يلتزم المشرّع اللبناني من خلال المنظومة القانونية المصرفية بتحقيق الغاية الأساسية المتمثّلة بترقية القطاع المصرفي إلى أعلى درجات الأمان والثبات، ويفرض قواعد وقائية، احترازية، إلا أنّها إلزامية لتعلقها بالنظام العام. لكن، إزاء الحالة اللبنانية العقيمة، وقعت المنظومة التشريعية أسيرة الشعبوية الكريهة، وتحوّلت المفاهيم النقدية والمصرفية إلى خبرات غبّ الطلب تنضَح بأهدافٍ ترويجية لمناصب منشودة.ممّا لا شكّ فيه، أن مسألة تحديد صلابة الوضعية المالية للمصارف ليست بديهية لأنها تقع في إطار نمطي تقني وضمن سياق قانوني إجرائي، إذ تعدّ الأهلية المالية للمصارف وسيلةً تنافسية في إجراءاتها، غايةً حمائية في أهدافها وأداةً تنظيمية في تداخلاتها. خاصة، أن للمصارف مكانة دولية في نظام المدفوعات وإدارة حركة النقود، ما استدعى المزيد من التناغم على المستوى التشريعي، الوطني والدولي، لتنظيم وترشيد هذا القطاع المهم، وتلعب لجنة بازل للرقابة المصرفية دوراً رئيسياً في هذا الشأن.
وذلك، لأن:
• المصارف، قادرة من خلال الامتياز الحصري المعطى لها بتلقّي الودائع من الجمهور (المادة 122 نقد وتسليف)، على خلق كتلة من الأموال الائتمانية (أموال التسليفات والقروض)، وإدارة وسائل إيفائها. من هنا كان لازماً تدخّل المشرع في مسار العمليات المصرفية، بحدّيها: الودائع والتسليفات. إذ تنص (المادة 156 نقد وتسليف)، صراحةً، على إلزامية مراعاة «المصارف في استعمالها الأموال التي تتلقاها من الجمهور، القواعد التي تؤمّن صيانة حقوقه، وعليها بصورة خاصة أن توفّق بين مدّة توظيفاتها وطبيعة مواردها».
• أعمال الصرافة والبنوك، في أصلها هي من فئة المشاريع التجارية القائمة على التنافس وتحقيق الربح (المادة 6 تجارة)، لذا أُخضِعت لوصاية مُحْكَمة فُرضِت عليها، ضبطاً للمصلحة الاقتصادية العليا فأوكِلت، تنظيماً ورقابةً، إلى المصرف المركزي. وكلّف مصرف لبنان بأشمل الصلاحيات المالية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها، وذلك بموجب (المادة 174 نقد وتسليف)، التي كرّست الملاءة والسيولة حالتين قانونيتين يقتضي الحفاظ عليهما لدى كل مصرف.
• المخاطر، تحيط بالكيان المصرفي وتلتصق به طبيعياً وتشغيلياً. والمخاطر في الصناعة المصرفية تعني الارتياب الذي يدور حول الأرباح التي يسعى إليها المصرف، وهي، أيضاً الخسائر التي قد تقع عندما تعاكس الظروف المالية والاقتصادية المناخ المصرفي. من هذا المنطلق، يستحوذ مفهوم المخاطر المصرفية على اهتمام بالغ نظراً إلى تأثيره على أصول وخصوم موازنة المؤسسة المصرفية ويتمثل في حجم الأكلاف والنفقات التي يتكبّدها المصرف، وفي مجموع الخسائر المستقبلية الممكن وقوعها.
أما الجدير تمييزه في هذا الخصوص، فهو طبيعة القواعد المالية وأسبابها الموجبة، فيقتضي الفصل بين الأحكام الموكلة إلى مصرف لبنان، كضابط اقتصادي مهمّته الأولى الحفاظ على قيمة النقد الوطني بما يؤمّن النمو والاستقرار، وبين النصوص الواقعة ضمن صلاحياته، كهيئة ناظمة للقطاع المصرفي تتولى مراقبة ومتابعة التزام الشركات المصرفية بالموجبات الملقاة على عاتقها، وليس فقط كشرط للنشوء، إنما أيضاً كشرط للاستمرارية.

أولا- احتياطيات المصرف المركزي النقدية
تُعتبر إدارة الاحتياطيات الإلزامية وسيلة قانونية لتتحكم من خلالها المصارف المركزية في حجم الكتلة النقدية وتضبط مستوى الأموال الائتمانية بغية تحقيق التوازن بين استقرار العملة الوطنية من جهة، ونشاط الدورة الاقتصادية من جهة أخرى.
تقع (المادة 76 نقد وتسليف)، الخاصة بالاحتياطي الإلزامي، تحت سقف هذه الوظيفة تحديداً، بدليل تضمينها أيضاً معدلات الفوائد. وبذلك، تُكمل المادة 76 المسار التشريعي للمادة 69، شكلاً ومضموناً، بحيث تصبح مهمة مصرف لبنان، بإبقاء تغطية احتياط الذهب والعملات الأجنبية ضمن حدّ أدنى لا يقل عن 50% من قيمة إصدارات الليرة اللبنانية أو 30% عند احتساب وإضافة قيمة ودائعه تحت الطلب، منطقية ومنسجمة مع دوره في السيطرة على معدلات السيولة النقدية من جهة، وعلى قدرة المصارف في خلق الأموال الائتمانية من جهة أخرى.
ولأن المادة 76 بطبيعتها ليست من قبيل القواعد الحمائية للمودعين، وإنما من فئة القواعد الضابطة للاستقرار النقدي والنموّ الاقتصادي، عَمد المشرع اللبناني إلى ربط أحكامها بمعدلات متغيّرة تتحرك ضمن حدّ أعلى، لا أدنى، لمعدل الاحتياطي النقدي الإلزامي بـ 25% من المتوسط الأسبوعي لمجموع الالتزامات تحت الطلب، و15% لمجموع الالتزامات لأجل معين، هادفاً بذلك إلى منع المركزي من تجاوز الغاية المرجوّة منها.
فيما تنحصر الإشكالية عند البعض بجواز استعمال 17 مليار دولار للدعم، نرى ضرورة تصويب المسار القانوني نحو الإشكالية الأخطر: فقدان المصارف للسيولة


وهنا، نستذكر... لنسأل؛
- نستذكر أزمة الثمانينيات النقدية التي انطبعت بصراعات عميقة بين حاكمية مصرف لبنان، وجمعية المصارف، على خلفية إصرار الأخيرة على خفض نسبة الاحتياط الإلزامي إلى 7%، ما استدعى تدخل صندوق النقد الدولي لرأب الصدع، بعد إصرار إدمون نعيم على نسبة توظيفات إلزامية وصلت إلى 22% في محاولة منه لسحب الكتلة النقدية من يد المصارف ولجم قدراتها في المضاربة على الليرة اللبنانية؛
- نسأل عن الأسباب الكامنة وراء قبول جمعية المصارف اليوم بالإبقاء على نسبة 15% من الاحتياط الإلزامي على الودائع الموجودة قبل نيسان 2020، بينما أعفيت تماماً منه عن الودائع ابتداء من تاريخ صدور القرار 13217؟ وعن التناغم بمواقف المصرف والجمعية بينما يفترض أنهما ذوَا مصالح متعارضة، وعلاقته بالقرار 7926 الذي احتسب بموجبه رياض سلامة ومجلسه «عند التوظيف الإلزامي، بمعنى المادة 76، كامل قيمة سندات اليوروبوندز بقيمتها الاسمية مع الفوائد المستحقة وغير المحققة (Par Value) على أساس سعر صرف وسطي للدولار الأميركي يبلغ 1507.5 ليرات»؟

ثانياً- احتياطات المصارف النظامية
انطلاقاً من مبادئ اتفاقيات بازل الهادفة إلى تقويم المالية المصرفية الحمائية على أصول وأسس موّحدة، والتزاماً بمقاربة المشرّع اللبناني للصناعة المصرفية، القائمة على مبادئ الكفاية والكفاءة، انتظمت القواعد الأهلية المالية للمصارف، على تضمين موجوداتها عدة احتياطات محسوبة على قاعدة النسبية ومضافة كل منها إلى مجموعة من القيم الثابتة، للتأكد من استمرارية حالتَي الملاءة والسيولة ضمن مستويات الحفاظ على أموال المودعين:
• الملاءة، تُحتسب على أساس نسب المخاطر إلى مجموع الأموال الخاصة، التي تمثّل في المفهومين القانوني والاقتصادي المطلوبات القابلة للتحويل عند فرضية توقف المصرف عن الدفع وتصفيته، إلى فرصة النجاة الأخيرة لأنها لن تُصفّى إلا بعد استيفاء مجموع المودعين والدائنين لحقوقهم بالكامل.
تضم الأموال الخاصة:
- احتياط المخاطر المصرفية، الذي يتم تكوينه بالعملة اللبنانية وبالعملات الأجنبية ويضم كل المخاطر الناجمة عن العمل المصرفي مقدّرة ترجيحاً بأوزان بُنية إجمالي الموجودات. ويُستعمل هذا الاحتياط عند وقوع خسائر غير مرتقبة.
- مبدأ كفاية رأس المال القائم على إلزام الشركات المصرفية بتكوينه بحدّه الأدنى عند التأسيس وإيداعه كأمانة مجمّدة لحسابه لدى الخزينة اللبنانية، وإدخاله ضمن عناصر موجودات المصرف مضافاً إليه نسبة الاحتياط القانوني اللصيقة به، والتي تتكوّن بمقتضى (المادة 132 نقد وتسليف)، باقتطاع 10% من أرباحه السنوية الصافية. تشكّل هذه الأخيرة مع رأس المال العناصر الأساسية في الأموال الخاصة وتنضم اليها احتياطات المخاطر المصرفية ونسب المؤونات التي تُنشئ ما يسمى بالأموال الخاصة المكمّلة أو المساندة.
• السيولة، هي نسبة الأموال الجاهزة إلى مجمل الودائع والالتزامات الأخرى، ويتم احتسابها بحدّ أدنى لا يجب أن يقل في مجمل الأحوال عن 20%.
- لتكوين نسبة الأموال الجاهزة الصافية بالعملة اللبنانية ألزم القرار الأساسي الرقم 7694 المصارف أن تُبقي، على الأقل وعلى الدوام ولا سيّما عند تكوين المؤونات أو توزيع الأرباح، 40% من أموالها الخاصة الأساسية الصافية المحرّرة بالعملة اللبنانية أموالاً نقدية. وتُعتبر أموالاً نقدية؛ السيولة الجاهزة في صناديق المصارف، الأموال المودعة لدى مصرف لبنان ولدى المصارف الأخرى وسندات الخزينة اللبنانية.
- أما نسبة الأموال الجاهزة الصافية بالعملات الأجنبية فقد حُددت بموجب القرار 7693 بنسبة 10% من قيمة الودائع، وسندات الدين، وشهادات الإيداع وقروض القطاع المالي. وعند تجاوز هذه الأحكام، يتوجب على المصرف المخالف، بمقتضى (المادة 77 نقد وتسليف)، إيداع احتياط أدنى خاص لدى مصرف لبنان.
ومع إحالة المادة الثانية من القرار 7963 إلى البند 4 من المادة الثانية في القرار 7926، نعود إلى ما أوردناه سابقاً، لنتأكد مرة أخرى، وبوضوح مطلق احتساب سندات اليوروبوندز من ضمن الأموال الجاهزة الصافية بالعملات الأجنبية على أن تكون قابلة لعمليات البيع وإعادة الشراء تحت نظام عقد الأمانة المعروف بالـ REPO لدى مصرف لبنان بدون أي عمولة أو فائدة.
وفيما تنحصر الإشكالية عند البعض بجواز استعمال 17 مليار دولار لاستمرار سياسة الدعم، نرى ضرورة تصويب المسار القانوني نحو الإشكالية الأخطر؛ فقدان المصارف لحالة السيولة المنصوص عنها في (المادة 174 نقد وتسليف)، عبر تحويل نسبة الأموال الجاهزة إلى سندات يوروبوندز، التي عدا إصابتها بخسائر قدّرها مصرف لبنان بـ45%، هي بطبيعتها قابلة للتداول في الأسواق المالية العالمية بعيداً عن كل رقابة ممكنة للسلطات اللبنانية.

* رئيسة قسم القانون الخاص في كلية الحقوق- الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام