«الأجر الاجتماعي» معركة تستحقّ أن نخوضها قوى السلطة عاجزة وتتّكل على «معجزة ما»

رغم الانهيار، هناك ثابت أساسي بين معركة تصحيح الأجور في 2011 - 2012 وبين المعركة الحالية: العمال والموظفون لا يملكون إلا المكافحة لاستعادة مواقعم التي خسروها. بالنسبة إلى الأستاذ ورئيس قسم الاقتصاد في جامعة LAU، غسان ديبة، ليس الأمر سهلاً. فإلى جانب هزالة الحركة النقابية، لم تصل انتفاضة 17 تشرين الأول إلى خواتيم سياسية. هنا تحديداً يكمن التحدي المقبل. ففي ظل ما يسميه «سياسة الهوية» أو الطائفية بدلاً من «سياسة الطبقة» هناك معركة «الأجر الاجتماعي» التي تستحق خوضها وسط مسارات معقّدة ومحفوفة بالمخاطر تدفع قوى السلطة إلى «الاتكال على معجزة ما»

تلقّت الأجور الموجة الأكبر من الخسائر التي مني بها النظام - النموذج بعد انهياره، لكن المستغرب هو ذلك الصمت شبه المطبق تجاه هذا النوع من الخسائر. التململ من خسائر الأجور لا يبرر صمت كهذا. كيف برأيك يمكن تحديد خسائر الأجور، وكيف يمكن الانتقال من مرحلة الصمت إلى المطالبة بالتصحيح؟
- عندما انهار النموذج الاقتصادي القديم، وعماده الأساسي تثبيت سعر الصرف وما لحق ذلك من تضخم مرتفع، مُنيت الأجور في القطاع النظامي والقطاع العام بصدمة كبرى وتراجعت قيمتها الحقيقية بنحو 70% في الفترة الممتدة من الفصل الأخير من عام 2019 وحتى الآن. ليس هناك صمت، هناك مطالب ولكن هناك عدة عوامل تتحكم بعدم تحول هذه المطالب إلى تحركات فاعلة؛
أولاً، والجميع يعلم هذا، ضعف الحركة النقابية. لقد كُتب الكثير حول هذا الموضوع، إذ أن أساس أي تحرّك للعمال والموظفين هو وجود النقابات الفاعلة. وبالتحرك لا أعني فقط التحرك في الشارع، بل في المصانع والمؤسسات وأماكن العمل حيث القدرة على الضغط مباشرة على رأس المال من أجل تصحيح، أو زيادة الأجور. البعض يعتقد أن التحرك في الشارع هو السبيل الوحيد، ولكن برأيي، الأساس هو الضغط المباشر على أصحاب العمل خصوصاً عندما نتحدث عن الأجور؛ وهذا لن يحدث من دون نقابات قوية.
ثانياً، انتفاضة 17 تشرين كان الأساس فيها الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية، حتى قبل تفلّت سعر الصرف بشكل كبير، وبالتالي يمكننا أن نقول إنه كان هناك تحرّك جماهيري كبير في بداية الانتفاضة ولكن عدم وصول الانتفاضة إلى خواتيم سياسية، أي التغيير على المستوى السياسي لأسباب عديدة منها غياب قيادة سياسية للانتفاضة وجائحة الكورونا وعدم وجود نقابات ومناطق جغرافية معينة تتركز فيها الاحتجاجات (المناطق العمالية أو الفقيرة)، كل ذلك أرسى نوعاً من الإحباط المعمّم، ما انسحب أيضاً على قضية الأجور.
ثالثاً، علينا ألا ننسى أن طبيعة السياسة في لبنان لا تزال تتحكّم بها، ما يمكن أن نسمّيه «سياسة الهوية» أو الطائفية بدلاً من «سياسة الطبقة»، وهذا يجعل المحدّدات الاقتصادية والاجتماعية للتحرّك السياسي تنتفي فاعليتها. هنا يكمن التحدي الأساسي برأيي في المرحلة المقبلة.
أخيراً، هناك التحويلات من الخارج إلى الأسر والتي زادت قيمتها بالليرة اللبنانية ما يفوق التضخّم وهي تشكّل نوعاً من «شبكة الأمان» لشريحة كبيرة من اللبنانيين، كما جميع أشكال «الدعم» السياسي التي تقوم بها الأحزاب والجمعيات الطائفية.

