فجأة صارت كل يومياتنا في لبنان مرتبطة بـ«السوق السوداء». التسمية وحدها تدلّ على منشأ هذه السوق يوم رأى الرجل الأبيض أنه متفوّق على الرجل الأسود بسبب لون بشرته. لكن الأزمة في لبنان حوّلت الأمر إلى «اكتشاف» وربطت نشوء هذه الأسواق بالسلع المدعومة انسجاماً مع الأفكار السائدة عن هذه السوق وأسباب نشوئها. فكرة ارتباط زوال السوق السوداء بزوال الدعم هي الفكرة التي يُروَّج لها حالياً في لبنان، وهي واحدة من الأفكار التي رُوّج لها عالمياً منذ عقود. بحسب تعريفات منظّري النيبوليبرالية، فإن هذه السوق تنشأ تفلّتاً من الضوابط الحكومية على الأسعار. ميلتون فريدمان هو الأكثر جرأة بين هؤلاء المنظّرين: «هي طريقة لتمكين السوق الحرّة من العمل». المنظومات المؤسّسية للنيوليبرالية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة، تتحدث عن مشكلة تدخّل الدولة في السوق بشكل مباشر أيضاً. برأيهم، يجب أن يكون العرض والطلب في السوق بعيداً من تدخّل الدولة، حتى تُتاح ليد آدم سميث الخفية إعادة التوازن إلى السوق. فإذا تدخّلت الدولة، ظهرت الآليات البديلة على شكل «السوق السوداء» التي تضغط على الدولة للانسحاب وترك السوق يقوم بتعديل الموازين. بهذا المعنى، فإنّ دعم السلع الذي تقوم به الدولة هو المشكلة التي تعالجها «السوق السوداء» من خلال نفخ الأسعار. وبهذا المعنى أيضاً يُروَّج أن السوق السوداء هي التي تمنع تهريب هذه السلع، بعكس تحفيز التهريب الذي كان يؤدّيه الدعم. البديل الناشئ في حالة لبنان، هي تلك السوق المظلمة حيث يجري تسعير السلع بقيمها الفعلية الناتجة من العرض والطلب، وهي الآلية التي ستعيد السوق إلى التوازن. يتجاهل هؤلاء أن الدولة تتدخّل بهدف اجتماعي ـــ اقتصادي من أجل تقليص الخلل الناجم عن سوء توزيع الثروة والدخل بسبب قوى السوق وأيديها الخفية. هذه هي القصة في لبنان وإنما بشكل أكثر نفوراً في ظل الأزمة وشراكة السياسة مع رأس المال.
آرس ــ كوبا

تعريفات نيبوليبرالية: تدخّل الدولة سيئ
يقول ميلتون فريدمان في مقابلة مع شبكة PBS التلفزيونية في عام 2002 الآتي: «السوق السوداء هي وسيلة للالتفاف حول الضوابط الحكومية. هي طريقة لتمكين السوق الحرّة من العمل. وسيلة للانفتاح وتمكين الناس. أنت تريد التجارة معي والقانون لا يسمح لك. لكن هذه التجارة ستكون مفيدة لكلينا. الحقيقة الأكثر أهمية حول السوق الحرة هي أن التبادل لا يتم ما لم يستفِد الطرفان. هناك اختلاف كبير بين الإكراه الحكومي والأسواق الخاصة. يمكن للحكومة استخدام الإكراه لإجراء تبادل حيث يربح الطرف «أ» ويخسر الطرف «ب». لكن في السوق، إذا توصّل «أ» و«ب» إلى اتفاق طوعي، فذلك لأنّ كليهما يكونان أفضل حالاً بعد إتمام الصفقة. وهذا ما تفعله السوق السوداء، هو الالتفاف على هذه القيود الحكومية المصطنعة».
لا يكتفي فريدمان بهذا التعريف، بل يشير إلى أن هذه السوق تنطوي على خرق للقانون «لكن هذا يحدث فقط عندما تكون هناك قوانين سيئة» ويشير إلى أن لا يجب على أيّ أحد أن يعتقد «أن إطاعة كل قانون هو مبدأ أخلاقي نهائي».
أما باقي التعريفات للسوق المظلمة، فقد وردت في أوراق صادرة عن البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي وغالبيتها مرتبطة بدعم السلع وخصوصاً السلع النفطية. بحسب سانجيف غوبتا، فإن «ضوابط الأسعار ـــ التي تُستخدم لتطبيق سياسات الدعم ـــ غالباً ما تؤدي إلى نشوء أسواق سوداء تحدّ من وصول الفقراء إلى المواد النادرة». ويتحدث روبر بيكون وماسامي كوجيما عن نشوء هذه السوق بسبب تدخل الدولة لتحديد أسعار منتجات أو كميات مخصصة لاستهلاك الأفراد، مشيرين إلى أن البطاقات التموينية تصبح سلعة في هذه السوق أيضاً: «يعمل نظام الحصص التموينية الفعّال على خفض الطلب، لكن ترشيد استهلاك أيّ سلعة يؤدّي حتماً إلى نشوء سوق سوداء». ويقولان إن هذه السوق تظهر على شكلين:
- الأول، هو سوق سوداء للبطاقات التموينية نفسها، إذ يشتري المستخدمون الميسورون البطاقات التموينية من الأسر الأقل ثراءً الذين قد يشعرون أن الأموال الإضافية جرّاء بيع البطاقات أكثر قيمة من حصة الدعم الموجودة في البطاقة. وتشكّل هذه العملية آلية لإعادة توزيع الدخل. ومع ذلك، فإن تقنين العرض والذي يصاحب إصدار البطاقات التموينية يمكن أن يؤدّي إلى نقص محلّي مع نفاد المنتجات البترولية في نقاط الإمداد. وهذا بدوره يؤدّي أحياناً إلى الوقوف في طوابير للحصول على الإمدادات.
- الثاني، السوق السوداء للوقود المقنّن. فمن المرجّح أن ترتفع أسعار الوقود في السوق السوداء، ولذلك تميل نقاط البيع إلى تحويل الإمدادات إلى هذه الأسواق الأكثر ربحية. وفي ظل هذه الظروف، يتعيّن على المستهلكين في كثير من الأحيان دفع أسعار أعلى من أجل شراء الوقود المقنّن من دون الحاجة إلى الوقوف في طوابير لساعات أو حتى أيام، أي عبر السوق السوداء. وإذا كانت الأسعار منخفضة في الدول المجاورة، يتم تهريب الوقود المقنن من الدول الحدودية.
الإسكوا تتحدث عن الأمر نفسه. ففي ورقة صادرة في 2017 بعنوان «الآثار الاجتماعية لإصلاح دعم الطاقة في المنطقة العربية»، ورد أن «الأسعار المنخفضة تسبّب الإفراط في الاستهلاك والتهريب إلى البلدان المجاورة حيث الأسعار أعلى. وهذا بدوره يمكن أن يؤدّي إلى نقص وتقنين وظهور سوق سوداء تتجاوز الأسعار فيها السعر الرسمي».
إن تدخّل الدولة يأتي في إطار تصحيح أو إعادة نوع من التوازن لآلية التوزيع التي تمنح الأثرياء أكثر وتقتطع من الفقراء أكثر


أسواق مظلمة نشأت في غياب الدولة
إذاً، بمعزل عن النقد المتعلّق بآليات التدخل ومدى فعاليتها وكفاءتها، إلّا أن تدخّل الدولة هو المشكلة الأساس التي تخلق «السوق السوداء». وهذا التدخّل، بحسب التعريف النيبوليبرالي، يأخذ شكلاً قسرياً من خلال القوانين التي يشكّك فريدمان بضرورة الانصياع لها دائماً. لكن، هل هذا الأمر ينطبق على الوضع اللبناني الذي ينصّ دستوره على الاقتصاد الحرّ والمبادرة الفردية؟
حالياً، إلى جانب الأسوق الناشئة للدواء والبنزين والمازوت والخبز، هناك سوق لسعر الصرف خارج إطار سيطرة مصرف لبنان التي كانت قائمة أيام تثبيت سعر الصرف. هذه الأسواق نشأت، وفق التعريف النيبوليبرالي، لأن الدولة تدخّلت في السوق، سواء عبر تثبيت سعر الصرف أو عبر تحديد أسعار الدواء والبنزين والمازوت والخبز وسواها. ووفق التعريف نفسه، فإن وقف الدعم هو الطريق لوقف هذه الأسواق.
مروّجو هذا الكلام يتغافلون عمداً عن واقع وجود أسواق مظلمة في لبنان نشأت بسبب غياب الدولة كجهة فاعلة في السوق تحتكر تشريع القانون وتطبيقه. فعلى سبيل المثال، نشأت أسواق رديفة ومظلمة لتقديم خدمات الإنترنت لأن الدولة حتى الآن لا تستطيع تنظيم هذا القطاع ولا تستطيع تطويره وتقديم الخدمات لكل المقيمين بشكل متكافئ. في قطاع مياه الشرب يحصل الأمر نفسه. فالسكان يلجأون إلى شراء عبوات المياه من الشركات الخاصة أو من شبكات غير شرعية لأن الدولة لا توفّر لهم هذه السلعة الحيوية. وهذا الأمر يحصل في قطاعات أخرى خدماتية مثل الصرف الصحي والنفايات والكهرباء. والسكان لجأوا إلى مولّدات الأحياء رغم أن الكهرباء الرسمية مدعومة الأسعار، ورغم أن أسعار المولدات أعلى بكثير. خدمات النقل التلفزيوني تقع في الإطار نفسه.
يمكن تعداد الكثير من الأمثلة عن غياب الدولة المقصود والذي ترك لتحالف قوى السياسة والسوق تقديم السلع والخدمات في الأسواق المظلمة. لكن ليس هذا الكلام السائد حالياً عن السوق السوداء، بل تضعنا هذه القوى أمام خيارات صعبة وقاسية: خيار الحصول على السلعة بثمن باهظ، خيار عدم وجود السلعة إلا في السوق السوداء ووجود محدود للسلع المدعومة.
جاءت هذه الخيارات المحدودة بسبب غياب السلطة. أصلاً هذه الأسواق المظلمة نشأت بسبب الغياب المقصود للسلطة. والسردية التي يروّج لها اليوم عن ضرورة تحرير السوق من تدخّل الدولة لوقف السوق السوداء لأن السوق «يركلج نفسه» هي أصلاً أزمة ناشئة بسبب غياب الدولة شبه التام عن تأمين أي بدائل واقعية ومقبولة؛ ليس هناك نقل عام مشترك في لبنان يغنينا عن استعمال السيارة، طوال السنوات الثلاثين الماضية كان الاستثمار في الكهرباء شبه معدوم إلى درجة أن الطلب الاستهلاكي فاق القدرات الإنتاجية بأكثر من 16 ساعة تغذية يومياً، لم تتدخل الدولة لإنشاء خزانات نفط تكسر بواسطتها يد الكارتيل الذي يتحكّم بتوريد الكميات وبجدول تركيب الأسعار، لا بل إنها أجّرت خزانات الغاز لشركات القطاع الخاص، ولم تكسر يد كارتيل الدواء أيضاً الذي يرفض ضخّ الأدوية إلى السوق إلا بالسعر الذي يناسبه، رغم أنّ لدى الدولة القدرة على الاستيراد بمختلف أجهزتها من ضمان اجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وصناديق ضامنة عسكرية... الدولة لم تتدخل من أجل أيّ بديل، بل كانت تترك الأمر لأزلام السوق وقواهم ونفوذهم وشراكتهم مع رجال السياسة. ترك قوى السوق على قاعدة العرض والطلب هو مشكلتنا في الأساس. فلنأخذ مثلاً المصارف: لا يمكن لأحد القول إن الدولة تدخّلت بعمل المصارف بأي شكل من الأشكال. كانت السوق المالية والتدفقات مفتوحة على مصراعيها نحو الخارج والداخل، ما أتاح للمصارف التعامل مع كميات كبيرة من الأموال التي وظّفتها في أحد أكثر الأماكن سوءاً وخسرتها. لو تدخّلت الدولة في كبح حرية تدفقات رأس المال، لكان الأمر مختلفاً. طبعاً الأمر يتطلب وجود دولة.

إعادة توزيع الثروة والدخل
لماذا يجب على الدولة أن تتدخّل؟ تدخّل الدولة في تسعير أي سلعة أو خدمة يأتي لأن قوى السوق أجبرتها على ذلك. فآليات توزيع الثروة والدخل، وهي آليات قانونية يشرّعها مجلس النواب، تصبّ لمصلحة قوى السوق. فلنأخذ مثلاً الضرائب ومدى كفاءتها في انتطار الشطور العليا مقارنة مع الشطور الدنيا من الدخل. ليس لدينا ضريبة على الثروة. معدلات الأرباح المسموح بها قانوناً تصل إلى 100% من ثمن السلعة. أصلاً لا وجود لجهاز إداري يمكنه ملاحقة وتطبيق هذه القوانين. ثمة الكثير من القدرات على التهرّب من الضريبة بشكل شرعي وقانوني. لذا، فإن تدخّل الدولة يأتي في إطار تصحيح أو إعادة نوع من التوازن لآلية التوزيع التي تمنح الأثرياء أكثر وتقتطع من الفقراء أكثر. طبعاً اختيار أدوات التدخل يكون أمراً مهماً ويجب أن يكون هادفاً وعادلاً، لكن الواقع أن التدخّل هو من أجل كبح قوى السوق عن الاستئثار بحصّة أكبر من المال العام، لكن ما يحصل في بلد مثل لبنان أن قوى السوق تستأثر أيضاً بحصّة أكبر من مال الدعم الذي يُفترض استعماله لمكافحتها. المشكلة لا تكمن في الآليات، بل في المعالجات الخاطئة. أبرز مثال على ذلك هو تذويب خسائر المصارف ومصرف لبنان في تضخّم الأسعار. هذا الحلّ يأتي لمساعدة قوى السوق على حساب باقي شرائح المجتمع، وهذه القوى تنادي بوقف الدعم لأنه «أرحم» من السوق السوداء. في الواقع، إن السوق السوداء هي امتداد لقوى السوق ليس لأن فريدمان قالها فقط، بل لأنها تعمل بالطريقة نفسها: الأثرياء قادرون على تسديد الثمن في السوق المظلمة (السوداء) وفي السوق المفتوحة، بينما الفقراء مسحوقون في السوق المظلمة (السوداء) وفي السوق المفتوحة.



تخزين أو تهريب؟
ما يتردّد في لبنان عن الدعم وعلاقته بالتهريب ونشوء السوق المظلمة ليس نقاشاً في مسائل مستجدة، بل تعبير عن أفكار مسبقة سائدة في المجتمع ويُروَّج لها باستمرار. قيل الكثير عن التهريب، وأن رفع الأسعار في لبنان يؤدي إلى وقف تهريب النبزين والمازوت إلى سوريا، بينما تبيّن أن التخزين المحلّي كبير أيضاً رغم وجود فرص التهريب وتحقيق الأرباح الكبيرة منه. أصلاً لا دليل واضحاً على أن هناك كميات تهريب كبيرة إلى سوريا كما يُشاع. حصّة التهريب من مجموع الكميات الواردة إلى السوق المحلية قد لا تمثّل أكثر من 5% من الكميات بالحدّ الأقصى وفق تقديرات موثوقة. أصلاً سوريا لا تعتمد على لبنان كمصدر للتهريب بمقدار ما تعتمد على العراق، البلد النفطي الموبوء بالفساد مثل لبنان. مشكلة التهريب لا يمكن معالجتها ضمن فضاء لبناني خاص، فالمشكلة تتعلّق بمدى تكامل أو تنافر الأسواق القريبة من بعضها البعض. هذا التكامل هو اقتصادي سياسي. تحديد وضع لبنان في الفضاء الأوسع، أي علاقاته مع سوريا والعراق وتركيا... هو المفتاح لمنع التهريب أو لاستمراره.




أظهرت دراسة، أعدّها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، أن شركات استيراد المحروقات حقّقت أرباحاً إضافية بلغت 100 دولار لكل ألف ليتر من البضاعة التي تم استيرادها بعد جدول أسعار المحروقات الذي صدر في الأول من تموز الماضي. استخرج المركز هذا الأمر من الفرق بين جدول تركيب الأسعار الذي صدر في 29 حزيران الماضي، وبين جدول تركيب الأسعار الصادر في الأول من تموز الماضي. بين هذين الجدولين ارتفع ثمن البضاعة المستوردة من 569 دولاراً إلى 673 دولاراً (على سعر صرف 3900 ليرة لكل دولار) أي بنسبة 18%، فيما ارتفع سعر برميل النفط بحسب نشرة البلاتس العالمية من 76 دولاراً إلى 77.25 دولاراً في الفترة نفسها، أي بنسبة 1.7% فقط. لذا فإن الارتفاع في ثمن البضاعة هو في غالبيته أرباحٌ إضافية لشركات الاستيراد.