عرض القسم الأول (المنشور في العدد السابق من ملحق رأس المال بتاريخ 31 أيار 2021) من الورقة البحثية التي أعدّها ألان بيفاني، ليديا أسود، اسحاق ديوان، وكريم ضاهر، بعنوان «ما هي السياسات الضريبية التي ينبغي اعتمادها في لبنان؟ دروس من الماضي لمواجهة تحديات المستقبل»، واقع النظام الضريبي محدّداً الهدف من إعادة هيكلته: «نحو نظام ضريبي أكثر عدالة وأكثر فعالية». إلّا أنّ ذلك لا يمكن أن يحصل بمعزل عن تشخيص عميق لطبيعة هذا النظام الذي يعكس «تناقضاً بين صورة نظام سياسيّ مهيمن وبين ضعفه. فهناك رغبة عارمة لدى الساسة بتوزيع الريع على أتباعهم لتأمين نفوذهم وسلطتهم، ولكن مع وجود مستوى منخفض نسبيّاً من إيرادات الدولة، بسبب فرض ضرائب منخفضة النسب على المداخيل العالية ورؤوس الأموال والثروات». لذا، يتطرّق القسم الثاني إلى أهمية الحوافز الضريبيّة، وإدارة عملية مكافحة التهرّب، خصوصاً أن التشخيص يربط بين احتكار القطاع الخاص وبين النخب السياسية. هذه الهيمنة حوّلت لبنان إلى مكان لا يرحّب بالأعمال والشركات المنتجة للثروة، فضلاً عن أن نظام تشارك المحاصصة الطائفية، أدّى إلى تحييد قدرة النظام السياسي (الذي يسمّى فيتوقراطية vetocracy) على الوصول إلى قرارات قائمة على المبادئ تتطلّب تضحيات قصيرة الأمد من أجل الصالح العام
أنجل بوليغان ــ المكسيك

الحوافز الضريبية والعوامل المثبطة: من النتائج العكسية إلى الفائدة المجتمعية

يمكن أن تكون الحوافز الضريبيّة أداة مفيدة لتشجيع أنشطة اقتصادية محدّدة وتعزيز مناطق جغرافية متخلفة عن النمو؛ وقد استُخدمت أيضاً في كثير من الدول لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مع أنّ الرأي الرئيسي الحالي المرجّح هو أنّ البيئة الجيدة للأعمال التجارية ووجود المهارات والبنى التحتية أهمّ من تقديم خفوضات ضريبية عند استهداف جذب الاستثمار.
مع أن الإعفاءات الضريبية قُدمت على نطاق واسع من منظور الصالح الاجتماعي، فإن غالبية الحوافز الضريبية الحالية تجاوزها الزمن، وهي تُستخدم، في كثير من الأحيان، للسماح للمكلفين المتميزين بانتهاك روح القانون. لذا، ليس مستغرباً أن النفقات الضريبية لا تُقاس جيداً ولا تُقيَّم. فعلى المستوى المؤسساتي، تتطلّب الممارسة الأفضل أن يعامل الخفض الضريبي الممنوح لأهداف اقتصادية واجتماعية بنفس طريقة التعامل مع نفقات الموازنة والاعتمادات: يقتضي أن يُقاس ويُبلغ عنه ويُقيَّم ويُراقَب. لكن لا تُتّبع هذه الإجراءات في لبنان بطريقة ممنهجة. فعلى سبيل المثال، في 2018-2019 ألغى البرلمان، الغرامات على الضرائب غير المدفوعة أو غير المصرّح عنها، وخفض رسوم التسجيل الخاصة بالأملاك السكنية من دون أي تقديرات للكلفة والمنفعة، بل في واقع الأمر لم يُقدَّم أي تبرير في متن الموازنة. ومن أجل الحيلولة دون السعي لتحقيق الريع، هناك حاجة لدراسة أثر الإعفاءات ولمراقبة منتظمة للفعالية في الوصول إلى الأهداف الاجتماعية والاقتصادية لجميع الإعفاءات.

