة شرائية من الطبقات الفقيرة عبر ما فُرض عليها من ضرائب غير مباشرة إلى الطبقات الغنية التي تملك معظم سندات الدين العام والتي تكتنز أصلاً المال ولا تسعى إلى إعادة استثماره في الاقتصاد المنتج. وأدى ذلك إلى خفض الإنتاج الوطني وسوء استخدام الموارد الاقتصادية. كلّ ذلك أدّى إلى إفلاس الدولة وتعثّرها وعجزها عن سداد سندات الدين العام فأعلنت عن توقفها عن دفع السندات بالعملة الأجنبية وكذلك نقل عبء هذا الدين إلى الأجيال المقبلة والحدّ من حرية الدولة في توزيع النفقات العمومية، ولا سيما الإنفاق على الشؤون الاجتماعية كالتعليم والصحة والإسكان وغيرها من الخدمات الاجتماعية والخدمات الأساسية للمجتمع.

* النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان