يوم الخميس الماضي، عُقد اجتماع بين جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. تمحور الاجتماع حول نقاط عديدة، من أبرزها تطبيق التعميم 158 ومنصّة مصرف لبنان «صيرفة». المصارف طلبت من سلامة تأجيل تطبيق التعميم لمدّة شهر، فمنحها بشكل ملتبس المهلة التي طلبتها (يمكن لكل مصرف أن يطبّق التعميم في أي يوم من أيام تموز). كذلك جرى نقاش في آلية عمل المنصّة التي لم يُعرف بعد حجم الطلب الحقيقي عليها ومن استفاد منها، باستثناء أن عدداً كبيراً من الموافقات التي مُنحت للزبائن لشراء الدولار عائدة لتحويل أموال العاملات المنزليات إلى الخارج. أما بخصوص التعميم المذكور، فإن سلامة تباهى أمام المجتمعين بأنه يسعى إلى إغلاق حسابات 800 ألف مودع.لكن لم يكن هذا كل ما دار في الاجتماع؛ ففي سياق النقاش قال سلامة لأصحاب المصارف كلاماً مستغرباً، إذ أبلغهم بأن المصرف المركزي يرى الصورة كاملة التي ليس بإمكان المصرفيين رؤيتها، وأن ما يقوم به ليس سوى بداية خطة استعادة الثقة بالقطاع المصرفي، لا بل إن لديه خططاً واضحة وخطوات محسوبة جداً لما سيقوم به. كذلك قال إن العالم ينظر «إلينا» باندهاش بسبب هذه القدرة على الاستمرار، وإن «الخارج» معجب جداً بهذا النجاح الذي يحقّقه مصرف لبنان لغاية الآن.
المشهد خارج هذا الاجتماع لا يختلف كثيراً. فالمصرفيون كانوا مشغولين بانتخابات جمعية المصارف التي تجري يوم الثلاثاء. ترشّح أصحاب المصارف الموجودون في مجلس الإدارة الحالي لإعادة انتخابهم، في مواجهة مصرفيين اثنين من خارج هذه الدائرة هما: رياض عبجي (بنك بيمو)، وجان رياشي (FFA Private Bank)، وانسحب أيضاً مرشح آخر هو رائد خوري (سيدروس بنك). وفي هذه المواجهة، لم تكن قوى السلطة بعيدة، إذ طلب رئيس الجمعية سليم صفير من الرئيس نبيه بري تزكية عبد الرزاق عاشور (فينيسيا بنك) بدلاً من تنال الصباح (البنك اللبناني السويسري) باعتبار أن بري هو المقرّر في الحصّة الشيعية في الجمعية.
إلى جانب ذلك، تسرّبت معلومات عن أن سلامة تمكن من إقناع أركان قوى السلطة بأنه لا لزوم للجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل أي خطّة للتعافي، إذ إن الخطّة الحالية فاعلة ومستمرّة، وهذا ما دفعه إلى إبلاغ المصرفيين بأن الخارج معجب بنجاحه.
إذاً، بماذا يعدنا سلامة وقوى السلطة؟ يعدوننا حصراً بالأزمة المفتوحة لسنوات بكل ما يتضمنه هذا الأمر من تسارع في ارتفاع سعر الدولار، وتضخّم مماثل في أسعار السلع والخدمات، وتهريب للأموال إلى الخارج، فضلاً عن رفع الدعم نهائياً… المشكلة لم تعد تتعلق حصراً باللجوء إلى صندوق النقد الدولي أو بعدمه، بل بخطّة سلامة البديلة من خطة اللجوء إلى الصندوق التي جرّبتها حكومة حسان دياب وأفشلت عن بكرة أبيها. عملياً، الخطة البديلة هي الأزمة المفتوحة، التي تعني أن التدهور لا سقف له، وأن تفكّك المجتمع والمؤسّسات مستمرّ بلا هوادة.
يحصل هذا الأمر، وسيستمر في الحصول، في ظل سلطة سياسية لم تسلّم أمرها لسلامة فحسب، بل بدأت تمارس العنف الاستباقي في مواجهة العنف المنتظر في الشارع رفضاً لتداعيات خطة سلامة، أي إنها أطلقت خطّة حماية سلامة. نجاح سلامة هو هنا بالتحديد؛ إعادة توحيد المنظومة على مسار توزيع للخسائر من دون إثارة الشغب. والمصارف هي أحد أركان هذه المنظومة، لذا يتطلب الأمر منها تطبيق التعميم 158 للتخلّص من 800 ألف مودع يُعدّون من المودعين ذوي الودائع الصغيرة والمتوسطة، في انتظار بتّ مصير كبار المودعين الذين يمثّلون أيضاً ركناً أساسياً في هذه المنظومة. وإذا كان الهدف من الخطّة واضح لجهة إفقار الناس ودفعهم إلى الهجرة، فإن ما هو أوضح أن المنظومة سلكت أولوية مؤجّلة لكبار المودعين الذين سيحصلون على قسماً من ودائعهم بعد تمليك المصارف القسم الأكبر من أملاك الدولة. هذا الهدف ليس مستتراً، بل ورد في خطّة سلامة والمصارف السارية التطبيق حالياً. بمعنى آخر، طرد صغار المودعين وأصحاب الودائع المتوسطة، وفتح الأمل أمام ترضية كبار المودعين.
وفي هذه الأثناء، إن قوى السلطة ومرجعياتها ورموزها ستكون مشغولة بممارسة ما اعتادت القيام به خلال العقود الأخيرة، أي الاتفاق على تشكيل وتوزيع الحصص الطائفية وإعادة الانتظام إلى نظام التوزيع المموّل بالمال العام، والاتفاق على تحوير القوانين، أو حتى على تطبيقها كما حصل أخيراً لجهة الاتفاق على إقراض الدولة من مصرف لبنان وفق نص المادة 91 من قانون النقد والتسليف، إذ نسي مصرف لبنان أنه مشتبه به امام القضاء المحلي والأجنبي، وتغافل عن وجود أزمة تأكل الأخضر واليابس ليتمسّك بتطبيق مادة قانونية تتيح له الالتفاف على استعمال الاحتياطات بالعملات الاجنبية لتحويلها إلى قرض بالدولار لمصلحة الخزينة!
الأزمة المفتوحة هي بمثابة ضريبة متواصلة وباهظة الكلفة على الشرائح الأدنى في المجتمع. ضريبة مهمتها تقليص الاستهلاك لتخفيف أعباء الاستيراد بالدولار الأميركي. أما إذا لم تكف هذه الضريبة لضرب القدرة الشرائية، وبالتالي لم تقلص استنزاف احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، فالحلّ لن يكون عندها إلا بالتصرف بما يملكه لبنان من ذهب. بيع الذهب سيكون بنداً أساسياً على جدول أعمال السلطة في إطار الأزمة المفتوحة.