منذ مطلع عام 2019 ولغاية نهاية حزيران 2021، أي خلال سنتين ونصف، تضخّمت الأسعار 280% بحسب الأرقام الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي. وفي هذه الفترة أيضاً، تضخّمت أسعار الغذاء بنسبة 980%، والألبسة والأحذية بنسبة 1327%، والأثاث والصيانة المنزلية 1457%… رغم هذه التورمات الهائلة، ليس هناك، حتى الآن، أي إشارة بعد في اتجاه تصحيح الأجور. السبب يكمن في أن آليات التصحيح معطّلة بسبب هيمنة قوى السلطة عليها. وهذه السلطة لم تظهر يوماً أنها ستنحاز إلى جانب الشرائح الأكثر هشاشة في المجتمع أو حتى الذين يعدّون متوسطي الدخل وتفضّلهم على أصحاب الرساميل، لذا فإنّ تعطيل آليات التصحيح هو الحلّ الأمثل لها لتجنّب الخوض في معركة توازنات بين مستقبلها السياسي الذي قد يكون خاضعاً لمطالب شعبية بتصحيح الأجور، وبين انخراطها في شراكة تاريخية مع أصحاب الرساميل. المشكلة لا تكمن هنا بالذات، بل في إن القوى المحرّكة أو الدافعة نحو هذا التصحيح هي ساكتة عن هذا الحق مثلها مثل سائر الشياطين. فإذا كان لدى السلطة مبرراً يتعلق بشراكتها وتواطئها التاريخي مع أصحاب الرساميل، فإن باقي هيئات المجتمع غائبة تماماً عن المشهد. طبعاً ليس الحديث هنا عن الاتحاد العمالي العام لأنه أحد أبرز أوجه تواطؤ السلطة مع أصحاب الرساميل، ولا في أي جهة تدّعي التمثيل النقابي في القطاع العام باعتبارها وجهاً جديداً لهذا التواطؤ، بل عن باقي الهيئات التي تشكّلت بعد 17 تشرين 2019.موقف السلطة إلى جانب الشريحة الأعلى من الهرم، يفسّر سلوك الإدارات المعنيّة. فحتى الآن لم يُدعى إلى انعقاد لجنة المؤشر في وزارة العمل، وحتى الآن لم تبادر إدارة الإحصاء المركزي إلى تعديل ميزانية الأسرة التي يُحتسب على أساسها مؤشر الأسعار القياسية. فالأسر التي كانت تنفق ربع مدخولها على الغذاء أو أقلّ، صارت تنفق نسبة أكبر بكثير على سلّتها الغذائية، وبالتالي فإن مداخيلها لم تعُد تغطّي بنوداً كثيرة في سلّتها الاستهلاكية الإجمالية. فما تبقى لها من أجل الصحّة والتعليم والترفيه وصيانة المنزل وكلفة الكهرباء وسواها، صارت حصّة ضئيلة جداً إذاً. يضاف إلى ذلك أن المؤشّر بحدّ ذاته لا يعبّر أصلاً عن الخدمات التي لم تعُد قائمة أو بات صعباً الحصول عليها. بمعنى آخر، إن نوعية الحياة تدهورت إلى مستوى متدنٍ جداً، وهذا ما لا يمكن إصلاحه عبر تصحيح الأجور وحده.
هكذا تظهر أهمية تصحيح الأجور. صحيح أن عملية التصحيح هي عملية اجتماعية مرتبطة بموازين القوى في النظام، لكن المسألة الأساسية أن لا أحد يحاول إحداث خرق في هذه الموازين. ففي ظل تداعيات الانهيار ومفاعيله القاسية على الأسر والمؤسسات في لبنان، ما زالت عملية توزيع الخسائر هي السائدة حالياً بقيادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومجلسه المركزي وبتغطية واضحة من نواب الأمّة في مجلس الزعماء. هذا التوزيع للخسائر يضرب حالياً الأجور بشكل مدمّر. يؤدّي إلى تراجع القدرة الشرائية بالتزامن مع تقلّص في كعكة الإنتاج وذلك مردّه الأساسي تعددية سعر الصرف وانعدام استقراره، ما يعني أنه سيكون صعباً فرض الاستقرار على ضفتي بنية العمل في لبنان: أجور الأجراء، المؤسسات.
رغم ذلك، أشيع أخيراً من باب التسويق السياسي لتكليف الرئيس نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة، أنه بالاتفاق بين ميقاتي وسلامة سيتم العمل على: رفع سعر الصرف رسمياً، تصحيح الأجور. فعلى اعتبار أن هذا الأمر قد يحصل، فهل يمكن التعويل على خطوات كهذه:
- من يسوّق لهذا الأمر ينظر إليه من وجهة السياسات النقدية - المالية. ينظر إليه بقلب بارد متحجّر. لأن من مفاعيل رفع سعر الصرف رسمياً، أنه يؤدي إلى زيادة في قيمة الحاصلات الضريبية من ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية وغيرها، أي سيزداد الدولار الجمركي، وسيتم احتساب ضريبة القيمة المضافة على أساس سعر الاستيراد بالدولار الجمركي. وسيتم استيفاء رسوم العقود مثل التسجيل العقاري، بالسعر الجديد. طبعاً يفترض دراسة الأثر على الموازنة ولا سيما أن انعكاس زيادة سعر الصرف ستكون كبيرة على مجموعة من النفقات الملحوظة في الموازنة من أبرزها كلفة الرعاية الصحية وكلفة الصيانة وتسديد الديون الخارجية (بعد التفاوض مع حاملي هذا الدين)... لكن المفعول النقدي الناتج من خطوة كهذه هو أن الضريبة ستمتصّ تضخّم الكتلة النقدية المتأتّية من تصحيح الأجور، وهذا صحيح نسبياً، إلّا أنه بين وقت تصحيح الأجور وزيادة الضريبة سترتفع الأسعار ويتآكل سريعاً قسماً مهماً من هذا التصحيح قبل أن تتمكّن الضريبة من امتصاص التكلفة النقدية المتضخمة.
إن عملية توزيع الخسائر كما هي قائمة اليوم تكبّد الشرائح الأضعف في المجتمع الكلفة الأكبر عبر تدمير أجورها لكن المفارقة في أن قوى السلطة تستند إلى نتائج أفعالها لفرض معادلة «تصحيح الأجور مقابل زيادة الضرائب»