نمر اليوم بظروف غير عادية وبالتالي قد لا تنفع الأدوات العادية في معركة تصحيح الأجور. ما هي الأدوات التي يمكن الاعتماد عليها اليوم؟
- أي تصحيح معمّم للأجور، اليوم، مرهون بقدرة العمال والموظفين على فرضه على رأس المال، وإن كان هناك تصحيحات تحصل في بعض المؤسسات لكنها غير معمّمة. كما أن هذا الأمر أصبح جزءاً من المعركة السياسية الكبرى بعد انتفاضة 17 تشرين. لكن هذا لا يمنع أن يتم تفعيل «لجنة المؤشر» في وزارة العمل من أجل السير بعملية تصحيح الأجور. ولكن هي أيضاً تخضع لموازين القوى كما كان جلياً في تجربة 2011-2012. هنا يمكن اعتبار «الأجر الاجتماعي» أداة غير عادية، عبر السياسة المالية، لتصحيح الأجور، وقد تكون مفيدة في الوضع اللبناني لتكون مكملة للتصحيح النقدي لتفادي حصول لولب أجور - أسعار، وللتخفيف من التأثير على ميزان المدفوعات في ظل تراجع تدفّق العملات الخارجية، ما قد يدخلنا في موجات من أزمات ميزان المدفوعات وانهيار سعر الصرف وزيادة الأجور وهكذا دواليك.
لا يمتلك العمال والموظفون، في الصراع على التوزيع الاقتصادي في خضمّ الأزمة اليوم، إلا أن يكافحوا من أجل استعادة مواقعهم الاقتصادية التي خسروها


حتى الآن محرك التضخّم هو خارجي، أي سعر صرف العملة، وليس داخلياً لعدم حدوث الصراع الاجتماعي حول المداخيل. لكن هذا لا يعني أن العمال والموظفين عليهم ألا يطالبوا بزيادة الأجور فلا يمكن أن يُطلب منهم ذلك بعد خسارتهم لأكثر من 70% من قيمة دخلهم، هذا من دون احتساب تأثير البطالة على دخل العمال الكلي، وفي ظل نظام اقتصادي زادت فيه حدة المساواة وتركز الثروة، ما أوصل لبنان إلى الأزمة التي يعيشها.
هنا تأتي أهمية التغيير السياسي من أجل إقامة عقد اجتماعي جديد ونموذج اقتصادي جديد. من غير ذلك، لا يمتلك العمال والموظفون في الصراع على التوزيع الاقتصادي، في خضم الأزمة اليوم، إلا أن يكافحوا من أجل استعادة مواقعهم الاقتصادية التي خسروها نتيجة التضخم وانهيار سعر صرف العملة. هذا حصل خلال التضخّم المفرط الذي حصل في جمهورية الفيمار في ألمانيا بين عامَي 1922 و1923. يومها حاول العمال أن يحافظوا على قيمة أجورهم الحقيقية من خلال التصحيح الدوري، وبحسب بعض الإحصاءات فقد خسر مؤشر الأجور الكلي بين عامَي 1919 و1923 فقط 20% من قيمته الحقيقية رغم التضخم المفرط وزيادة البطالة.

أنت أول من أطلق مفهوم «الأجر الاجتماعي» في لبنان. هل تعتقد أن التصحيح يجب أن يكون على هذا المستوى أو على مستوى آخر؟
- أتى مفهوم الأجر الاجتماعي خلال مفاوضات تصحيح الأجور في عام 2011 حيث طرحت التغطية الصحية الشاملة كجزء من ما يمكن أن نسمّيه «أجراً اجتماعياً» تؤمّنه الدولة لمواطنيها، وليس أجراً نقدياً. اليوم، يرتدي الأجر الاجتماعي أهمية كبرى خصوصاً بعد تداعيات أزمة «كورونا» وتراجع قيمة الأجور النقدية. فقد برهنت جائحة «كورونا»، ليس فقط في لبنان، بل حول العالم، أن الدولة هي أساس في الاقتصاد، حتى الرأسمالي، فأسطورة النيوليبرالية انتهت، وخير مثال على ذلك خطط بايدن في الولايات المتحدة التي أنهت فعلياً حقبة النيوليبرالية المحقّقة في الواقع وأيضاً على مستوى الفكر الاقتصادي.
هنا يأتي دور الأجر الاجتماعي، وهو يشكل التقديمات الاجتماعية للدولة في الصحّة والتعليم والحماية الاجتماعية والدخل الأساسي الذي أصبح أكثر تطبيقاً اليوم حول العالم، كما السكن الاجتماعي. كذلك، أريد أن أذكر المزيد حول أمرين:
- الأول، التغطية الصحية الشاملة وهي عندما طُرحت في عام 2011، هدفت إلى تغطية جميع اللبنانيين مع تمويل لها من الضرائب على الريع والثروة وغيرهما، ولو طُبقت مذاك لكنا شهدنا قطاعاً صحياً أكثر فعالية وشمولية في التغطية، وأفضل في التعامل مع جائحة «كورونا». أما السكن الاجتماعي، فيجب اتباع سياسات تزيد من عرضه كما في الكثير من الدول. فقد فشل نموذج «مجتمع الملكية»، أي أن يستطيع جميع اللبنانيين أن يمتلكوا منازلهم بدلاً من استئجارها، وهو ما وضع ضغوطاً هائلة على ميزانية الأسر المتوسطة والعاملة، كما أسهم أيضاً في خلق الدولار المصرفي عبر القروض السكنية المصرفية بالدولار، أو حتى بالليرة اللبنانية، الذي حوّل أكثريته إلى دولار من قبل البائعين ومالكي العقارات. بالإضافة إلى ذلك، يشكّل زيادة الأجر الاجتماعي اليوم، بعداً آخر في عملية إعادة التوزيع المطلوبة. فإذا كان، حتى الآن، البعد المباشر، أي في تصحيح الأجور قليل الإمكانية في التحقق للأسباب السابقة، فإن الطريقة غير المباشرة عبر السياسة المالية، أي وضع الضرائب على الثروة والأرباح وتمويل الأجر الاجتماعي، قد تكون الطريقة المناسبة لـ«تصحيح الأجور». لكن هذا أيضاً ليس أمراً أوتوماتيكياً فهذا يحتاج إلى صراع طبقي أيضاً، لأنه سيكون هناك خاسرون ورابحون في المجتمع. فحتى دولة الرفاه الاجتماعي في الدول الاسكندنافية لم تأت من العدم، أو من أفكار اقتصادية، بل كانت نتيجة الصراع الطبقي، وهنا أيضاً لعبت النقابات والأحزاب اليسارية الجماهيرية الدور الأساسي في بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي استطاعت أن تقاوم الهجمة النيوليبرالية لاحقاً.
الظروف مختلفة اليوم، ولكن هناك بوادر أمل، منها ما أشرت إليه بتراجع الفكر النيوليبرالي حول العالم. كما أن نهاية النموذج الاقتصادي القديم في لبنان يحتم قيام عقد اجتماعي جديد يجب أن يكون فيه انتقال للدولة من الدولة الطائفية الريعية والزبائنية إلى دولة ديمقراطية اجتماعية.

تقنياً وعملياً، ما الذي يحصل عندما تنهار الأجور بالشكل الذي حصل في لبنان؟ الخروج من الأزمة المالية يتطلب ضرب الاستهلاك وزيادة الأسعار بينما المجتمع لا يمكنه تحمل مثل هذه الضريبة. ماذا يعني ذلك؟
- كما ذكرت عن تجربة جمهورية الفيمار فإن التضخم لديه آثار توزيعية كبرى تعتمد على مقدرة الطبقات على المحافظة على مواقعها الاقتصادية. لقد قال جون ماينارد كينز: «إن التغيّر في الأسعار والمكافآت، كما تُحْتَسَب بالنقد، يؤثّر بشكل عام على الطبقات بشكل غير متساوٍ، وينقل الثروة من طبقة إلى أخرى، يُعطي الغنى هنا ويُعطي العوز هناك». ( كتبت حول هذا الأمر في آذار 2019). والانهيار في سعر صرف العملة أدى إلى هذا الأمر في لبنان. والذي حصل كما ذكرت، ضربة كبيرة للطبقات العاملة والمتوسطة التي يتأتى دخلها من الأجر الثابت، وعلينا ألا ننسى تأثير ذلك على تعويضات الضمان الاجتماعي إذ انتهت الضمانات التي كان يفكر فيها العامل على أنها ستشكل دخله خلال التقاعد. كما خسر المدّخرون بالليرة اللبنانية، كما حصل في الثمانينيات من القرن الماضي. ولكن بسبب كون الأزمة ليست فقط أزمة سعر صرف عملة، بل تخطّتها إلى أزمة مصرفية على صعيد الودائع بالدولار، فقد أدى ذلك أيضاً إلى خسارة للمدّخرين بالدولار، فضلاً عن خسارة جزء كبير من الطبقة الرأسمالية الريعية لقيم ثروتها. كما أن انخفاض العائد الحقيقي وانخفاض قيمة سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أفقدا الطبقة الرأسمالية الريعية جزءاً من ثروتها ومن دخلها، كما أن توقف الدولة اللبنانية عن دفع سندات اليوروبوندز وانخفاض سعرها في الأسواق أحدثا الأمر نفسه. ومن غير الواضح من استفاد اليوم، إلا أن التجارب وتجربة لبنان في الثمانينيات أظهرت أن الطبقة الرأسمالية الصناعية تتقدم مواقعها الاقتصادية في هذه الظروف.

الدولة هي أساس في الاقتصاد، حتى الرأسمالي، فأسطورة النيوليبرالية انتهت، وخير مثال على ذلك خطط بايدن في أميركا التي أنهت حقبة النيوليبرالية المحقّقة واقعاً وفكراً


وعلينا أخيراً، أن نتذكر أن الدولة اللبنانية استطاعت عبر التضخم أن تخفض بشكل كبير القيم الحقيقية للدين العام وهذا سيكون له الوقع الإيجابي على مالية الدولة في المستقبل.
أما على صعيد الاستهلاك، فقد أدّى تأثير ذلك الانخفاض، وخصوصاً في الأجور، إلى تراجع الاستهلاك وانخفاض الاستيراد وهذا ضمن عملية التصحيح التي تحصل في حال التوقف المفاجئ في تدفق رأس المال من الخارج، وذلك لإعادة التوازن إلى الحسابات الخارجية. أعتقد أن هذا الأمر حصل، وانتهى إلى حدّ كبير، وربما حصل أكثر من اللازم للعودة إلى التوازن في الحسابات الخارجية، إذ أن السوق الموازية قد تكون مُضخّمة لسعر الدولار ولا نستطيع أن نعرف درجة التصحيح المطلوبة إلا عند العودة إلى نظام سعر موحّد. وللوصول إلى هذا الأمر، المطلوب الآن سياسات جديدة، وإعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي من أجل إعادة الثقة في الاقتصاد اللبناني وخفض التوقعات حول التضخم. بالإضافة إلى ذلك، كل ما يُحكى عن رفع الدعم، يجب ألا يُناقش قبل عملية الإصلاحات هذه، إذ أن كمية الاحتياطات الخارجية ليست ثابتة، فهي يمكن أن تنقص (كما حصل) ويمكن أن تزيد في حال تم تطبيق إعادة الهيكلة، وأصبح لدينا نظامٌ مالي ونقدي طبيعي. وهناك دلائل على استمرار تدفق أموال المغتربين من الخارج، أو حتى احتمال زيادتها، وبالتالي فإن زيادة الاحتياطات من العملة الأجنبية ممكنة. وهذا يتطلب أيضاً إزالة الوهم الذي يضع اللبنانيين أمام خيار الإبقاء على الدعم، أو دفع أموال المودعين، وهذا ليس صحيحاً.
المفاضلات هذه كلها لا نستطيع أن نعرفها الآن وهي ليست لعبة صفرية (zero sum game)، بل هي تعتمد على مقدرة لبنان على تكوين احتياطات خارجية، وهو لديه احتياط الذهب أيضاً الآن وعلى مدى إعادة الهيكلة القيمية والزمنية للمطلوبات في النظام المصرفي ومصرف لبنان. وتكوين هذه الاحتياطات هو للمحافظة أصلاً على مقدرته على الاستيراد والتدخل للدفاع عن قيمة الليرة اللبنانية، إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وهي كلها مسارات معقّدة ومحفوفة بالمخاطر، وعلينا ألا نحسد أحداً في، أو سيكون في موقع المسؤولية. وقد يفسر هذا عدم المقدرة على تشكيل حكومة جديدة ومحاولة الإبقاء على الأمور كما هي، ربما لاعتقادهم أن يأتي الحل من معجزة ما.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام