خلال الأسبوعين الماضيين اشتعلت وسائل الإعلام العالمية بأخبار تبادل الرسائل العلنية الدبلوماسية (وغير الدبلوماسية) بين إيران من جهة والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من جهة أخرى، حول حادثتي استهداف ناقلات نفط في مياه الخليج ومياه بحر عمان. في الشكل حُصر التحليل بالمفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، ولكن في المضمون ارتفاع نسق ونوعية هذه الاستهدافات يمسّ صورة هيمنة الولايات المتحدة، على منظومة الاقتصاد العالمي الموحد، بشكل جدّي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

فضاءات جديدة
يعرّف ديفدي هارفي الإمبريالية الرأسمالية على أنها «اندماج متناقض» لمكونين: «سياسات الدولة والإمبراطورية» و«العمليات الجزيئية لتراكم رأس المال في المكان والزمان». يشير المكوّن الأول إلى الصراع المدفوع بـ«منطق القوة الإقليمي» - وهو المنطق الذي يسعى إلى السلطة بهدف السيطرة على إقليم وموارده البشرية والطبيعية. أما العنصر الثاني، فيشير إلى تدفق «القوة الاقتصادية» من خلال فضاءات متواصلة، من وإلى الكيانات الإقليمية. وهذا يكون من خلال الممارسات اليومية للإنتاج والتجارة، ومن خلال تدفقات رأس المال وهجرة اليد العاملة ونقل التكنولوجيا، إضافة إلى المضاربة بالعملة ونقل المعلومات. ولكن كيف يمكن «لمنطق القوة الإقليمي»، الذي يميل إلى أن يكون ثابتاً في الفضاء، أن يستجيب للديناميات المفتوحة والانسيابية لتراكم رأس المال اللامتناهي؟
يشرح جيوفاني أرّيغي أن هذا يكون من خلال عملية «خلق الفضاء»، وهي عملية ضرورية، ليس فقط لبقاء الرأسمالية في ظروف الأزمات، بل أيضاً لتشكيل وزيادة الانتشار العالمي للرأسمالية كمنظومة عالمية. ويفسّر هارفي هذه العلاقة، من خلال نظريته عن «الإصلاح المكاني الزماني». فمراكمة رأس المال تعتمد بشكل أساسي على وجود بيئة ملائمة من المرافق المبنية بشكل خاص لتشكّل رأس مال ثابتاً مغروساً في الأرض (كالمرافئ والمطارات وسكك الحديد والمدارس)، في مقابل رأس المال الثابت المتنقل (كالسفن والشاحنات والآلات). وعلاقة هذين النوعين من رأس المال الثابت إشكالية، إذ إن تراكم رأس المال يميل للسعي نحو تقليص الحواجز المكانية سعياً إلى إزالتها؛ بالتالي تقويض الامتيازات الاحتكارية المرتبطة بمواقع محددة في الفضاء الجغرافي. وينتج من ذلك أن يفرض تراكم رأس المال، عن غير قصد، تكثيف المنافسة عبر الفضاء الجغرافي، ما يضرّ برأس المال الثابت المغروس في فضاء جغرافي محدّد. وذلك لأن تراكم رأس المال - بشكل لا نهائي بمستوى يفوق ما يمكن إعادة استثماره بشكل مربح في الإنتاج وتبادل السلع ضمن الأنظمة الإقليمية القائمة - يتسبّب في تراكم مخزونات السلع غير المباعة، والتي لا يمكن التخلص منها إلا بخسارة. يؤدّي ذلك إلى قدرة إنتاجية معطلة، إضافة إلى ظهور سيولة تفتقر إلى منافذ الاستثمار المربح، فينتج حالات كساد وانكماش. فيكون الحلّ لهذه المعضلة هو خلق فضاء جديد، يتم دمجه في نظام التراكم القائم، ليشكّل بذلك حلاً لأزمة التراكم المفرط. ويتلو ذلك امتصاص هذه الفوائض للتراكم الرأسمالي، أولاً من خلال «التأجيل الزمني» للأزمة، ثم من خلال التوسيع المكاني لنظام التراكم.
هذه العملية هي التي نقلت مركز منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد من دولة أو كيان غربي إلى آخر، بشكل متكرّر، منذ تأسيسها. بحسب أرّيغي، فإنه من خلال عملية التراكم المفرط و«الإصلاح المكاني الزماني» تمرّ المنظومة بدورات متشابهة ولكن ليست متطابقة. وتخلق كل دورة منها، فضاءً جديداً ذي مقوّمات ورأس مال ثابت مزروع في الأرض مختلف عمّا سبقه. ومنذ أول مركز تراكم في مدينة جنوى- حين كان مركز المنظومة في أيبيريا- وانتقاله إلى المقاطعات المتحدة (هولندا) ثم المملكة المتحدة (بريطانيا)، كان كل فضاء جديد يُخلق يغيّر آليات رأس المال الثابت وعمله. ولكن أرّيغي يشير إلى أنّه خلال كل تلك التغيرات، بقي انتقال المركز إلى الطرف الأقدر على استغلال التراكم الرأسمالي، الناتج من عمليات الاستعمار والهيمنة على طرق التجارة، لتسييله إلى تراكم مفرط من خلال العمليات المالية، وتمويل حروب القارة الأوروبية. ويبدو هذا واضحاً في الأمثلة التاريخية، سواء تمويل جنوى للقوتين الإيبيريتين (إسبانيا والبرتغال) أو تحول أمستردام، ثم لندن، إلى أسواق المال الرئيسية لبقية الدول الأوروبية بهدف الاقتراض من أجل تمويل التوسع الاستعماري أو الحروب على أراضي القارة.