الحوافز الضريبية الحالية ذات الفوائد المشكوك فيها
أغلب الإعفاءات الحالية تأتي بنتائج عكسية من وجهة نظر اجتماعية واقتصادية، وقد وُضعت نتيجة السعي وراء تحقيق الريع عوضاً عن أهداف وحجج اقتصادية مجدية. سنعرض قائمة مختارة منها.
■ الأنشطة العقارية: أدّت السياسات الرامية إلى تحفيز النشاط العقاري (بما فيها خفض رسوم التسجيل ورسوم نقل الملكية، وإلغاء الضريبة على الأرباح الرأسمالية، ومنح إعفاءات من الضريبة على القيمة المضافة) إلى وجود فائض في العقارات المعروضة. ومع أن هذا القطاع كان دافعاً للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل خلال العقدين الماضيين، فإن هذا النوع من النمو كدَّس رأس المال الذي كان من الممكن أن يُوجَّه إلى قطاعات أكثر إنتاجية واستدامة. وبالفعل، انهار قطاع العقارات خلال الأزمة الحالية، مع وجود فائض ضخم في المعروض من سوق العقارات.
■ التعليم: أُعفيت جميع المؤسسات التعليمية من ضريبة الدخل منذ عام 1959. كان الهدف الأساسي من هذا الإعفاء مكافحة الأمية. لكن في الآونة الأخيرة، أدّى هذا الإعفاء إلى زيادة نموّ قطاع يحقق مستويات عالية من الأرباح، ويعمل من دون أي صورة من صور رقابة الجودة ما أدّى إلى انتشار مدارس وجامعات عامة تجارية ذات جودة متدنية. وبوجه أعمّ، تُعفى كيانات القطاع العام، والمنظّمات غير الحكومية، والسلك الديني، وبعض موظفي القطاع العام (من رجال الجيش والقضاة) من كثير من الضرائب. ومع أن هناك أسباباً وجيهة لإعفاء الخدمات المجتمعية من الضرائب، لا بدّ أن يخضع النظام لمراقبة شديدة من أجل تجنّب سوء الاستغلال، مثل دفع مبالغ زائدة من الأجور للعاملين فيه أو السعي لتحقيق أهداف تجارية تحت ستار غير ربحي.
أدت الحالة المؤسفة للقطاع الزراعي إلى تركّز الفقر في المناطق الريفية


■ النشاطات المالية والمصرفية: ثمة أنواع عديدة من الإعفاءات التي استُحدثت في البداية بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولكنها استُغلّت أسوأ استغلال. إذ إن الإعفاءات الضريبية على نقل وتحويل الأسهم في الشركات المساهمة اللبنانية أدّت إلى كمّية هائلة من التهرب الضريبي وسوء الاستغلال، ولا سيما في قطاع العقارات ما قلّل ضرائب الأرباح الرأسمالية ورسوم الانتقال. وثانياً، أُعفيت المصارف الاستثمارية كلياً من الضرائب المفروضة على الشركات خلال السنوات المالية السبع الأولى لها بعد التشغيل أو الدمج، وبنسبة لا تتجاوز 4% من رأس المال المدفوع الخاص بالمصرف بعد انتهاء السنوات السبع. يمكن أن يُساء استغلال هذا أيضاً عن طريق المصارف التي تتمكن -عبر التلاعب في الحسابات- من نقل جزء من أرباحها عن عملياتها العادية إلى فرعها الاستثماري.
■ الشركات المحصور نشاطها خارج لبنان (أوف شور)، وحملة أسهمها: يُعفَون من كل من الضرائب على دخل الشركات (17%) والضرائب على الأرباح الرأسمالية وتوزيعات الأرباح (10%) كذلك من رسوم الانتقال على التركة بالنسبة إلى انتقال الأسهم. كان المقصود من هذه الإعفاءات، التي أنشئت في 1983، هو استقطاب الشركات الأجنبية العاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لاتخاذ مركز رئيسي لها في لبنان، وتشجيع إنتاج الخدمات الإدارية محلياً، ولا سيما الخدمات التي تحتاجها أسواق التصدير ولا سيما التكنولوجيا. هنا تبرز مسألتان منفصلتان. الأولى أن المزايا الضريبية الممنوحة إلى شركات الأوف شور تحتاج إلى إعادة تقييم، للوصول إلى نقطة التوازن الصحيحة. والمسألة الثانية أنه لا بد من رصد هذه الإعفاءات بدقة، لضمان عدم استغلالها من أجل تحقيق أقصى قدر من الربح.
■ الزراعة: أدّت الحالة المؤسفة للقطاع الزراعي -وقد وصل الإنتاج الآن إلى نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي- إلى تركُّز الفقر في المناطق الريفية. ومن أجل الحدّ من الفقر والحدّ من المنافسة العالمية غير العادلة المستمرة، تبدو الإعفاءات الشاملة مبررة لكنها بحاجة إلى التنظيم بطريقة أفضل بكثير من ناحية الإعانات وسياسات الدعم الزراعية الحالية (التبغ والسكر).
■ الصناعة: أُعفيت الشركات الصناعية المُنشأة في مناطق محدّدة من الضرائب مدّة 10 سنوات (وتحديداً في المدن الصناعية المُنشأة في منطقة النبطية وجبيل وزحلة). ليس واضحاً كيف اختيرت المناطق والقطاعات، وليس واضحاً مدى فعالية هذه الإعفاءات. ومن جهة أخرى، جرت إساءة استخدام آلية أخرى أكثر شمولية لتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بإشراف من المؤسّسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان؛ وذلك لخفض الأعباء الضريبية. دائماً ما يكون المنتفعون عملياً من الحوافز الممنوحة من قبل المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان هم كبارُ المستثمرين ذوو العلاقات الواسعة، الذين يتنافسون مع مستثمرين عاديين؛ إذ إن الخصوصية التي يتمتعون بها تكمن في قدرتهم على الحصول على إعفاءاتهم بموافقة مجلس الوزراء.

الإصلاحات المالية تتطلّب دعماً سياسياً

يتجلّى من تقييم وأداء النظام الضريبي في المرحلة السابقة تناقُض فاضح بين صورة نظامٍ سياسي مهيمن وضعفه: فهناك رغبة عارمة لدى الساسة بتوزيع الريع على أتباعهم لتأمين نفوذهم وسلطتهم، ولكن مع وجود مستوى منخفض نسبياً من إيرادات الدولة، بسبب فرض ضرائب منخفضة النسب على المداخيل العالية ورؤوس الأموال والثروات.
وقد دفع القيد الضمنيّ على «استحلاب الدولة» النخبة السياسية إلى احتكار أجزاء كبيرة من القطاع الخاص، حيث أدّت هيمنة «شركات المحاسيب» إلى جعل لبنان مكاناً لا يرحّب بالأعمال والشركات المنتجة للثروة. ويُعَدّ الدَّين الحالي والأزمة المالية نتيجة مباشرة لهذه المفارَقة. علاوة على ذلك، فإنّ نظام تشارك المحاصصة الطائفية، قد أدى أيضاً إلى تحييد قدرة النظام السياسي (الذي يسمّى فيتوقراطية vetocracy) على الوصول إلى قرارات قائمة على المبادئ، تتطلّب تضحيات قصيرة الأمد من أجل الصالح العام.
تُمثّل إعادة بناء الوعاء الضريبي استناداً إلى مبادئ الكفاءة والإنصاف، جزءاً محورياً من القدرة على مواجهة الأزمة المالية الحالية وشقّ مسار نمو حيويّ ومستدام. هذا النمط من إصلاحات السياسات الشاملة يتطلّب شجاعة سياسية ودعماً شعبياً من جماهير تثق بحكومتها. ولكن لسوء الحظ لا تتوفر هذه العناصر اليوم. من جهة أخرى، تستطيع أي حكومة إصلاحية وذات مصداقية أن تجد مساحة واسعة لإحراز تقدّم. وبينما هناك مفاضَلة بين الإنصاف والعدالة الاجتماعية وبين الكفاءة الاقتصادية، فإن هذه المعضلة أقل بروزاً في لبنان. فقد كان النظام الضريبي في الماضي القريب غيرَ فعّال لدرجة أنه يمكن تصميم الأدوات الضريبية لتحصيل مزيد من الأموال دون تحجيم الحوافز الدافعة لإنتاج الثروة.
يجب أن يصبح النضال لتحقيق العدالة المالية والفعالية أمراً أكثر محورية في الاهتمامات السياسية اللبنانية. والواقع أن من الأسباب الأساسية لعدم استمرار الإصلاحات الاقتصادية اللازمة دون إجراء إصلاحات سياسية هو أن تحصيل الضرائب يُواجَه بالرفض حين لا يصحبه تمثيل سياسي كافٍ.

الامتثال الضريبي وسط الأثرياء منخفض للغاية

هناك حاجة إلى توسيع الوعاء الضريبي (أي القاعدة الضريبية) بشكل كبير ليشمل الفئات الأغنى في المجتمع؛ إذ تشير جميع التقارير إلى أن الامتثال الضريبي منخفض للغاية في أوساط الأثرياء. بالتوازي مع ذلك، لا بدّ من تواصل الجهود لتثقيف صغار دافعي الضرائب، من أجل تعزيز درجات الامتثال. هناك عدّة أسباب لهذا الوضع الراهن. أولها أن انخفاض الضرائب يمثل انعكاساً للنظام الاقتصادي النيوليبرالي مشتبكاً بالحرب الأهلية. أما العامل الثاني فهو ضعف تطبيق القوانين والأنظمة المرعية، نتيجة السلوك الريعي. والعامل الثالث هو أن محاولات تحديث النظام قد أعاقها السياسيون بصورة منهجية للدفاع عن مصالحهم على المدى القصير ومصالح شركائهم التجاريين. هذه بعض الإصلاحات المطلوبة؛

السرية المصرفية
الأمر المهم الذي يجري تجاهله عادةً هو السرية المصرفية. فمع زيادة مستوى الشفافية عالمياً، لم يعد هناك مجال للملاذات الضريبية في المستقبل؛ وعلى أيّ حال، فقد خسر النظامُ المصرفي اللبناني، وبصورة لا يمكن إصلاحها، سمعتَه بوصفه ملاذاً آمناً. نتيجةً لهذا، لم تعُد السرية المصرفية شيئاً مفيداً لجعل لبنان بلداً أكثر جاذبية. ومستقبلاً، سيعتمد جذب رؤوس الأموال على فرص النمو لا على المعدلات الضريبية المنخفضة. فكلفة السرية المصرفية عالية جداً من منظور الامتثال الضريبي؛ فهي قطعاً ذات أثر سيئ على ضريبة الدخل (لذوي المهن المستقلة) رسوم الانتقال والضريبة على إيرادات رؤوس الأموال المستثمرة في الخارج. لذا فمن الصعب تصور نظام ضريبي فعال، ناهيك عن عدم جدوى تنقية النظام المصرفي، دون إلغاء السرية المصرفية.

التعاون الدولي وتبادل المعلومات الضريبية
يمثّل إتمام التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية (على أساس نظام المعايير الموحدة للبيانات المالية)، الذي انضم إليه لبنان في عام 2009، مجالاً شديد الأهمية. أدّت جهود الإدارة العامة لوزارة المالية، رغم المعارضة السياسية القوية، إلى جعل لبنان دولة «ملتزمة إلى حدّ كبير» لجهة الشفافية الضريبية وتبادل المعلومات الضريبية. هذا يعني أن السلطات الضريبية اللبنانية ستتمكّن من الحصول تلقائياً على جميع المعلومات المتعلقة بالأرباح الرأسمالية والفوائد المصرفية وما شابهها التي يجنيها سكانه في معظم دول العالم، ثمّ يكون بإمكانها تحصيل ضرائب على هذا الدخل وفقاً للقانون اللبناني. ولكن بينما يقف لبنان على أعتاب الأهلية للبدء في تلقي المعلومات المتعلقة بالضرائب من الدول الأخرى، يجب عليه تنفيذ بعض الخطوات المتبقية لتأمين سرية البيانات. وحتى ذلك الحين، فإن لبنان اليوم في موقف سوريالي، إذ يقدّم المعلومات المصرفية إلى العالم (ولكن لا يقدّمها إلى إدارته [الضريبية]!)، ويرفض تلقي المعلومات نفسها من نظرائه! سيتيح إتمام هذه العملية لوزارة المالية تلقّي معلومات قيّمة حول الأصول/السندات (الأصول المالية) التي يمتلكها دافعو الضرائب في الخارج. وهناك حاجة ماسّة للتحرك على هذا الصعيد، وخصوصاً أن هذا المصدر من مصادر الدخل لم يُعانِ من التطوّرات النقدية والمصرفية المأساوية الأخيرة التي شهدها لبنان.

الاقتصاد غير النظامي
يُقدَّر حجم القطاع غير الرسمي (النظامي) بنسبة 36.4% من الناتج المحلي الإجمالي و67% من القوى العاملة في عام 2015. غير أن كثيراً من المؤسسات غير النظامية ليست سوى عبارة عن أفراد فقراء من ذوي المهارات المتدنّية يعملون لحسابهم الخاص، ومنخرطون في أنشطة منخفضة الإنتاجية. لذا تحتاج السياسات العامة، في حالتهم، إلى التركيز على الإجراءات الرامية إلى الحد من الفقر بين الأجيال عن طريق دعم قطاعَي التعليم والصحة، وإتاحة الوصول إلى التدريب والتمويل متناهي الصغر. لكن هناك أيضاً كثيرٌ من الشركات الكبيرة بما يكفي لئلا تُعَدّ شركات غير نظامية، ولكنها تتحاشَى اتخاذ الطابع الرسمي من أجل تجنّب تحمّل عبء الضرائب والامتثال للأنظمة. لا تتسبب هذه الشركات بخفض الإيرادات المالية فحسب، بل تتنافَس -على نحو يفتقر إلى العدالة والإنصاف- في أسواقها، وتقتطع أجور موظفيها، وذلك من خلال عدم إدراجهم في نظام الضمان الاجتماعي؛ وتخاطر بصحة المواطنين نتيجة عدم امتثالها لمعايير الجودة والضوابط البيئية. لذا فهناك حاجة لتوظيف منهج «العصا والجزرة» لدفع تلك المؤسسات للانخراط في المنظومة الرسمية.
لم تعُد السرية المصرفية شيئاً مفيداً لجعل لبنان بلداً أكثر جاذبية


يجب أن تفرض القواعد واللوائح عقوبات مناسبة على جميع مرتكبي الممارسات الضريبية غير المشروعة وعوامل تمكينها (التهرب الضريبي والتهرب من دفع الضرائب وغسيل الأموال) أو تغض الطرف عنها. ولكن في الوقت الراهن، ليست هناك «عصا» ملائمة في البنية القانونية. وقد شكّل عدم تعاون الأحزاب السياسية والبرلمان عقبة رئيسية أمام ضمان الامتثال في الماضي. فحتى الآونة الأخيرة، رفض صندوقُ الضمان الاجتماعي، أو إدارة الجمارك أو البلديات أو القوى الأمنية إمدادَ مديرية الضرائب بالمعلومات في الوقت المناسب، في حين عارَضَ البرلمان تمرير إجراءات الامتثال [الضريبي]. قُدّمت عروض بالتسوية (العفو) مراراً وتكراراً في الماضي. وقد أدى هذا المنحى إلى الآن إلى الحدّ بشكل كبير من مصداقية العقوبات، ما يستدعي ألا تُستخدَم مستقبلاً إلا بشكل موضوعي ومدروس.
علاوة على ذلك، ومن أجل فعالية الضوابط والموازين، على الإدارة الضريبية ألا تكون الخَصم والحَكَم في الوقت ذاته؛ فيكون لها الصلاحية وأحياناً الاستنسابية في تفصيل النصوص وتطبيقها ومراقبة الأداء في آنٍ معاً، كما هو الحال اليوم. ولا بدّ من تطبيق العقوبات التأديبية بطرق أكثر مصداقية وفعالية على الموظفين والمراقبين الذين لا يتصرفون بشكل مهني.

الإيرادات والنفقات: أي مخاطر؟

يتوقّع البنك الدولي أن يؤدّي استمرار الانهيار الحاصل في إيرادات الدولة إلى تدهور وضع حساب المالية العامّة في لبنان مقارنة بعام 2020. فيفترض البنك زيادات اسمية هامشية في ما يتعلّق بالإيرادات، حيث من المتوقّع أن يكون الانكماش الاقتصادي أقلّ حدة وأن تزيد معدّلات التضخم المرتفعة من جمع الإيرادات من الناحية الاسمية (وليس الحقيقية). إلّا أن معدلات التضخم المرتفعة ستؤدي إلى تقليص نسبة الإيرادات إلى الناتج المحلي بنسبة 4.6%، لتصل إلى ما يقرب من 7%، مقارنة بمعدّل 20.7% في السنوات الأخيرة.
أمّا في ما يتعلق بالنفقات، فيتوقّع البنك الدولي زيادة بنسبة 30% في الإنفاق الأولي الاسمي، بسبب الضغوط التضخميّة أيضاً. لكن من المتوقّع أن تنخفض النفقات الجارية الأوّلية كنسبة من الناتج المحلي، بسبب الضغوط التضخمية نفسها. وبناءً عليه، يقدّر البنك أن تتدهور حالة الحسابَين الأولي والإجمالي في المالية العامّة للدولة في عام 2021. ويشير هذا الأمر، بحسب البنك، إلى أن مصرف لبنان سيكون مضطراً إلى الاستمرار في تمويل العجز، الأمر الذي سيؤدي إلى تسريع استنزاف احتياطي العملات الأجنبية لديه. لذا، إن المسار المالي الحالي يعتمد بشكل كبير على امتلاك مصرف لبنان احتياطات كافية لمواصلة تمويل الحكومة.


حوافز ضريبية محدّدة الأهداف
هناك ندرة في الحوافز التي تحقّق أغراضاً اقتصادية واجتماعية نافعة، وهناك حاجة إلى تضمينها في النظام الاقتصادي مستقبلاً، من أجل تحقيق أهداف وطنية مقبولة. وقد أصبح فرض ضرائب جديدة على أنشطة ضارة بالصحّة أو خطيرة على البيئة أو كلتيهما (كالمحاجر ومصانع الأسمنت) مطلباً رائجاً اليوم لدى المنظمات والجمعيات البيئية. يمكن أيضاً تخصيص تلك العوائد الضريبية للقضايا الصحية والبيئية نفسها. ومع أنه غير مرغوب به بشكل عام، لأن ذلك التخصيص سيُقيّد مرونة الميزانية، فإن لديهم ميزة اليقظة الاجتماعية من أجل تحصيل فعال. على سبيل المثال، من شأن إنشاء صندوق خاص لتعزيز الموائل الطبيعية من خلال فرض ضرائب على المحاجر أن يزيد جهود جماعات حماية البيئة لضمان تطبيق القوانين تطبيقاً جيداً.
حين يكون الهدف على غرار تلك الحوافز هو خلق فرص عمل، لا بدّ من تطوير التدخلات وإدارتها كجزء من استراتيجية تصنيع مدروسة جيداً. ولتشجيع الإبداع، وتطوير المهارات، والاستثمارات المحفوفة بالمخاطر، استخدمَت بعض الأسواق الصاعدة الأخرى بكثافة آلياتٍ من قَبيل الإعفاءات الضريبية للصناعات الناشئة، والدعم المالي لأقسام البحوث والتطوير، وإقامة مناطق تجارة حرة ومراكز إنمائية وحواضن (بما لذلك من آثار تكتلية وانخفاض ضريبي وخدمات عامة أكثر فعالية)، إضافة إلى دعم الروابط بين القطاع الخاص والجامعات؛ وعلى لبنان أن يحذو حذو تلك الأسواق في سعيه إلى اتخاذ مسار جديد في النمو مستقبلاً.