ما ظهر خلال أزمة انسداد قناة السويس الأخيرة في آذار الماضي، هو أنّه رغم الهلع الإعلامي، إلاّ أن سلاسل التوريد في الاقتصاد العالمي لم تتأثّر كثيراً. فأسعار النفط لم ترتفع إلاّ بنسبة 3%، بينما أثّرت الفوضى اللوجيستية في سلاسل التوريد بشكل جزئي على التجارة بين آسيا وأوروبا، وبشكل أقلّ على الموانئ الأميركية. اليوم تحتل القناة دوراً أساسياً في تسهيل التجارة بين آسيا وأوروبا، لكنّ الدور الذي تلعبه أقل محورية بالنسبة إلى الولايات المتحدة: مركز منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد. كذلك بات بإمكان روسيا والصين تقديم طرق بديلة لجزء يسير من التجارة من شرق آسيا وجنوب شرقها، عبر طريق البحر المتجمد الشمالي وسكك الحديد الرابطة بين الصين وكازخستان وروسيا.
حسن بليبل ــ لبنان

الموقع في المنظومة العالمية
من الواضح أن موقع قناة السويس في منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد بزعامة أميركا، لم يعد محورياً، بينما مستقبلها مرهون بمحافظة القارة العجوز على وضعها شبه المركزي ضمن المنظومة. صحيح أن قناة السويس هي اليوم إحدى نقاط الخنق الأساسية في مسارات الشحن البحري العالمية، وأنها أساسية في ضمان سرعة وسلاسة عمل سلاسل التوريد بين أوروبا وجنوب وشرق آسيا، لكنها ليست أول ممرّ مائيّ يربط البحرين المتوسط والأحمر بعضهما ببعض. فأوّل من حفر قناة تربط البحرين عبر نهر النيل كان ملك مصر نخاو الثاني (في القرن السابع قبل الميلاد)، كما تشير كارول ريدماونت في بحثها الإركيولوجي «وادي طميلات وقناة الفراعنة». تحدثت ريدماونت عن مسارات مختلفة للمشاريع التي أعادت إحياء القناة بعد عملية الحفر الأولى؛ مشروع داريوش الأول لإعادة إحياء القناة (القرن الخامس قبل الميلاد)، إبّان السيطرة الإخمينية على مصر، كان عبارة عن نسخة عن المسار نفسه (الربط بين البحرين المتوسط والأحمر) مع تعديل يكمن في حرف مسارها باتجاه الروافد الشرقية لنهر النيل. وهنالك أدلّة تظهر أن داريوش أراد أن يربط البحرين مباشرة من دون المرور عبر النيل، لكنّ مهندسيه أثنوه عن الفكرة. وتظهر الأبحاث الأثرية أن مشروع داريوش كان قادراً على احتمال مرور السفن الثلاثية المجاذيف (وهي أكبر سفن ذلك الزمن) بالاتجاهين في وقت واحد. أما مشروع بطليموس الثاني (القرن الثالث قبل الميلاد)، فكان أوّل مشروع يستكمل حفر القناة إلى المتوسط مباشرة من دون أن ينجز، فعادت الملاحة إلى الطريق التقليدية للقناة عبر النيل بعد إعادة تأهيلها. كذلك، أُعيد إحياء القناة مجدداً في عهد الإمبراطور الروماني تراجان (القرن الثاني الميلادي). ومع دخول المسلمين إلى مصر في القرن السابع الميلادي وجدوا القناة مطمورة، فأُعيد حفرها أيضاً، إلى أن أغلقها بشكل نهائي أبو جعفر المنصور العباسي في القرن الثامن الميلادي لمحاصرة ثورة محمد النفس الزكية في الحجاز.
كان حفر القناة عملاً هندسياً جبّاراً لم يتفوّق عليه إلّا مجهود صيانتها، ولا سيما أنها تمرّ في مناطق صحراوية تتعرّض للعواصف الرملية بشكل موسميّ. قد يكون ذلك، السبب الرئيسي وراء إهمالها وإعادة إحيائها مرات عدّة على مدى التاريخ. فأي مشروع هندسي يترتب عليه أكلاف كبيرة دائمة يجب أن يثبت جدواه الاقتصادية، وإلا لا داعيَ لاستمرار الاستثمار فيه. تاريخياً، منذ حفر القناة الأولى، كانت مصر مركز منظومتها العالمية أو تابعة للمركز وعلى تماس جغرافي مباشر به - وهي منظومة عالم حوض البحر المتوسط وغرب آسيا، بحسب تقسيم سمير أمين للمنظومات العالمية القديمة (كتاب «تاريخ عالمي: نظرة من الجنوب»). هذا يعني أنّ المرور من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط بشكل سريع لم يكن يشكل ضرورة للمنظومة التي تسيطر على مصر، سواء كان مركزها مصر أو فارس أو روما أو بغداد. لا بل تصبح القناة رفاهية يمكن تحمّل كلفة صيانتها المرتفعة في زمن الرخاء الاقتصادي، لكنّها تصبح عبئاً إذا تردّت الأوضاع. فهذه المنظومة كانت متّصلة جغرافياً ولا تحتاج إلى ممرّ بحري بين البحرين لإتمام التجارة ضمن حدودها، بينما تجارتها مع الشرق تمرّ عبر عدّة طرقات، سواء عبر وسط آسيا أو عبر المحيط الهندي وبحر العرب.

أسرع الطرق إلى الهند
التغيّر التدريجي لشكل المنظومات العالمية القديم، ابتداءً منذ عام 1500 ميلادي، زاد أهمية سرعة الولوج من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط. نشوء منظومة عالمية مركزها أوروبا الغربية التي كانت منطقة هامشية تابعة لمنظومة حوض البحر المتوسط وغرب آسيا، أضفى أهمية على وجود طريق تجاري بحريّ مباشر وسريع بين شرق آسيا وجنوبها وبين غرب أوروبا. ومع تدفّق الفضة الأميركية في ذلك الحين، توسّعت قواعد الاستعمار الأوروبي في الأميركيتين وفي غرب أفريقيا وجنوب شرق أسيا، وأصبحت طرقات الملاحة البحريّة التي تربط المستعمرات بالمركز الأوروبي في غاية الأهميّة. يضاف إلى ذلك، أن التنافس بين القوى الأوروبية على زعامة هذه المنظومة الناشئة كرّس أهمية قصوى للبحث عن الطرق الأسرع.
وازدادت أهمية شقّ طريق بحري مباشر بين البحرين الأحمر والمتوسط أثناء السيطرة البريطانية المتزايدة على طرق الملاحة إلى آسيا منذ منتصف القرن الثامن عشر. برزت بريطانيا كمركز للمنظومة العالمية الصاعدة مع سيطرتها على الهند. في كتابه «مشروع الإمبراطورية» يشير جون داروين، إلى أن بريطانيا هيمنت على طرق الملاحة التجارية العالمية عبر شبكة من القواعد البحرية في مناطق استراتيجية منها: مالطا، عدن، سيلان، سنغافورة، هونغ كونغ، فوكلاند، ونوفاسكوتشيا؛ غير أن أهم نقاط ارتكاز هذه الشبكة كانت الهند. السيطرة المطلقة على الهند أعطت بريطانيا قاعدة عسكرية أمامية بسطت من خلالها نفوذها في آسيا. فبالاضافة إلى بحريتها المتفوّقة، استغلت بريطانيا الهند لتجنيد جيش دائم في آسيا قوامه 70 ألف مجنّد هندي. واستغلّتها أيضاً كقاعدة متقدّمة للخدمات اللوجيستية لبحريتها في آسيا وشرق أفريقيا وأستراليا. وبحسب ويليام جاكسون في كتابه «عظمة الأمس»، كانت الهند قادرة على تغطية أكلاف كل هذه المزايا من اقتصادها، ما رفع تأمين كلفة الحماية عن كاهل باقي المستعمرات البريطانية في آسيا وشرق أفريقيا وأستراليا. هكذا صار الاستثمار في هذه المستعمرات أكثر جدوى وربحية. لا بل أصبحت الهند، المستعمرة البريطانية، إمبراطورية فرعية يمتدّ نفوذها من عدن إلى بورما بالإضافة إلى أفغانستان والخليج الفارسي، كما يقول داروين. كل هذا جعل من بريطانيا عقدة التجارة العالمية من وإلى الأسواق الأوروبية، أي مركز المنظومة العالمية الأوروبية ذات التطور الرأسمالي المطّرد.
قناة السويس أُغلقت 8 سنوات بعد احتلال سيناء في حرب 1967 إلّا أن منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد لم تتأثّر، بل كان أكبر المتضررين دول جنوب آسيا التي كانت لا تزال مرتبطة بالمركز الأوروبي


وهذه الأهمية المطّردة للهند جعلت منها هدفاً لباقي الدول الأوروبية الطامحة لتسيّد المنظومة العالمية الصاعدة. يسرد جاكسون تفاصيل الصراع البريطاني الروسي على الدردنيل والبوسفور وعلى أفغانستان، ضمن الصراع على الوصول إلى الهند. كذلك أدّى وصول النفوذ الروسي إلى كابول، إلى نشوب الحرب الأفغانية البريطانية الثانية. السيطرة الروسية على الدردنيل كانت تعني قدرة الولوج إلى البحر المتوسط ومنه إلى مصر- تفتيت الإمبراطورية العثمانية المتهالكة بين يدَي روسيا القيصرية. بهذا المعنى، إن الطريق إلى الهند عبر البحر الأحمر والخليج الفارسي ستكون مفتوحة. ومن باب درء هذا التهديد تدخّلت بريطانيا في حرب القرم (1853-1856)، علماً بأن التهديد والحرب سبقا شقّ القناة بعقد ونصف عقد، وهذا ما يبيّن الحساسية التي كان ينظر فيها البريطانيون إلى الطريق عبر مصر إلى البحر الأحمر.
هذه الحساسية كانت وليدة طموح نابليون، الذي خطّط لشقّ القناة بعد احتلاله لمصر. علماً بأن محمد علي باشا تنبّه لأهمية ربط البحرين الأحمر والمتوسط بعضهما ببعض، بالنسبة إلى المنظومة العالمية الصاعدة. وبحسب داروين فإن محمد علي كان يدرس مشروع شقّ القناة، ولكنّه تهيّب منه خوفاً من خسارة مصر لاستقلاليتها إذا شُقّت القناة، نظراً إلى الأهمية الاستراتيجية التي ستكتسبها ضمن المنظومة العالمية الأوروبية. لذا، استعاض عن القناة بمشروع لربط خليج السويس بالإسكندرية عبر خط سكة حديد يمرّ في القاهرة. حفيده عباس الأول أكمل خط السكك بتمويل ومساعدة بريطانية. وعندما استطاع الفرنسيون، عبر دي ليسيبس، إقناع سعيد باشا بشقّ القناة، تهيّب البريطانيون خوفاً من تحقّق أسوأ الاحتمالات. لكن سرعان ما أثبتت القناة أهميّتها لبريطانيا كذلك، بعد تشغيلها في عام 1869. أهمية القناة بحسب جاكسون، أنها أسهمت في تسريع التواصل والتجارة البريطانيين مع جنوب آسيا وشرقها، وفي كسر عزلة أستراليا عن الإمبراطورية. وفي غضون بضع سنوات أصبحت القناة ضرورة بريطانية، للأمن الإمبراطوري أو لضمان استمرار السيطرة البريطانية على التجارة والخدمات التجارية في الشرق. يدلّ على تلك الأهمية التي احتلتها القناة، بمجرد افتتاحها، في المنظومة التي صنعت موقع بريطانيا ضمن منظومتها العالمية، مسارعة الحكومة البريطانية لشراء حصص مصر، المفلسة آنذاك، في شركة قناة السويس، بالإضافة إلى احتلالها للبلد بعد ثورة عرابي. هكذا أصبحت قناة السويس الطريق السريع إلى الشرق من مركز منظومة العالم الأوروبية، التي تحوّلت إلى منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد مع سقوط الصين في نهايات القرن التاسع عشر.

غياب الشمس عن الإمبراطورية والقناة
استمرت القناة باحتلال هذا الموقع حتى نهاية الحرب العالمية الثانية مع انتقال ريادة منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد من الإمبراطورية البريطانية المتهالكة إلى الولايات المتحدة الأميركية. يرى الكثير من المؤرّخين أن قرار تأميم القناة كان تعبيراً عن نهاية الإمبراطورية البريطانية. يمكن القول إنه بالتأكيد تعبير عن خسارتها لموقعها في منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد. والحقيقة هي أن «الطريق السريع إلى الشرق» بقي مغلقاً لمدة ثماني سنوات على إثر احتلال سيناء في حرب 1967، إلا أن منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد لم تتأثّر، بل كان أكبر المتضررين في حينه، دول جنوب آسيا التي كانت لا تزال مرتبطة بالمركز الأوروبي. التأثير الكلي على التجارة بسبب الإغلاق تطرّق إليه جايمس فراير، في مقالة بعنوان «إغلاق قناة السويس 1967-1975». اعتقد الرجل، أن التأثير كان كبيراً على البلدان الواقعة جنوب آسيا وشرق أفريقيا. فمثلاً كانت باكستان والهند الأكثر تأثّراً بسبب زيادة المسافات اللازمة لتجارتهما البحرية بحدود 30%، وهذا أدى إلى صدمة خفّضت مستويات التجارة بحدود 20% في السنوات الأولى للإغلاق.
وأظهرت ردة الفعل العالمية على إغلاق القناة في عام 1967، أن منظومة الاقتصاد العالمي الموحّد قادرة على التأقلم مع انقطاع هذا الطريق الملاحي، فسرعة التعامل مع تبعاته على الإمداد النفطي من دول الخليج إلى أوروبا، ومن الاتحاد السوفياتي إلى شرق آسيا، أظهرت أنّ موقع القناة مفيد للمنظومة ولكنه ليس حيوياً بما يعرقل مسار الاقتصاد العالمي. بينما ظهر أيضاً أن الأهمية العسكرية للقناة بالنسبة إلى الولايات المتحدة ليست كبيرة جداً في ظل هيمنتها المطلقة على المحيطات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام