في عام 1998 نشرت وزارة الشؤون الاجتماعية «خارطة أحوال المعيشة في لبنان»، وهي عبارة عن دراسة تحليلية لنتائج مسح المعطيات الإحصائية للسكان والمساكن التي نُفذت في عام 1996. بعدها نفّذت إدارة الإحصاء المركزي مسوحات خلال أعوام 2004 و 2007، و2009. وبعد 10 سنوات على المسح الأخير، نفّذت إدارة الإحصاء مسحاً للقوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر بين عامَي 2018 و 2019، وهو أول مسح بعد عام 1996، ينتج تقديرات على المستوى الوطني ومستوى المحافظات والأقضية. المقارنة بين نتائج كل المعطيات الواردة في المسوحات، كشفت عن تطوّرات خطيرة في بنية التركيب السكاني: أدّت الأزمات الاقتصادية والمعيشية والصراعات السياسية إلى تزايد موجات هجرة الشباب وانخفاض معدل الخصوبة العامة للمرأة، وانعكس ذلك في تقلّص حجم الأسرة.
تراجع حجم الأسرة
تغيّر كثيراً حجم الأسرة بين عامَي 1996 و2018. كان عدد أفرادها يبلغ 6 أفراد في عكار والمنية الضنية والهرمل، بينما بلغ متوسط حجم الأسرة لعام 2018، ولا سيما في ضوء زيادة عدد السكان المقيمين (مع غير اللبنانيين)، نحو 3.8 أفراد مع تفاوت شاسع بين الأقضية (ينخفض إلى نحو 3.3 في قضاء جزين، و3.4 في بيروت وأقضية كسروان والبترون وراشيا، و3.5 في المتن وبشري).

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وقبل نحو عشر سنوات من المسح الأخير، أي في عام 2009، نُفّذ المسح العنقودي المتعدّد المؤشّرات حول الخصائص السكانية. أظهر هذا المسح تراجعاً في معدلات الخصوبة وانخفاضاً في معدل عدد الأولاد للمرأة الواحدة إلى 1.9. وبشكل عام، بلغ متوسط عدد الأولاد لكل أسرة، ولدين اثنين تقريباً. يومها كانت تركيبة الأسرة تتضمن في عام 2009 ترؤس النساء لنحو 15% من الأسر، من بينهن 45% يبلغن 65 عاماً وما فوق وهنّ أرامل وأميّات وأكثر من نصف هذه الأسر ليس فيها أعمار شابة، أو رجال يعيشون مع الأسرة. وتبيّن أن 6% فقط من إجمالي الأسر التي لديها أطفال دون 15 عاماً، فيها خمسة أطفال أو أكثر، و56% من السكان عازبون إلى جانب قلّة تبلغ 5% من الأرامل والمطلّقين والمنفصلين وارتفاع في نسبة المسنّين الذين يبلغون 65 عاماً وما فوق مقارنة مع البلدان المجاورة.
طرأت تحوّلات واضحة على تركيبة الأسر بعد عام 2007. ففي هذه السنة، كانت 7.3% من إجمالي الأسر مؤلّفة من فرد واحد وغالبيتها مسنّون ونساء وأرامل ومطلقات. لكن في عام 2018 ازدادت نسبة الأسر المؤلفة من فرد واحد إلى 10.2%، و18% للأسر المكوّنة من 2 فقط (نسبتها مرتفعة في بيروت وجبل لبنان ما عدا الضاحية الجنوبية لبيروت التي سجّلت نسبة مرتفعة من الأسر المشكّلة من خمسة أفراد وأكثر، إلى جانب عكار والهرمل). أما الأسر المكوّنة من 5 أفراد وأكثر فهي قد باتت تمثّل بين السكان المقيمين نحو ثلث مجموع الأسر المعيشية في لبنان.
وبموازاة ذلك، أظهرت الإحصاءات انخفاض عدد الأولاد في الأسرة في عام 2009 بسبب ارتفاع متوسط عمر المرأة عند الزواج الأول إلى 27.7 سنة. ثم تبيّن أنه في عام 2018 انخفضت نسبة الزواج المبكر إلى 3.8 % للفئة العمرية 20-24 سنة. وتزامن ذلك مع ارتفاع في نسبة الذكور المقيمين الذين يتزوجون في عمر دون 30 سنة، إذ لا تتعدّى نسبتهم في عام 2018 نحو 6.5 % فقط، كما أن نسبة المتزوجين دون 35 سنة تبلغ 15.4% فقط.
أما على صعيد المحافظات، فقد ارتفعت نسبة غير المتزوجين من الجنسين إلى أكثر من 36% في بيروت وجبل لبنان، و40% في عكار.
أدّى ذلك إلى انخفاض عدد الأولاد في الأسرة، بالإضافة إلى تراجع معدل خصوبة المرأة إلى ما دون الخط الأحمر أو مستوى الإحلال المقدّر بنحو 2.2 ولد للمرأة الواحدة.
لكنّ الصورة تتّضح أكثر في المسار الزمني لتراجع معدل خصوبة المراهقات (ولادات لكل 1000 امرأة تراوح أعمارهن بين 15 و 19 عاماً). فكما يتبيّن من بيانات شعبة السكان في الأمم المتحدة، كان يبلغ عدد الولادات بين المراهقات 85 ولداً في عام 1960، ثم تراجع إلى 49 ولداً في عام 1990 (في نهاية الحرب الأهلية)، واستمر الانخفاض إلى 25 ولداً في عام 2000، ثم 14 ولداً فقط في عام 2018.
من المؤكد أن هذا التراجع في معدل الخصوبة سوف يتواصل نتيجة تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

