رغم التراجع الاقتصادي بسبب جائحة كورونا، ازدادت ثروات الأسر حول العالم في نهاية 2020 بقيمة 28.7 تريليون دولار. وتزامنت هذه الزيادة مع ارتفاع الديون العامة حول العالم بنحو 20% نسبة إلى الناتج الإجمالي العالمي، فضلاً عن تركّز أكثر حدّة في الثروات وتفاقم هوّة اللامساواة التي تسيطر على المشهد العالمي. جاء ذلك نتيجة السياسات النقدية التوسّعية التي ضخّت تريليونات من الدولارات في اقتصادات الدول لتغطية واحدة من أسوأ الأزمات وأكثرها حدّة على جانبَي الإنتاج والاستهلاك بسبب الجائحة.يعكس هذا الأمر ارتباكاً واجهته غالبية الدول المتقدمة في التعامل مع التبعات الاقتصادية والمالية للجائحة. فقد تخلّت هذه الدول عما روّجت له في العقود الأخيرة من سياسات خفض الإنفاق واللجوء إلى التقشّف، وترك السوق ليعالج نفسه بنفسه، لا بل أصبحت المؤسسات الدولية النيوليبرالية تحثّ في تقاريرها على اتّباع سياسات معاكسة تماماً.


أسباب زيادة الثروة العالمية
لم تبدأ الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020 بزيادة في الثروات، بل على العكس خسرت الأسر في العالم، بحسب تقرير بنك "كريدي سويس" الصادر أخيراً، بنسبة 4.4% أو ما قيمته 17.5 تريليون دولار. ففي هذه الفترة، سجّل النمو الاقتصادي العالمي انخفاضاً حاداً ظهرت بعض ملامحه في التراجع الذي شهدته أسواق الأسهم. إلا أن استجابة الدول في السياسات النقدية التوسعية جاءت لتحفّز ضخّ النقود في الأسواق. الدول ذات الاقتصادات الأكبر بالتحديد عمدت منذ آذار 2020 إلى تنفيذ سياسات إنفاقية لتحفيز الاقتصادات مموّلة بطباعة النقود. هذه الإجراءات، أعادت الثروة العالمية إلى مسار تصاعدي. لكنّ القسم الأكبر من التريليونات التي ضُخّت في الأسواق صُبّت في تعافي الأسواق المالية ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الأسهم بوتيرة مطّردة. كذلك انعكس الأمر ارتفاعاً في أسعار السكن بحسب التقرير. ونتج عن التعافي في هذه القطاعات، ارتفاعٌ صافٍ في الثروة العالمية للأسر بلغ 28.7 تريليون دولار لتصبح قيمتها الإجمالية 418.3 تريليون دولار في نهاية عام 2020، أي بزيادة نسبتها 7.4% مقارنة مع السنة السابقة، علماً بأنه بعد احتساب تأثير الانخفاض في قيمة الدولار، أصبح الارتفاع الإجمالي في ثروة الأسر عالمياً يساوي 4.1% في عام 2020.

لا يتناسب هذا الارتفاع في الثروة مع تطوّرات الاقتصاد العالمي؛ ففي مقابل صافي الارتفاع في الثروة العالمية، لم يشهد الاقتصاد العالمي تعافياً كاملاً. يعزو التقرير الأمر إلى أن العديد من الحكومات والمصارف المركزية في الدول ذات الاقتصادات المتقدّمة، وبسبب خوفها من ارتكاب أخطاء كتلك التي ارتكبتها خلال الأزمة المالية العالمية التي حصلت في عام 2008، قرّرت أن تتخذ هذه الجهات إجراءات استباقية على خطين:
- الأول، من خلال اللجوء إلى برامج تحويل الدخل لدعم الأفراد والشركات الأكثر تضرراً. وهو أمر تمكنت هذه الدول من تحقيقه عبر طباعة الأموال، ما أدّى إلى تضخم كتل عرض النقد الضيقة (Narrow Money Supply) خلال السنة الأخيرة.
- الثاني، خفض معدلات الفائدة إلى ما يقارب الصفر.
يشكك التقرير في أن تكون هذه الإجراءات قد حقّقت أهدافها، إذ أنها تكرّست بكلفة عالية جداً وأدّت إلى ارتفاع في الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي في العالم بنحو 20%، وربما أكثر من ذلك في بعض البلدان.
أما بالنسبة إلى برامج التحويلات التي نفّذتها الدول المتقدّمة، فإنها كانت سبباً رئيسياً في عدم انخفاض معدلات الدخل للأفراد في هذه البلدان، لا بل كانت سبباً في ارتفاع معدّلات دخل الأفراد في بعضها مقابل ضيق مجالات الإنفاق عند هؤلاء بسبب الإغلاقات المتتالية. لذا، يستنتج التقرير بأنه بدلاً من أن تكون هذه التحويلات سبباً في ارتفاع الاستهلاك وتحفيز النمو الاقتصادي، أدّت إلى ارتفاع معدلات الادّخار لدى الأسر ما انعكس زيادة في ثروات الأسر عالمياً.
أفقر 50% من البشر في العالم لا يملكون أكثر من 1% من ثروات العالم وفي المقابل يملك أغنى 10% من البشر 82% من هذه الثروات


ويشير التقرير إلى أن خفض معدلات الفائدة كان له الأثر الأكبر، إذ أدّى إلى ارتفاع أسعار الأسهم في الأسواق المالية وأسعار السكن حول العالم "وهما العاملان الأساسيان اللذان ساهما في ارتفاع ثروة الأسر". معدلات الفائدة المنخفضة تعني مصادر تمويل منخفضة الكلفة، لذا فإن انخفاض معدلات الفائدة إلى معدلات قريبة من الصفر، حوّل القروض إلى مصادر للتمويل بلا كلفة تقريباً، ما حفّز على تمويل شراء العقارات والمنازل وحتى الاستثمار في الأسواق المالية من خلال الاقتراض، وهو بالفعل ما حدث خلال السنة الأخيرة الماضية وفق ما يقول التقرير.

التفاوت في الثروة
بنتيجة ضخّ السيولة في الأسواق، ازدادت هوّة اللامساواة في توزّع الثروة عالمياً. ففي نهاية عام 2020 بلغت نسبة الذين يملكون ثروات تُقدّر بأكثر من مليون دولار نحو 1.1% من الراشدين في العالم، وأصبحت قيمة ثرواتهم مجتمعة تساوي 46% من الثروة العالمية. أما الشريحة التي تملك ما بين 100 ألف دولار ومليون دولار، فهي مثّلت 11.1% من الراشدين وصارت تملك 39.1% من الثروة العالمية. وبلغت نسبة الأفراد الذين ينتمون إلى الشريحة التي تملك ما بين 10 آلاف و100 ألف دولار نحو 32.8% من الراشدين الذين يستحوذون على 13.6% من الثروة العالمية. أما الشريحة الأفقر، وهي التي تمتلك ثروات أقل من 10 آلاف دولار فتبلغ نسبتها 55% من الراشدين، ولديها 1.3% من ثروات العالم.


ويظهر التقرير مؤشرات التركّز الحادّ في الثروة، مشيراً إلى أن أفقر 50% من البشر في العالم لا يملكون أكثر من 1% من ثروات هذا العالم. وفي المقابل يملك أغنى 10% من البشر 82% من هذه الثروات، إضافة إلى أن شريحة الـ1% الأغنى تملك 45% من مجمل ثروة العالم.
كذلك، يتبيّن أنه خلال عام 2020 ازدادت ثروات شريحة الـ10% الغنية بنسبة 0.9% من ثروات العالم، وازدادت ثروات شريحة الـ1% الأغنى بنسبة 1.1% من مجمل ثروات العالم. كما ارتفع مؤشر Gini، الذي يعبّر عن اللامساواة في الثروة، بنسبة 0.6 نقطة في عام 2020، بعدما شهد انخفاضاً في السنوات الأخيرة. وهذا الأمر يدلّ على الهوّة الكبيرة التي ساهمت أزمة كوفيد-19 بتوسيعها.
إن التفاوت الواضح، والذي يعبر عن اللامساواة، لا يتعلق فقط بتصنيف الفئات، بل يعبّر أيضاً عن التفاوت بين البلدان. تظهر دراسة الفئة التي تمتلك أكثر من مليون دولار أن الولايات المتحدة الأميركية تستحوذ على 39% منها، وأقرب دولة لها هي الصين التي تمثّل 9% من هذه الفئة. هذا الأمر مؤشّر على اللامساواة بين الدول، إذ تستحوذ الولايات المتحدة على أغلبية الثروة العالمية.

النظرة المستقبلية
يتوقّع تقرير بنك Credit Suisse أن يرتفع حجم ثروة الأسر العالمية بنسبة 39% في السنوات الخمس القادمة، ليبلغ 583 تريلون دولار في عام 2025. كما يتوقّع التقرير أن يرتفع عدد الذين يملكون ثروات بأرقام مليونية إلى 84 مليون شخص في عام 2025.