ليس جديداً على لبنان أن يركب أبناؤه قطار الهجرة كلما ألمّت بوطنهم جائحة. فخلال سنوات الحرب العالمية الأولى وما رافقها من ويلات، حمل تيار الهجرة العاصف، نصف اللبنانيين على الأقل. يذكر المعمّرون في بلدتنا أن نصف شبابها تركوا بلدهم وغادروا على متن مركب تجاري أبحر من ميناء صور، ليرميهم على شواطئ بادان في أميركا اللاتينية. حتى قيل: إن البرازيل وحدها، تأوي جالية لبنانية أو يتحدّر أفرادها من أصول لبنانية، يفوق عددها عدد سكان لبنان.بعد مضي أكثر من نصف قرن على تلك الهجرة، عصفت بلبنان حرب أهلية مدمّرة تسبّبت بهجرة ما لا يقل عن ثلث شباب لبنان. هاموا في أربع رياح الأرض هرباً من شظف العيش في بلادهم وبحثاً عن ملاذٍ آمن، وطلباً للعمل والرزق. أخطر ما في تلك الموجة، أنها حملت معها خيرة الكوادر من العاملين في المؤسسات التربوية، وفي الإدارات العامة والخاصة. من بين هؤلاء بعض الأساتذة العاملين في الجامعة اللبنانية، وبعض كبار الفنيين والاختصاصيين العاملين في المؤسسات العامة والخاصة...
اليوم، بعد مرور نحو خمسين عاماً ،تعرّض لبنان مجدداً إلى حرب دارت رحاها على جبهتي كورونا، والحرب الاقتصادية الشاملة التي تمثّلت في انهيار العملة الوطنية والقدرات الشرائية للمداخيل، وتضخّم هائل... ما أدّى إلى سقوط نحو 82% تحت خطّ الفقر بحسب دراسة أعدّتها أخيراً منظمة إسكوا. وإلى جانب الفقر المدقع، برز تيار الهجرة مجدداً، حاملاً معه آلاف الكوادر العلمية والفنية والقوى الحية والكفاءات. أبلغ تعبير عن هذه الظاهرة، ما صرح به اللواء عباس إبراهيم أخيراً عن أن مكاتب الأمن العام تتلقى يومياً، 10 آلاف طلب جواز سفر، يُنجز منها 3 آلاف طلب في اليوم الواحد. وقد وصل عدد الجوازات غير المنجزة، إلى نحو 50 ألفاً. فإذا افترضنا أن نصف طالبي الجوازات، يحصلون على تأشيرات من السفارات. فذلك يعني أن عدد اللبنانيين الذين يغادرون لبنان إلى الخارج، سيصل إلى نحو مليون مهاجر.
أخطر ما في هذه الموجة، هو هجرة الأدمغة والكوادر العلمية. فقد صرّح نقيب الأطباء أن نحو ألف طبيب وممرض غادروا لبنان حتى الآن، وأكثر من ألف آخر طلب إذناً من النقابة، بالسماح له بالمغادرة.
وقد امتدت جائحة الهجرة إلى الجيش، وقوى الأمن الداخلي، إذ تشير بعض المصادر إلى أن عدد المغادرين وطالبي المغادرة والوضع في الاستيداع، أصبح يعدّ بالآلاف في صفوف القوى الأمنية.
وصل عدد الجوازات غير المنجزة، إلى نحو 50 ألفاً


وإذا كان لهجرة الشباب بعض المنافع المادية والانعكاسات الإيجابية على الاقتصاد، ومن بينها رفد أهلهم بالمساعدات المادية والعملة الصعبة، فإن لها آثاراً سلبية تفوق ذلك بكثير:
- خسارة الكفاءات العلمية والفنية، وهجرة الأدمغة المنتجة، وحرمان الجامعات ومراكز الأبحاث في الوطن من عطاءات ومنجزات هذه الكوادر التي لا تعوض.
- الخلل البنيوي الاجتماعي والديموغرافي الذي تسبّبه هجرة الشباب، والتي تؤدي إلى ارتباط معظمهم بزوجات أجنبيات لتسهيل الحصول على الجنسية الأجبنية على حساب اللبنانيات.
- سرعة اندماج اللبنانيين مع المجتمعات الجديدة وسهولة الحصول على جنسيات في تلك البلدان بينما المهاجر المصري، على سبيل المثال، يرفض التخلي عن جنسيته لصالح جنسية أجنبية، رغم ما فيها من منافع ومكتسبات له، وذلك يعود إلى اعتباره مصر أم الدنيا، ولا بديل لها. وهذا يعود، إلى أن لبنان لم يشكل قط، بالنسبة لغالبية سكانه، وطناً نهائياً. هناك شريحة واسعة من الشباب، ما زالت تؤمن بأن لبنان هو جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وأن بعض قياديّيه كانوا قد اعترضوا على انضمام مناطقهم إلى دولة لبنان الكبير إبّان الإعلان عنها. كما أن شريحة أخرى من الشباب تعتبر أن لبنان جزء لا يتجزأ من سوريا الطبيعية. وحتى الذين يؤمنون بلبنان وطناً نهائياً يعود تاريخه إلى العهد الفينيقي، تراهم لا يصمدون لحظة إذا عرضت عليهم جنسية فرنسية أو بريطانية أو أميركية...
يعود الاستهتار بالوطن وضعف الانتماء إليه إلى أسباب موضوعية مبررة. فهو وطن لم يوفّر لأبنائه على امتداد عهود ما بعد استقلاله، شروط العيش الكريم، ولا الاستقرار الآمن. فسكانه يعانون العطش والجفاف رغم أن وطنهم يعتبر قصراً مائياً. كذلك يعيش سكان هذا الوطن في عتمة شبه دائمة رغم ما أهدرته السلطات المتعاقبة من أموال في مجال توفير الطاقة تفوق 40 مليار دولار أميركي. هذه المبالغ تكفي لبناء عشرات معامل إنتاج الطاقة الكهربائية. وبسبب السياسات النقدية التي مارسها مصرف لبنان، والسياسات المالية التي مارستها وزارة المال بالاتفاق مع المصارف ومصرف لبنان لتنظيم عمليات النهب، خسر اللبنانيون ثرواتهم ومدخراتهم. كذلك، ترك اللبنانيون حقولهم ومراعيهم فأصابها القحط. وفشلت الإدارة الزراعية والمائية. وانكشف لبنان في خبزه وغذائه واعتماده كلياً على الخارج.
هكذا لم يبق أمام اللبنانيين مفرّاً سوى الهجرة والبحث عن فرصة عمل وخدمات معقولة. إذاً، لماذا نعتب على الذين غادروا، أو على الذين يعدّون العدّة للمغادرة. فغالبية رواتب اللبنانيين بالكاد تغطّي حاجة واحدة من حاجاتهم الأساسية. أما رواتب الفئات الدنيا من الموظفين، فهي بالكاد تغطي اشتراك الكهرباء في المولّد الخاص، وبات بدل النقل من البيت إلى مكان العمل يعادل ضعفي الحد الأدنى للأجور. أما الحاجات الغذائية لعائلة مؤلفة من خمسة أشخاص، فهي تساوي 5 أضعاف الحدّ الأدنى للأجور. في مقابل متوسط للأجر الشهري لا يتجاوز ضعفي الحدّ الأدنى. ثمة الكثير من الشواهد على هذا الوضع ضمن طوابير الذل على محطات المحروقات، أو مستوعبات نقل مياه الخدمة، أو ساعات التقنين القاسية... لذا لا عجب أن ترى اللبنانيين واقفين صفوفاً أمام أبواب السفارات للحصول على تأشيرة تمكنهم من مغادرة وطنهم الذي تحوّلت الحياة فيه إلى «جهنم» لا تطاق. فهم بذلك ينفّذون وصية آبائهم وأجدادهم التي تقول: الهجرة من الوطن أفضل من العيش الذليل في ربوعه.

* مهندس زراعي