كان المركز يخسر ريادته وهيمنته على المنظومة حين يضطر إلى الانتقال من عمليات تمويل الحروب، نحو خوضها. فالهيمنة على منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد قائمة على الهيمنة البحرية، لأن خوض الحروب- على فضاءات جغرافية وإقليمية واسعة جداً- أقل كلفة في البحر، كما يقول أرّيغي. إذ إن الجيوش البرية التي تحتاجها هذه الهيمنة ما لا يمكن أن يموّله أي نوع من التراكم الرأسمالي. وما حصل مع هولندا، هو أنّها أضحت غير قادرة على مجاراة حجم توسعها البحري ودعمه بقوى برّية، سواء في القارة الأوروبية أو في المستعمرات، ما أدّى إلى خسارتها للهيمنة على المنظومة. والأمر نفسه حصل مع بريطانيا، التي كانت تعتمد على الهند لتجنيد العسكر وتمويل الجيوش التي خاضت كل حروبها الاستعمارية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن المملكة المتحدة استنُزفت في الحرب العالمية الأولى، فكان حجم الحرب أكبر مما يمكن للهند أن تؤمّنه من فوائض. فانتهت الحرب بأن أصبحت بريطانيا تعتمد كلياً على أسواق نيويورك وشيكاغو لتمويل إنفاقها. وهكذا انتقل المركز التراكمي، ومعه مركز الهيمنة على المنظومة، إلى الولايات المتحدة، التي خلقت فضاءً إضافياً لتدمجه بالفضاء التراكمي القائم أيضاً.

تأمين الحماية
منذ الحرب العالمية الثانية أرادت الولايات المتحدة الانتقال إلى شكل جديد من الهيمنة، أي إلى حكومة عالمية تسيطر على عمليات توريد كل الموارد الأولية والمصنّعة بشكل يضمن استمرارية التراكم الرأسمالي المفرط وعملية تسييله، كما يسرد أرّيغي. لذا، خلقت فضاء جديداً يدعم هذه «الحكومة»، لتحافظ من خلاله على هيمنتها على المنظومة.
بحسب تشارلز تيلي، فإنه لضمان نجاح الحكم في احتكار وسائل العنف المركّزة على المستوى الوطني، لا بدّ من وجود التآزر بين أنشطة الإنتاج- الحماية وصنع الدولة وصنع الحرب والاستخراج. ولتتمكن الولايات المتحدة من بناء حكومة عالمية موحّدة، تحتكر وسائل العنف المركّزة على المستوى العالمي، هناك شرطان ضروريان: أولاً، طمس المعالم الفاصلة بين صناعة الدولة وصناعة الحرب، بالتالي لا يصعب التمييز بين المجالات الداخلية للدول وبين المجالات المشتركة في النظام الدولي. فتصبح الحروب الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، أعمالاً بوليسية وليست حروباً. ثانياً، بما أن «قدسية السيادة» لا تزال ملكاً للدول، فإن الحكومة العالمية، إن أرادت العمل خارج أطر السيادة، ستواجه صعوبات أكبر في تقديم نفسها كمنظم «للحماية المشروعة» بدلاً من منظم لعمليات «الابتزاز للحماية». لذا كان ضرورياً وجود الأمم المتحدة كإطار للعمل. وضمن هذا الإطار ظهرت الحرب الباردة كمشروع «للحماية المشروعة»، لسببين:
السبب الأول هو أنه قدم درعاً ضرورياً ضدّ خطر لم تصنعه الولايات المتحدة. في النصف الأول من القرن العشرين، كانت بؤرة التصعيد والعنف في أوروبا التي احتاجت بشدّة للحماية من تكرار صراعات مماثلة. هذا ما قدّمته الولايات المتحدة بصفتها الحامية الشرعية لنظام عالمي قادر على منع تكرار حروب على هذا المستوى.
السبب الثاني هو أن الولايات المتحدة قدّمت حماية فعالة بسعر لا يمكن منافسته. فقد كان روزفلت، ومن بعده ترومان، يقترحان تمويل «توفير الحماية» في جميع أنحاء العالم من خلال فائض رأس المال الذي تراكم في الولايات المتحدة خلال الأعوام الثلاثين الفاصلة بين بداية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية لم تكن توجد أي مؤسسة دولية- وكلها حديثة النشأة في حينه- أو دولة تمتلك الموارد اللازمة، لمنافسة السعر الذي تقدّمه الولايات المتحدة مقابل الحماية. بالفعل، كان التحدي الحقيقي أمام إدارة ترومان، يتمثّل في إقناع الكونغرس- ذو الميول الإنفاقية المتحفظة- باستثمار فائض رأس المال الأميركي في إنتاج الحماية على مستوى العالم. في حينه، قام ترومان، وإدارته، بتضخيم التهديد الشيوعي، لصناعة عدو يبرّر الإنفاق.
في مطلع السبعينيات بدأ هذا الوضع يتغيّر، بحسب أريغي. فتبيّت حرب فيتنام أن الحماية الأميركية لم تكن موثوقة كما ادعت الولايات المتحدة، وكما كان يتوقع «زبائنها» ممن اشترى الحماية. ففي الحربين العالميتين الأولى والثانية، زوّدت الولايات المتحدة الآخرين بالائتمان والطعام والأسلحة؛ ووقفت تشاهدهم يستنزفون بعضهم البعض مادياً وعسكرياً. ثم تدخّلت في القتال، متأخّرة، لضمان الحفاظ على النتائج التي تحققت لمصلحتها ولتحقيق المزيد منها. بينما في فيتنام، كان على الولايات المتحدة أن تقوم بمعظم القتال بنفسها في بيئة معادية اجتماعياً وثقافياً وسياسياً؛ في حين أن «زبائنها» الأوروبيين والآسيويين جمعوا قوتهم كمنافسين اقتصاديين، وفي الوقت عينه راكمت الشركات الأميركية العابرة للحدود الأرباح في الأسواق المالية خارج الحدود الإقليمية. كل هذا حرم حكومة الولايات المتحدة من عائدات الضرائب التي كانت بأمس الحاجة إليها وفقد الجيش الأميركي صدقيته، وانهار معيار الذهب الذي ربط عملات العالم بالدولار.

تلاشي الهيمنة
وفي ظل تآكل الهيمنة أضحت الولايات المتحدة مهجوسة بتعزيز صورة الردع العسكري، ولكن من دون تكبّد خسائر كبيرة في الأرواح وفي الحساب الجاري. فنبذت الأممَ المتحدة كمصدر للشرعية للهيمنة الأميركية، وفق أرّيغي. وعززت ميزان الرعب مع الاتحاد السوفياتي من خلال تصعيد كبير لسباق التسلح. وكذلك أشركت مجموعة كبيرة ومتنوعة من «المتنمرين المحليين» (بما في ذلك صدام حسين) و«الأصوليين الدينيين» (بما في ذلك أسامة بن لادن) في تسهيل تراجع العالم الثالث والقوة السوفياتية. وهكذا بدأت الولايات المتحدة في فرض ثمن على الحلفاء مقابل حمايتهم، وفي الوقت نفسه لإنتاج الأخطار التي ستوفر الحماية ضدها لاحقاً. وبدأت بعملية امتصاص تريليونات الدولارات، التي بدأت الحكومات الأجنبية ضخها في خزائن حكومة الولايات المتحدة. فكان أن ظهر أن الحماية الأميركية لم تكن منخفضة السعر. وتحولت من «الحماية الشرعية» إلى عملية «ابتزاز للحماية».
في المحصلة، يبدو أن التحدّي العسكري لهيمنة المنظومة يأتي من مكان غير متوقع. فالتحدي الحقيقي- على مستوى تراكم رأس المال- للولايات المتحدة، والمنظومة بأسرها، هو من الصين. وعليه توقع الكثير من رواد نظرية المنظومات العالمية أن التصعيد العسكري سيكون بين الصين والولايات المتحدة. إلاّ أن اختيار الأخيرة لغرب آسيا لاستعراض صورة ردع حاسمة- سواء من خلال المتنمرين أو من خلال الممارسة المباشرة للقوة العسكرية الأميركية- جعل من هذا الإقليم المسرح الأساسي للبرهان على أن «الحماية الشرعية» انتهت، وأنّ ما تمارسه القوّة المهيمنة على المنظومة هو ابتزاز مكلف جداً للحماية، ولكن من دون وجود حماية حقيقية. وحتى أن أميركا أصبحت غير قادرة على حماية رأس المال الثابت (المغروس والمتنقل) ضمن فضائها. ما يضع واجب تحويل الفوائض الرأسمالية، إلى الولايات المتحدة لحمايته، في مواضع تمحيص ومراجعة. ببساطة، صورة الهيمنة الأميركية تتلاشى، من غرب آسيا، وحتى الهيمنة على البحار أصبحت موضع سؤال أمام ما يحصل حول مدخلي مضيق هرمز.

المصادر:
«الإمبريالية الجديدة»، ديفيد هارفي
«آدم سميث في بيجينغ»، جيوفاني أرّيغي
«صنع الحرب وصنع الدولة كجريمة منظمة»، تشارلز تيلي