بوضعها الحالي، تنتج مؤسّسة كهرباء لبنان، نحو 720 ميغاوات، أي ما يوازي 19% من مجمل الطلب الاستهلاكي. هذه الكمية من الكهرباء تكفي لتوزيعها على المشتركين في كل لبنان بمعدل 4.5 ساعات تغذية بالتيار يومياً، بينما يعتمد السكان على مولدات الأحياء من أجل الحصول على ساعات تغذية إضافية. المولّدات بدورها لا تُنتج أكثر من 12 ساعة تغذية يومياً بالحدّ الأقصى، أي أنّ مجمل ما يفترض أن يحصل عليه المقيمون في لبنان ضمن الحدّ الأقصى لا يتجاوز 16.5 ساعة يومياً من الكهرباء. لكنّ المسألة ليست بهذه البساطة. فالحصول على الكهرباء في لبنان ليس يسيراً، وليس مستداماً ومستقراً، فالمستهلك لا يمكن أن يتوقّع أن يحصل على 16.5 ساعة تغذية بالتيار الكهربائي يومياً، بل أقصى طموحه أن يحصل على هذه الساعات، وهو يأمل بأن لا تكون التغذية متدنيّة كثيراً.

- من جهة، تخضع مؤسسة كهرباء لبنان ومولّدات الأحياء إلى الرّغبات الاستنسابية لحاكم مصرف لبنان في فتح الاعتمادات الخاصة بتمويل الوقود اللّازم لإنتاج الكهرباء. هو امتنع عن تمويل استيراد الفيول لمعامل المؤسسة، واستعاض عن ذلك بفتح الاعتمادات على مصراعيها لبواخر المازوت المستعمل في مولّدات الأحياء. لاحقاً اشتكى من استنزاف المولّدات للمازوت، واستعمل هذا الأمر كوسيلة ضغط لرفع الأسعار الداخلية لمبيع المازوت في السوق المحلية. نتج عن ذلك تضاعف تعرفة المولدات أكثر من 13 مرّة مقارنة مع تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان، كما أدّى إلى تقنين شاملٍ وقاسٍ يعانيه السكان من المؤسّسة والمولّدات على حدّ سواء.
- من جهة ثانية، يخضع إنتاج وتوزيع الكهرباء عبر مولدات الأحياء لاعتبارات وأكلاف احتكارية تُضاف إلى الأكلاف الفعلية التي يفرضها سلامة على المستهلك بسبب رفع أسعار المازوت. ففيما كانت وزارة الطاقة تسعّر تعرفة الكيلواط الواحد المنتج بواسطة مولدات الأحياء في آب الماضي بقيمة 2603 ليرات، كانت هناك تسعيرات أعلى مجباة بواسطة أصحاب المولدات وصلت في أقصاها إلى 4000 ليرة عن الكيلواط الواحد، ما عدا الأكلاف الثابتة غير المتحرّكة. هذه الأكلاف تفرض بسهولة على المشتركين لأن أصحاب المولّدات هم عبارة عن مافيات خاضعة لرغبات حزبيّة أو طوائفية أو مناطقية، أو خليط من كل هذه العناصر.
والمشكلة أن ارتفاع التعرفة بهذا المستوى، لم يكن انعكاسه على الأسر من خلال تآكل إضافي في مداخيلها فقط، بل كانت له انعكاسات على أصحاب المهن التجارية والخدماتية والحرفية الصغيرة نسبياً. هذا النوع من الأكلاف قد يكون قاتلاً بالنسبة لهذه الشريحة وقد يفرض على عدد منها الإغلاق للحدّ من الخسائر، ولا سيّما أن هذه الشريحة لديها قدرة محدودة على زيادة الأسعار. فهي تنتج في بيئة فقيرة نسبياً، وبالتالي لا مرونة واسعة لدى المستهلكين على استيعاب زيادات كبيرة في الأسعار.

على أي حال، يتمكّن أصحاب المولدات من فرض تعرفات مرتفعة، متذرّعين بأنهم يشترون المازوت من السوق «السوداء» بأسعار أعلى بكثير من السعر النظامي الذي على أساسه يتم تحديد تعرفة مبيع الكيلواط المنتج بواسطة المولّدات. ووجود السوق السوداء لمبيع المازوت مرتبط أيضاً بحاكم مصرف لبنان مباشرة. فهو يحدّد الكميات التي سيتم تمويلها وإدخالها إلى السوق، ويتحكّم أيضاً بتوقيت دخولها، وبالتالي فإنه يتحكّم بسلاسل التوريد في السوق بهدف تقنين الكميات، وهذا أمر كاف لوحده حتى يخلق «السوق السوداء».
إذاً، قطاع الطاقة في لبنان يخضع للمافيات من ثلاث جهات: مافيا سياسية لم تتمكن من توسيع القاعدة الإنتاجية لمعامل مؤسسة كهرباء لبنان لأنها اختلفت على حصصها من الاستثمار المفترض في هذا القطاع قبل الأزمة، مافيا احتكارية لمولّدات الأحياء تحظى بتغطية حزبية أو مناطقية أو طائفية وهي تمثّل حاجة ملحّة للسكان في ظل غياب الكهرباء النظامية، مافيا مصرف لبنان الذي يتحكّم بتمويل الاستيراد في ظل الأزمة الراهنة ما أدّى إلى نشوء سوقٍ «سوداء» لمبيع المشتقات النفطية، وخصوصاً المازوت، لن يكون سهلاً إغلاقها من دون تشريعها وقوننتها، أي الاعتراف بأسعارها والتعامل فيها. الهدف أن تكون الأسعار القانونية هي أسعار السوق «السوداء»، أي أن يرضى المستهلكون بما لم يرضوا به سابقاً عندما كان هناك حديث عن زيادة تعرفة الكهرباء مقابل حصولهم على التيار مع وعدٍ بأن يكون منتظماً في المستقبل.