الأُسرة النواتية: تفاقم الشيخوخة
بحسب نتائج المسح في عام 2018 طرأت أيضاً تغيّرات على الأسرة النواتية (المكوّنة من الأب والأم والأولاد). فقد انخفض حجمها نسبة إلى السكان المقيمين إلى 3.4 ومتوسط عدد الأولاد فيها إلى 1.4 ولد. لكن ما يسترعي الانتباه هو التفاوت الشاسع بين المناطق؛ ففي بيروت انخفض حجم الأسرة النواتية إلى 2.8، وفي جبل لبنان إلى 3.2، وهناك تراجع بارز في أقضية جزين وكسروان والمتن وبشري وراشيا مقابل ارتفاع في حجم الأسرة النواتية إلى نحو 4.5 في عكار و3.9 في بعلبك الهرمل.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

قراءة توزيع السكان بحسب الفئات العمرية تكشف المزيد من الشيخوخة في المجتمع اللبناني. ففي عام 2018، لوحظ أن فئة صغار السن (دون 15 سنة) التي كانت تمثل كمعدل عام نحو 29.3% في عام 1996، انخفضت إلى 21% مقابل ارتفاع في نسبة كبار السن من 6.8% إلى 13.1 % كمعدل وسطي عام مع وجود تباينات مناطقية كبيرة (كانت نسبة صغار السن في عكار 41.1% عام 1996 مقابل 5.3% لكبار السن، لكنها انخفضت إلى 29,1% عام 2018 مقابل 7.2% لفئة كبار السن).
وتشير تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة إلى أن نسبة صغار السن انخفضت من 38% عام 1966 إلى32.7 % عام 1990، و30.1 % عام 2000، و25.6 % في عام 2019 (هذه التقديرات تشمل جميع السكان المقيمين في لبنان).
هذه المعطيات والأرقام تكشف بوضوح عن تراجع حجم الأسرة، وتقلّص عدد صغار السن، أي إن المجتمع اللبناني يتحوّل نحو الشيخوخة. وهذا الأمر يتفاقم مع الأزمة الحالية قياساً على الأثر الناتج من الأزمة الحالية. في المستقبل ستكون التداعيات كارثية على الاقتصاد والمجتمع. هذا التحوّل يهدد مستقبل لبنان. فهل سيكون لبنان بلد الطفل الواحد في الأسرة عام 2030؟

* أستاذ جامعي وخبير في شؤون السكان والهجرة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام