خارج عائلة الخليل وصيادي السمك في صور، وخارج الأشهر الأخيرة الماضية، لم يكن أحد قد سمع بيوسف الخليل قبل أن يتم ترشيحه ليكون وزيراً للمالية. صورته الأولى كممثّل للعائلة الإقطاعية - المتمرّدة، جزئياً، على زعامة نبيه برّي في صور، حلّت محلّها صورة الموظّف الذي يأتمر بتعليمات رياض سلامة إلى حدّ الخضوع المتأخّر لسلالة الميليشيات. هذا هو المشهد جنوباً. إنما الصورة الحقيقية للخليل، فهي أنه كان يطمح ليكون «ثورياً» بتقرّبه من صفوف الجبهة الشعبية، لكنه أصبح اليوم مجرّد انعكاس لإرادة حاكمه رياض سلامة. لا يقول «لا» أبداً. انخرط في هرم تسلسلي للدفاع عن المنظومة بدلاً من الثورة عليها. صورته التالية ستكون أسوأ؛ موظّف وديع برتبة وزير مال. هي صورة مماثلة لسلفه غازي وزني الذي ينطبق عليه تعديل بسيط: خبير وديع برتبة وزير مال.
نهاد علم الدين ــ لبنان

يوسف الخليل الرجل الدمث الأخلاق والمتّزن، كان ثورياً في زمن مضى. بقيت شعلة من هذه الثورة في داخله ليؤسّس في عام 1998 جمعية «قدرات إنماء الريف». منحت هذه الجمعية القروض المصغّرة لمئات العائلات. ردّد دائماً أنه تربّى في صور مع صيادي الأسماك. الفئة «الأكثر تهميشاً» كما يوصفون على موقع الجمعية. كانوا يحققون 15 دولاراً لكن إيراداتهم اليومية تتدنّى إلى 7 دولارات (وفق سعر الصرف النظامي 1507.5 ليرات) يومياً تبعاً لظروف الطقس والصيد في البحر. يرد على موقع الجمعية أنه لم يكن لديهم أي تغطية صحية، ولا أي خطة تقاعد... هذه كانت المعركة الحقيقية في حياة يوسف الخليل. صيادو الأسماك في صور لم يكونوا ملكية برّي أو حركة أمل. وفي المقابل، لم يكن الخليل في موقع المهادنة مع سلالة الميليشيات، بل في موقع المتمرّد عليها في عقر دارها: صور وصياديها. منحت الجمعية القروض المجهرية للصيادين، ولمهمّشين آخرين في صور، لكنّ المشروع الأكبر كان في إنشاء مساكن أو تعاونية إسكانية لعائلات الصيادين.
علاقة النفور، إن لم نقل العداوة، بين بري - أمل، وبين يوسف الخليل، سرعان ما تتبخّر في خضمّ الحديث الجاري عن اتفاق على الخليل ليكون وزيراً للمالية العامة. أن يوافق ويصرّ نبيه برّي على الخليل في موقع التوقيع الشيعي الأهمّ في السلطة التنفيذية، لا يستنتج منه سوى أن سلامة، تمكّن من إقناع برّي بجدوى هذا الأمر. الاتفاق على الخليل يعني تبدية مصالح على أخرى. مصالح برّي في إدارة الوزارة، مقابل مصالح برّي في إعادة إحياء المنظومة. هذه هي القناعة السائدة عند برّي وسلامة. فالمنظومة أهمّ لأنها مصدر «الزرق»، بخلاف «قنوات التوزيع» المتمثّلة في الوزارات وعلى رأسها وزارة المال. موقع الخليل في المنظومة يأتي في التسلسل الهرمي نفسه. موظّف ينفّذ تعليمات الحاكم.