- يراد من خطوات كهذه، إيهام الناس بأن مصلحتهم تكمن في القبول بمعادلة: «تصحيح الأجور مقابل زيادات ضريبية». بينما الواقع يشير إلى أن هذه المعادلة تفرضها قوى السلطة لأنها لم تعُد تشعر بأن وجودها مهدّد كما شعرت به في الأسابيع التي تلت 17 تشرين 2019، أي أن موازين القوى ما زالت إلى جانبها. وليس هناك ما يجبرها على أن تقوم بأيّ تعديل لامتصاص أي نقمة شعبية. بالعكس، يكفي أن تروّج السلطة أنباء كهذه قبل الانتخابات النيابية، وأن تقوم بتوزيع البطاقة التمويلية، أو حتى أن تعد بها كبرنامج انتخابي، وأن تواصل رفع الأسعار الداخلية بطريقة تدريجية حتى يستوعبها الناس ويقبلها مهما كانت انعكاساتها خطيرة على حياتهم.
- في الأصل، إن عملية توزيع الخسائر كما هي قائمة اليوم تكبّد الشرائح الأضعف في المجتمع الكلفة الأكبر عبر تدمير أجورها، ثم تبني قوى السلطة على نتائج أفعالها من أجل فرض معادلة «تصحيح الأجور مقابل زيادة الضرائب».
- إن توحيد سعر الصرف هو بحدّ ذاته ضريبة قائمة مؤجّلة. فالتوحيد لا يمكن أن يتم بمعزل عن سعر السوق الحرّة، بل سيكون أقرب مستوى إلى سعر السوق، وبالتالي فإن عقود العمل، وعقود التجارة، وعقود الإيجارات ستخضع لهذا التعديل مباشرة وستشكل الضرائب حصّة أساسية ووازنة من هذه العقود. لكن استقرار سعر الصرف، ولو كان ينطوي على كلفة كبيرة، إنما هو مدخل تمهيدي وإجباري لوقف التدهور المتسارع. وهذه الضريبة المؤجّلة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن تصحيح في بنية النظام بكامله، وليس فقط في بنية السياسة النقدية وأثرها الضريبي المرتقَب. فمن أبرز الدلائل على ذلك، أنه في الوقت الحالي لا يمكن لأي مؤسّسة تأمين الاستقرار الوظيفي طالما أن تقلبات سعر الصرف ضمن هوامش واسعة ومسار تصاعدي متواصل منذ نحو سنتين. فالمؤسّسات محتارة بتسعير منتجاتها في ظل هوامش التقلبات التصاعدية الكبيرة في سعر الصرف، ولا يمكنها أن تعلم إذا كانت ستنتج أصلاً في ظل انقطاع الكهرباء والتسارع في زيادة كلفة إنتاجها عبر المولدات الخاصة، ولا يمكنها تأمين أي استقرار وظيفي لأجرائها الراغبين في الهجرة أصلاً في ظل هذه البيئة المشتعلة.
في الواقع، كان يفترض أن يكون الانهيار في سعر الصرف عاملاً مساعداً لتحسين بيئة الإنتاج المحلّي وخفض كلفتها، وبالتالي قد يعوّض بعضاً من انكماش كعكة الإنتاج، إلّا أنه في ظل تصاعد الأكلاف التشغيلية وانعدام استقرار الخدمات العامة، لم يعُد انخفاض كلفة الإنتاج عاملاً مساعداً على استقرار المؤسسات، وبالتالي فإنّ سياسة الأجور، ضمن المنطق الاقتصادي يجب أن تكون متناغمة مع إجراءات جذرية لكل ما يحصل في السوق وإلّا فإنها ستتحوّل إلى عامل محفّز لتضخّم الأسعار يسهم في تأجيج الحلقة الثلاثية للتضخم المفرط: ارتفاع سعر الصرف، تضخّم الأسعار، ضخّ النقود.
- هناك مشكلة أساسية تتعلق أيضاً بتوزيع الخسائر. اليوم تتكبّد الأجور والرواتب الحصة الأكبر من كلفة توزيع الخسائر. الأداة المستعملة هي التضخّم المحفّز بتعددية أسعار الصرف. لذا، يجب عزل أي تأثير لأي تصحيح للأجور، عن التضخّم، وهذا ما يمكن فعله عبر زيادة الأجر الاجتماعي، أي تقديم التغطية الصحية الشاملة بالممولة بالضريبة، والتعليم المجاني، والنقل المشترك. ثلاث خدمات أساسية تكون كافية لتقليص عجز ميزان المدفوعات بدلاً من زيادة القدرة الشرائية الاستهلاكية التي تزيد عجز ميزان المدفوعات.
- إن زيادة سعر الصرف رسمياً بهدف زيادة الحاصلات الضريبية سينعكس على ميزانيات الصناديق الضامنة، لكنه لن يكفي لتغطية التعرفات الاستشفائية الجديدة. فالمشكلة الاساسية ستبقى قائمة: الحاجة إلى الدولارات لتمويل استيراد المستلزمات الطبية والأدوية والبنزين لاستعمال السيارة وانتقال الأفراد والبضائع، والمازوت لتوليد الكهرباء في الأحياء وفي مؤسسة كهرباء لبنان وتشغيل المصانع، والغاز للاستهلاك المنزلي.



تصحيح الأجور بين الأمس واليوم


منذ اندلاع الحرب الأهلية ولغاية نهايتها، لم يتوقف تصحيح الأجور في لبنان انسجاماً مع تضخّم الأسعار وتعويضاً عن تدهور القدرة الشرائية. المفارقة أنه بعد أكثر من سنتين على اندلاع الأزمة، وتضخّم الأسعار بنسبة هائلة، لم يبادر أحد إلى الحديث جدياً عن تصحيح الأجور. المقارنة بين الفترتين تظهر الآتي:
- في الثمانينيات استمرّ التعامل مع الليرة اللبنانية باعتبارها وحدة لقياس عمليات التبادل السلعي لأنها كانت غير معطّلة، أو غير مشوّشة كما هي اليوم. ففي ظلّ التعددية السائدة اليوم لا يمكن التعامل مع سعر الصرف باعتباره وحدة للقياس. أن يكون كذلك هو شرط أساسي لنهوض الاقتصاد.

- في السابق كان ميزان المدفوعات متوازناً إلى حدّ ما، خلافاً للعجز الكبير الذي يغرق به اليوم. توازن ميزان المدفوعات يعني أن الدولارات المتدفقة مقارنة مع تلك التي تخرج منها، كانت كافية لتمويل الاستيراد، بينما اليوم يعاني لبنان من عجز متراكم وكبير في الحاجة إلى العملات الأجنبية وليس من أجل استيراد السلع، بل من أجل استيراد السلع الأساسية والضرورية للحياة.

في إطار هذه الفروقات يمكن فهم لجوء السلطات رغم الحرب الأهلية إلى تصحيحات طبيعية وتلقائية للأجور بينما اليوم هي منشغلة في تذويب الخسائر بتضخيم الأسعار وتحميل الكلفة للأجور والمدخرات الصغيرة والمتوسطة ولمستقبل الحياة في لبنان.

مصدر الإحصاءات: مؤسسة البحوث والإستشارات ومصرف لبنان


هكذا سيُرفع الدعم بلا «مقاومة»
منذ فترة أبلغ مصرف لبنان، من يهمه الأمر، أنه خصص نحو 400 مليون دولار لتمويل الاستيراد المدعوم من محروقات وأدوية وسواها، وأن هذه الكمية تكفي لغاية نهاية أيلول وبعدها سيتوقف عن التمويل نهائياً. وفي السياق نفسه، جرى الترويج بأن رفع الدعم قد بدأ تدريجياً بدليل رفع أسعار المحروقات على أساس سعر صرف 3900 ليرة بدلاً من 1520 ليرة لكل دولار، وأسعار الدواء أيضاً التي أصبح 1500 منها على سعر صرف يوازي 12000 ليرة.
هل هذا الأمر يعدّ رفعاً تدريجياً للدعم؟ في الواقع، ليس هذا الكلام سوى حيلة يستعملها مصرف لبنان والقوى السياسية لغصب الناس على قبول رفع الدعم؛
الدعم مؤلّف من شقين: مصرف لبنان يموّل الاستيراد المنوي تخصيص الدعم بالعملات الأجنبية التي يحملها في محفظته، تسعير هذه العملات الأجنبية بحسب السعر المُتّبع نظامياً، أي الـ1507.5 ليرات وسطياً. في إطار هذين الشقين من معادلة الدعم، ما زال العمل بالشقّ الأول مستمراً، أي أن مصرف لبنان ما زال يموّل بالعملات الأجنبية استيراد المحروقات والدواء وأمور أخرى، ولم يتخلَّ إلّا عن تمويل السلع الغذائية. وفي الشق الثاني، جرى رفع سعر الصرف عن السلع المموّلة بهذه العملات الأجنبية، أي رفعت الأسعار الداخلية لأسعار السلع المدعومة بما يماثل زيادة الضريبة عليها. الهدف من هذا الإجراء لا يتعلق برفع الدعم، بل بإجبار المستهلك على التخلّي عن السلع الأكثر كلفة وتقليص استهلاكه منها حتى يُتاح لمصرف لبنان تقليص تمويل استيراد من العملات الأجنبية التي يحملها في محفظته. الهدف أن يخفف مصرف لبنان من سرعة تناقص احتياطاته بالعملات الأجنبية. الأمر هنا لا يتعلق برفع الدعم، بل بتدجين الناس على استيعاب وقبول فكرة رفع الدعم. هذا ما يحصل عملياً وهو ما ينطوي على مخاطر كبيرة لجهة اتّساع فجوة اللامساواة. فالأثرياء والمؤسسات والسياسيون يطالبون اليوم بوقف الدعم نهائياً حتى يتاح لمن لديه قدرة على استهلاك السلع بحريّة من دون طوابير البنزين أو بحث عن المازوت والدواء. الفقراء لن يكون لديهم أحد في مواجهة كارثة من هذا النوع، وليس هناك أي إجراءات قد تتخذها السلطة لتخفيف كلفة التضخّم المفرط ومنع وقوع المزيد من الناس تحت خطّ الفقر الغذائي أو منع المزيد منهم من السعي نحو الهجرة. سينتهي الأمر بالتسوّل؛ تسوّل الدولة للدولارات، وتسوّل الناس لقمة عيشهم أو فيزا هجرتهم. قد ينتهي نحو تزايد العنف أيضاً.