صارت ملامح المرحلة المقبلة أوضح. عام كامل بالحدّ الأدنى ستكون فيه العناوين السياسية والأمنية طاغية. ستكون الأزمة النقديّة والمصرفيّة وتداعياتهما الاجتماعيّة مجرّد مسائل شائكة أو أدوات يمكن استعمالها من هذا الطرف ضدّ ذاك. هي مسائل شائكة لأن لا أحد منحَها هذه الأولوية منذ مطلع 2019 ولغاية اليوم. فباستثناء خطّة التعافي الحكومية التي أُطيح بها قبل أكثر من سنة، لم يكن هناك سوى بديل واحد: خطّة رياض سلامة. لم تأتِ خطّته بالصدفة. منذ البدء، كان الرجل يجاهر بكلّ ما ينوي فعله. قالها تحديداً في الاجتماعات الـ15 التي جرت بين ممثلي صندوق النقد الدولي وممثلي الحكومة اللبنانية يوم تقرّر عرض خطة التعافي الحكومية كمحاولة لاقتناص موافقته المسبقة عليها. قالها في القصر الجمهوري في الاجتماعات المالية التي حضرها كلّها... قالها كثيراً إلى حدّ الملل. كان الجميع على علم بخطّته. هي خطة بسيطة في الشكل وخبيثة في المضمون: إطفاء الخسائر عبر التضخّم. يومها قال له ممثل صندوق النقد الدولي: «ستشعل سعر الصرف». لم يكترث. ظلّ على قناعته إلى أن أُتيح لقوى السلطة الإطاحة بخطّة التعافي كاملة. يومها تكرّست قناعته عملاً تنفيذياً متواصلاً لغاية اليوم. وبمعزل عن التفاصيل التي تتعلّق بمن وافق وشارك بهذه الإطاحة أو من سجّل موقفاً منها من دون مواجهتها، لا شكّ بأن خطّته سلكت مساراً يصعب الرجوع عنه. ويتعزّز هذا الاستنتاج مع الوقائع الجديدة الطارئة بعدما دخلت القوى الإقليمية والمحلية في معركة تعديل موازين القوّة. ساحة هذه المعركة هي الانتخابات النيابية في لبنان. تمثّل هذه الساحة فرصة لاستعادة المشروع الأميركي الإطاحة بحزب الله أو تجريده من شرعيّته الشعبيّة. بالنسبة لهم هي فرصة مؤاتية وسط انهيار نقدي واقتصادي واجتماعي ومن دون أيّ أفق للتعامل مع هذا الانهيار بغير خطّة سلامة. طبعاً، المعركة ستتداخل فيها العوامل المحليّة بالعوامل الخارجية.أصل المسألة يكمن في التبعية للخارج. تأسّس لبنان على يد الاستعمار الذي أتاح هيمنة التجّار. تحوّلت لاحقاً إلى هيمنة المصارف. كل قرارات الدولة كانت تُصاغ بيد هذه الطبقة. الطبقة هنا بمعنى المعرفة التي تحصّلها المجموعة. أنتجت هذه الطبقة نموذجاً بائساً في سنوات ما بعد الحرب. بائس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. بموجبه انخرط مصرف لبنان والمصارف في تبديد ودائع الناس ومدخراتهم مقابل رفع قدرتهم الشرائية عبر تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار. وكان لهذه الطبقة رموز مثل رفيق الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط ورياض سلامة وسواهم.
انكشف للعلن بؤس النموذج في 2016، وفي 2019 انكسر ركنه الأساسي: ثبات سعر الصرف. لكن المشكلة التي ظهرت لاحقاً لم تكن متعلّقة بالنموذج البديل، بل في الاستغناء عن فرصة إحياء أو إعادة إنتاج النموذج القديم. هنا المشكلة تحديداً تتعلق بالمعرفة التي يحملها رموز النموذج ومصالحهم المحلية والإقليمية. ففي اللحظة التي تقرّر فيها الاستغناء عن رياض سلامة في سياق القفز نحو نموذج بديل، سارع إلى إنقاذه الرئيس نبيه برّي، والسفيرة الأميركية التي أصدرت بيان تأييد له. من على باب القصر الجمهوري طمأن برّي أن سلامة لا يُمسّ مثله مثل أيّ ركن آخر في النموذج، لا بل ذكّرنا بأنه سيعيد أيام العملة القوية التي تمنحنا جيوباً شرائية واسعة وتبعيّة أكثر للخارج. فالعملة عندما تكون بقدرة شرائية كبيرة، تقضي على القطاعات الإنتاجية، وتسحب المستهلكين أكثر فأكثر نحو الاعتماد المفرط على استيراد السلع من الخارج. هذا أحد أوجه التبعية للخارج. وعندما بدأت تُثار الشبهات المالية حول سلامة في سويسرا وفرنسا وسواهما، سارع إلى إنقاذه دايفيد هيل والسفير شيا بغداء احتفالي في نيسان الماضي.
لو لم يكن لدينا رياض سلامة تابع للخارج، لكان لدينا آخرون. هذه هي الطبقة التي تسيطر على لبنان. وهي لم تعد تسمى «الطبقة المهمينة»، بل «الطبقة المغتصبة» لأنها لم تعد تقتصر على التجّار والمصرفيين. هذه الطبقة هي نفسها التي تقوم بإفلات التضخّم لإطفاء الخسائر وتستفيد منه. مفاعيل هذا الأمر باتت واضحة على غالبية المقيمين في لبنان: فقر، بطالة، هجرة. لكن مع المشروع الجديد للتبعية الخارجية، أي الربط بين مساري المفاوضات الأميركية - الإيرانية، وبين مسار الجوع في لبنان، فإن هذا المسار سينتج شكلاً من الأشكال التي رأيناها سابقاً مثل انقسام 8 آذار و14 آذار. وسط هذه «العلقة» لن يكون هناك أيّ مجال لأي بحث جدّي وجذري في كسر المسار الحالي لإطفاء الخسائر قبل الانطلاق نحو البحث عن نموذج بديل. ستكون الفقر والبطالة والهجرة، أدوات التفاوض في المعركة التي ستحصل. الجوع سيُستعمل من أجل المفاضلة في المسارات. سيكون هناك حصار وانفراجات. لكلّ وقته وأدواته وأهدافه. الخوف من أن يؤدّي الحصار والانفراجات الملحقة به، بما يخدم أهداف صانعيه، إلى انزلاقات نحو العنف أوسع وأكثر حدّة مما هي عليه اليوم. البؤر التي خلّفها الانهيار جاهزة لمثل هذا الأمر. طرد رموز «الطبقة المغتصبة» أول حلقة لكسر الحصار، تمهيداً لطرد أفكارها، وإلا سنكون فريسة شبكات الإغاثة التي تعزّز التبعية للخارج والزبائنية المحليّة.