لطالما كان الحاكم معتقداً بأن المنظومة تنهب بطريقة عشوائية - غير مؤسّساتية. باعتقاده أنهم أتوا من مدرسة الميليشيا التي تخلق المال بالعنف والفوضى، بينما هو آتٍ من مدرسة البورصات في إدارة الثروة ونهب المال عبر «ربطات العنق». النهب بالتأكيد متاحٌ بطريق مؤسّساتية. هذا ما فعله في مصرف لبنان مقابل ما فعلته المنظومة في مواقعها التشريعية والتنفيذية والقضائية وسواها. خلقوا فراغاً في بنية الدولة وقرارها، وهو شغل الفراغ على طريقته. الخليل كان انسيابياً في هذا السياق، لم يخالف يوماً أي قرار تتخذه المنظومة في إطار النهب أو في إطار الدفاع عن وجودها. فما يقوله الحاكم يسري. وما يقوله برّي للحاكم يسري. وباستثناء تلك المعارك الهامشية في صور، لم يقل الخليل «لا» أبداً. لم يقل «لا» للهندسات المالية. الفوائد الباهظة التي دفعها مصرف لبنان للمصارف، وهذه الأخيرة دفعت قسماً منها للزبائن، كلّها كانت عبارة عن دولارات مسروقة. هذه الدولارات خلقها مصرف لبنان بإشراف الخليل، وطارت إلى الخارج تحت أعين مصرف لبنان والمصارف. الخليل كان يعلم؛ أما رفع هوامش الفائدة بين الداخل والخارج، باعتبارها قناة أساسية لاستمرار تدفق الأموال من أجل نهبها في الداخل، فقد تمّ الأمر بإشراف من الخليل أيضاً. هو يعلم الكثير عن طرق وأهداف العمليات التي يقوم بها مصرف لبنان. لكنه لم يسمح لنفسه يوماً بتخطّي «مصدر» رزقه. هذا «المصدر» أعطاه، كمدير في المصرف، مزايا مهمة من راتب وقروض خيالية بصفر في المئة أو أقل من 1%، تقسيط سيارته الـ«أودي»... ليست حياة مترفة على نسق رجال الأعمال، إنما حياة مترفة لموظف في الفئة العليا من الإدارة المالية. تكنوقراط يمكنه أن يقوم بالمهمات التي تُطلب منه.
أن يصرّ نبيه برّي على يوسف الخليل في موقع التوقيع الشيعي الأهمّ في السلطة التنفيذية، لا يستنتج منه سوى أن سلامة أقنعه بأن مصلحته تكمن اليوم في إنقاذ المنظومة مقابل تغاضيه عن مصالح توزيع المال العام عبر وزارة المال


ما سيكون على عاتقه في الأيام المقبلة، هو أنه سيكون في موقع مناوئ لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هو الوصي على عمله، وهو الطرف الآخر من التكامل بين السياسات. هو يمثّل السياسة المالية بينما كان حاكمه يمثّل السياسة النقدية. هذه الأخيرة لطالما كانت تتهم السياسة المالية بأنها مركز الفساد، رغم التواطؤ المكشوف بينهما. الآن سيرى الخليل من موقع النقيض، أين مركز الفساد. سيرى الخليل أنه كان يمثّل مصرف لبنان في جلسات التفاوض مع صندوق النقد الدولي، لكنه الآن سيمثّل قوى السلطة في هذا الموقع. في المرّة السابقة، لم يكن ممثلو الصندوق راضين عن إجابات الخليل المتهرّبة عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي. لم يصدقوا أن الخليل قدّم لهم سيناريو بأن إعادة الهيكلة لا تضرب أكثر من أربعة أو خمسة مصارف، بينما سيناريواتهم تشير إلى إفلاس العدد الأكبر من المصارف إن لم يكن كلّها. ماذا سيفعل الخليل إذا سأله ممثلو صندوق النقد الدولي عن الطريقة الحالية التي يقوم بها حاكمه لإطفاء الخسائر؟ هل سيبلغهم أن هذا شأن لبناني سيادي؟ أم أنه سيطلب منهم التعامل مع رياض مباشرة؟ هل سيقول لهم إنه عبد مأمور؟ هل سيقف أمامهم متوعّداً رياض وإجراءاته الخنفشارية لإطفاء الخسائر؟
كل ذلك يقود نحو السؤال الآتي: ما هي القيمة المضافة التي سيقدّمها الخليل في وزارة المال بخلاف ما يقدّمه حالياً غازي وزني؟ لربما لن يوافق الخليل على أن يكون لديه مستشار من عين التينة يدير الوزارة بكل تفاصيلها كما يفعل علي حمدان حالياً. لكن الأمر يأتي في إطار المفاضلة التي أجراها بري عند اختياره وزيراً للمالية: إنقاذ المنظومة أهم من إنقاذ المصالح الضيقة التي تمرّ عبر الوزارة. قد يعلن الخليل، من موقعه كوزير للمال، «توبة» قوى السلطة عن الاستدانة التي أوصلتنا إلى هذا الانهيار. لم لا، فسلامة يقدّم المشكلة بأنها تتعلق باستدانة الدولة وطمع قوى السلطة في النهب. مثله مثل كثيرين، يخلطون بما قام به النموذج منذ عقود: تحويل الموجودات الخارجية إلى موجودات محلية. تحويل الدولارات الآتية من الخارج إلى قنوات التوزيع المحلية. الدين السيادي، أو الاستدانة، هي إحدى هذه القنوات، وليست كلّها، بل إن مصرف لبنان هو القلب النابض لكل قنوات النهب. هو محرّكها. مصرف لبنان، كان يضمن استمرار هذا النموذج لعقود. وهو نموذج لم يخترعه سلامة، إنما كانت له فيه قيمة مضافة تتعلق بتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار منذ 1997 لغاية 2019. اثنتان وعشرون سنة من دعم الاستهلاك ونفخ القدرات الشرائية على حساب المال العام. هذا هو إرث رياض سلامة. الأمر لا يتعلق بالدين السيادي. بالفعل السيادة كانت غائبة، وأتقن سلامة لعب دور البديل. قروض مدعومة بالجملة والمفرق. هندسات مالية من كل صنف ونوع. للحقيقة لا توفى الهندسات حقّها عن الحديث عن تلك العمليات التي أشرف عليها الخليل منذ 2017 ولغاية اليوم. فالهندسات هي عملية «تركيب طرابيش» يقوم بها سلامة منذ تسلّمه الحاكمية. عدد كبير من المصارف حصل على قروض من مصرف لبنان بفوائد متدنية، ثم أُعيد في اللحظة نفسها توظيف الأموال المقترضة لدى مصرف لبنان بفوائد مرتفعة، ثم أعيد حسم هذه القروض قبل استحقاقها لتمويل رساميل المصارف وإنعاش حملة الأسهم... أليست هذه أبشع وأحقر أنواع الهندسات. هناك عشرات العمليات التي نُفّذت في مصرف لبنان بهذا المستوى من الحقارة.
أليست الهندسات نقل كمية من المال من محفظة إلى أخرى. مصرف لبنان هو قلب هذه العملية. يضمن وصول التدفقات، ويشرف على توزيعها. لكن عملية النقل لتكون مربحة لطرف ما، عليها أن تكون خاسرة لطرف آخر. في حالة مصرف لبنان والمصارف والهندسات، فإن الطرف الخاسر كانت التدفقات، أي الودائع الآتية من المغتربين في الخارج. 88 مليار دولار من ودائع الناس أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان. وبطرق توزيع مختلفة، أنفقها مصرف لبنان ولم يبق منها شيء. ألا يعلم الخليل ذلك؟ بالطبع يعلم. هل سيفعل شيئاً؟ لا لن يفعل شيئاً سوى المشاركة في طمس الأدلة في مسرح الجريمة. مسرح الجريمة يمتدّ بين مصرف لبنان ووزارة المال. وجود رياض بكل ثقله في الطرفين يمهّد لإتمام المهمة. وجود برّي في المجلس النيابي غطاء سياسي - تشريعي ملائم لهذه العملية. وجود ميقاتي هو أيضاً غطاء من السلطة التنفيذية. بتعيين الخليل وزيراً للمال، يتمكن سلامة من السيطرة على مسرح الجريمة للتفاوض مع المحقق الدولي (صندوق النقد الدولي). بين الأخذ والردّ مضت سنتان بعد الانهيار خلالها ارتفع سعر الصرف إلى 20 ألف ليرة، وتضخمت الأسعار بنحو 300%، واتّسعت قاعدة الفقراء في لبنان لتشمل أكثر من 70% من العائلات المقيمة، والهجرة بدأت تتفاقم. ماذا سيفعل الخليل؟