خلال الأسبوع الماضي، سيطر على التغطية الإعلامية حدثُ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. في الشكل، يجب ألا يُعنى بهذا الحدث إلا الشعب الأفغاني وشعوب الدول المجاورة. أما في المضمون، فيجب أن يكون الانسحاب الأميركي من أفغانستان في صلب اهتمامات الجميع، لما لهذا الحدث من انعكاسات على معظم دول العالم، كل دولة بحسب طبيعة علاقتها بالولايات المتحدة - القوة المركزية في منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد. ولكن كيف يكون للانسحاب من أفغانستان- الدولة الهامشية والفقيرة والبعيدة عن كل تقاطعات التجارة العالمية - هذا التأثير الواسع؟الإجابة تكمن في تتبّع مراحل الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي وتفكيك عناصرها، والدلالة التي يشير إليها الانسحاب من أفغانستان على هذه العناصر.
ميهاي إيغنات ــ رومانيا

ثاني مراحل الهيمنة
تنقسم الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي الموحّد إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، بحسب جيوفاني أرّيغي، بدأت مع انتقال الريادة في المنظومة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، خلال الحرب العالمية الأولى. فالمملكة المتحدة استُنزفت في الحرب العالمية الأولى، بسبب متطلباتها التي كانت أكبر مما يمكن للهند أن تؤمّنه من فوائض مالية وبشرية. وعلى الأثر، انتقل مركز التمويل العالمي من سوق لندن إلى الأسواق المالية في الولايات المتحدة، ولا سيما في نيويورك وشيكاغو. فانتقل مركز التراكم الرأسمالي، وتباعاً مركز الهيمنة إلى الولايات المتحدة.
أما المرحلة الثانية، وهي الأهم في سياق بحث هذه المقالة، فهي تمتدّ من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلى نهاية الحرب في فيتنام في عام 1975. وتنبع أهمية هذه المرحلة من عاملين: الأول يسميه أرّيغي «أزمة الإشارة» (الإشارة إلى نهاية الهيمنة الأميركية). والثاني، هو كيفية تعاطي الولايات المتحدة مع هذه الأزمة لإطالة زمن هيمنتها على المنظومة العالمية.
«أزمة الإشارة»، هي الأزمة التي ظهرت في الفترة الممتدة بين عامَي 1973 و1975، والتي كان أحد أوجهها مآلات الحرب الفيتنامية. السبب الرئيسي خلف هذه الأزمة هو التناقض في السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة، لتسريع التعافي الأوروبي والياباني بعد الحرب العالمية الثانية من جهة، وتمديد فترة الازدهار الاقتصادي إلى أقصى مدّة ممكنة من جهة أخرى. ما نتج عن هذه السياسات كان ضغطاً ثنائياً على أرباح رأس المال. فمن جهة كان الضغط من خلال ارتفاع مستوى التنافسية الأوروبية واليابانية، ومن الجهة الأخرى كان الضغط من خلال التقديمات الاجتماعية التي تتطلبها مستويات العمالة والاستهلاك العالية. وأزمة ربحية رأس المال انعكست ركوداً اقتصادياً طويلاً في السبعينيات. وفاقمت الكلفة العالية، للحرب الأميركية في فيتنام، تبعات هذا الركود، فكان أن طوّرت الولايات المتحدة «متلازمة فيتنام». وهي عبارة عن تخوّف أميركي من خوض حروب برية طويلة وذات كلفة عالية. وكان من المفترض أن يكون اضطرار الولايات المتحدة للانسحاب من فيتنام هو التجلي الأكبر لنهاية الهيمنة الأميركية على المنظومة.

الإشارة والمرحلة الثالثة
على أثر هذه التطورات، حفلت حقبة السبعينيات والثمانينيات بالكثير من التوقّعات بانتقال مركز الهيمنة إلى اتحاد مفترض بين أوروبا واليابان، أو بين الاتحاد السوفياتي وأوروبا. ولكن ما حصل، كما يقول ديفيد هارفي، أن الولايات المتحدة تخلّت عن المعيار الذهبي للدولار الأميركي، ودفعت باتجاه تحرير تدفقات رأس المال النقدي من الضوابط في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى أنها تواطأت مع الدول المنتجة للنفط لرفع أسعاره عالمياً، واحتكرت البنوك الأميركية إعادة تدوير البترودولار في المنظومة. هكذا ضمنت الولايات المتحدة عودة التدفقات الرأسمالية من أوروبا إليها بعد أكثر من عقدين من تصدير رأس المال، إلى أوروبا واليابان في سبيل إعادة الإعمار والتعافي التي تلت الحرب العالمية الثانية. فعوّضت الولايات المتحدة تراجع تنافسيتها الإنتاجية من خلال تأكيد هيمنتها على التمويل، وزيادة هذه الهيمنة. وانتقل رأس المال المالي إلى مركز الصدارة ضمن أدوات الهيمنة الأميركية، فأصبحت قادرة على ممارسة سلطة تأديبية على حركات الطبقات العاملة وعلى الدول، ولا سيما في أي وقت وفي أي مكان توجد فيه ديون كبيرة على الدولة. وهذه العملية هي ما يُدعى بـ«الأمولة». وهذا التحوّل لم يكن ممكناً لولا مجموعة من التطورات التكنولوجية والتنظيمية، التي سمحت لعمليات التصنيع بأن تصبح أكثر مرونة وانسيابية على مدى جغرافي واسع وعابر للحدود والقارات. فهذه التطورات ناسبت وتغذّت من حريّة تنقل رأس المال المالي المستحدثة.
لكنّ هذه القوة المالية لم تكن كليّة القدرة، ولم تكن قادرةً على فرض إرادتها من دون قيود. فمن طبيعة الأمولة أن تعرّض الأنظمة المالية للخطر بشكل دائم، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بخلق القيمة في النشاطَين الصناعي والزراعي. عملياً، ما قامت به الولايات المتحدة حين فكّت ارتباط عملتها عن الذهب، وهي العملة المرجعية في العالم، هو أنّها فصلت الأنظمة المالية عن أي ارتباط مادي يتعلق بالإنتاج الحقيقيّ، وفق هارفي.
يبدو أن غالبية القوى السياسية في لبنان غير متنبّهة لأهمية الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ولا سيما أن جزءاً كبيراً منها لا يعير أهمية للعوامل الأميركية المتداخلة في الانهيار، فيما هناك جزء آخر غير راغب بالحدّ من الهيمنة الأميركية على البلد


وأصبح الاقتصاد العالمي مهدداً بولادة الأزمات بشكل دائم بسبب الفجوة بين التراكم الرأسمالي - المفرط - والقيمة الحقيقية للإنتاج، كما ظهر خلال عقد التسعينيات (ثم خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008). وفي خضمّ كل هذه التطورات التي كانت تعصف بالاقتصاد العالمي الموحّد، نشأت مجمعات صناعية جديدة في شرق وجنوب آسيا، أهمها طبعاً في الصين. وأثبتت المجمعات الصناعية الجديدة مهارتها في التكيّف مع الضغوط المالية، وكذلك قدرتها على خلق قوة معارضة لرأس المال المالي (الذي أصبح يتركّز في الولايات المتحدة بالإضافة إلى أوروبا واليابان) من خلال الإنتاج ذي القيمة المادية الحقيقية. وكشفت هذه الأحداث أن رأس المال «الوهمي»، الذي خلقته الأمولة، يمكن أن يظلّ غير ملموس في الحقيقة، ما أثار التساؤل حول العلاقة بين رأس المال المالي والإنتاج.
أمام اهتزاز صورة الأمولة (أو الاقتصاد الجديد كما أُطلق عليه)، استعرضت إدارة بوش الابن، القوّة العسكرية للولايات المتحدة، باعتبارها القوة المطلقة الواضحة الوحيدة المتبقية لها في وجه فقدان الهمينة. وأصبح الحديث الصريح عن الإمبراطورية، كخيار سياسي، آلية لإخفاء سعي الولايات المتحدة لجمع «الجزية» من العالم، تحت ستار خطاب تأمين السلام والحرية للجميع. فكان الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان في بداية الألفية الثانية. وضمن هذا السياق يأخذ الغزو الأميركي معنى أوسع. فهو يشكل محاولة للسيطرة على مصادر النفط العالمية من جهة، مع ما يعنيه ذلك من سيطرة على تطور اقتصادات الخصوم المحتملين. كذلك يشكل الغزو رأسَ جسرٍ عسكريٍّ أميركي قوي في الكتلة البرية الأوراسية، ما يمنح الولايات المتحدة موقعاً جيوستراتيجياً قوياً في أوراسيا مع القدرة، على الأقل، على تعطيل أي توطيد لقوة أوراسيا- بالأخص مع اعتبارات التحالفات الأميركية من بولندا إلى البلقان. وبذلك، كان يُفترض أن تضمن الولايات المتحدة التراكم اللامتناهي للسلطة السياسية، التي يجب أن تصاحب دائماً التراكم اللامتناهي لرأس المال، بحسب هارفي.

ورطات الحفاظ على أدوات الهيمنة
لكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر. لم يحصل ما أرادت الولايات المتحدة. فهي أرادت انتصارات سريعة وخاطفة، لا يقع عبئُها المالي على خزينتها، فيتم تمويلها من عائدات النفط في العراق. ولكن ما جرى فعلياً هو أنها دخلت في حربين طويلتي الأمد، اضطرتاها إلى الانتشار العسكري البرّي لمدة طويلة جداً (20 عاماً في حالة أفغانستان). فتبيّن أن عائدات استثمار النفط العراقي لم تكن كافية لتمويل الجهود الحربية. ووقع عبء التمويل على الخزينة الأميركية، وأصبحت كلّ التدفقات الرأسمالية التي تدخل الولايات المتحدة تخدم تمويل العجز الناتج من الحربين، في ظل اتساع عجز الحساب الجاري، بالأخص مع الصين.
عملياً وصلت الأمولة، كأداة لضمان استمرار هيمنة الولايات المتحدة على منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد، إلى طريقها المسدود في عام 2008، مع حلول الأزمة المالية العالمية. وأصبح همّ الولايات المتحدة، منذ ذلك الحين، الحفاظ على دور الأمولة كأداة لفرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي الموحّد. فكان أن بدأت باستعمال «التيسير الكمي» (quantitative easing)، بداية مع أولى إدارات أوباما.
والتيسير الكمي عملية تخلق من خلالها المصارف المركزية المال لتضخّه في الأنظمة المالية - مع ضمان عدم خروجه منها إلى الأسواق الحقيقية - في سبيل الحفاظ على مستويات فائدة منخفضة بشكل اصطناعي من خلال زيادة المعروض المالي. لكن هذه العملية ليست من دون مخاطر. فما يضمن عدم فقدان قيمة الدولار الأميركي في الأسواق العالمية هو موقع الولايات المتحدة كمركز للهيمنة على الاقتصاد العالمي الموحّد. وهنا بيت القصيد، فالخروج من أفغانستان، وبهذا الشكل المهين، هو مؤشر واضح إلى وضع الولايات المتحدة كمركز للهيمنة على المنظومة العالمية. فهي، كما في حرب فيتنام، غير قادرة على فرض إرادتها في دولة هامشية لا تضاهيها بالموارد والتكنولوجيا، وفي الوقت عينه غير قادرة على الاستمرار بسبب الأكلاف الهائلة التي تتحمّلها الخزينة الأميركية. بالإضافة إلى أن خروجها من أفغانستان، الواقعة في صلب التواصل الأوراسي، مؤشر خطير إلى عدم قدرتها على ضبط تمدّد التواصل الصيني مع أوروبا. ولهذا الأمر انعكاسات على ضمان تحكّم الولايات المتحدة بالتراكم الرأسمالي. وما يزيد الطين بلّة، هو أن الولايات المتحدة أخرجت الأموال، التي تخلقها من خلال التيسير الكمي، إلى الأسواق الحقيقية في السنتين الأخيرتين، عبر رزم الحوافز التي أقرّتها لمواجهة تبعات جائحة كورونا. وهذا يعني أن احتمال انخفاض قيمة الدولار، عالٍ.
لكل هذه الأسباب، يمثّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان علامة فارقة في تاريخ هيمنة الولايات المتحدة على منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد. وهو بحد ذاته حدث يعني كل المنخرطين مع الولايات المتحدة، سواء كحلفاء أو خصوم وأعداء. وستحاول كل جهة بناء استراتيجياتها تبعاً لقراءتها لأهمية ومفصلية الانسحاب من أفغانستان.
أما بالنسبة إلى لبنان، الدولة الهامشية، فيبدو أن غالبية القوى السياسية فيه غير متنبّهة لهذا الحدث، وخاصة أنّ جزءاً كبيراً منها لا يعير أهمية للعوامل الأميركية المتداخلة في الانهيار، وأن جزءاً آخر غير راغب بالحدّ من الهيمنة الأميركية على البلد. ولكن كقاعدة عامة، القوى التي تقود الشعوب في العادة، خلال الأزمات وبعدها، هي تلك التي تكون قادرة على قراءة الأحداث في محيطها - المباشر والبعيد - وتكون في الوقت عينه مستعدّة لترجمة هذه القراءة على أرض الواقع.

المصادر:
«الإمبريالية الجديدة»، ديفيد هارفي
«آدم سميث في بيجينغ»، جيوفاني أرّيغي