للوهلة الأولى، يمكن إساءة الظنّ بأن آلية التسعير هذه هي عبارة عن عرض وطلب خالٍ من التدخلات على طريقة آدم سميث بأن هناك «يداً خفية» تتحكّم بالأسواق، لكنه ليس كذلك أبداً. فالأمر الأساسي يتعلق أولاً بتمويل عمليات بيع الدولار، وهو ما يثير سؤالاً أساسياً: هل مصرف لبنان سيعرض دولاراته على هذه المنصّة، أم أن المصارف هي من سيعرض دولاراتها التي جمعتها سابقاً من أجل تأمين السيولة الخارجية بنسبة 3% من ودائعها بالدولار؟ ففي الواقع، إن ما جمعته المصارف أسهم بشكل واضح في زيادة سعر الدولار في السوق الحرّة، بينما الدولارات التي يملكها مصرف لبنان هي المخزون الوحيد الباقي لدى لبنان وهو غير متجدّد وضئيل. وبالتالي فإن تمويل المنصّة بهذه الدولارات مثير للسخرية، سواء أكانت الدولارات التي جمعتها المصارف أم تلك التي يملكها مصرف لبنان. إنه تبذير للدولارات بلا هدف.
إن استبدال المنصّات الإلكترونية «غير الشرعية»، مقابل منصّة مصرف لبنان، من أجل تسعير الدولار، يعكس ضعف القدرة على إنشاء مرجعية للتسعير. وحتى مع اعتبار أن هذه المرجعية موجودة بشكل شرعي يقيد فيها كل أسماء الجهات التي ترغب في بيع الدولار أو شرائه، فإنها لا تُعتبر أداة للتسعير وللقياس. فالعملة بوصفها أداة لقياس الاقتصاد ولقدرته على التبادل مع الخارج، لا يمكن السيطرة عليها عبر تسجيل أسماء أصحاب العرض والطلب. صحيح أن الانتقال من سوق حرّة بالكامل وخارج نطاق سيطرة المصرف المركزي إلى سوق مراقبة، يمكن أن يساعد ظرفياً وآنياً على التسعير، إلا أنه ليس علاجاً للمشاكل الأساسية البنيوية في عملية التسعير، بل يساعد على تحسين أعراض المرض الذي أصاب الليرة. وبهذا المعنى، فإن التسعير قد يتحسّن في الأسابيع المقبلة، لكنه ليست هناك أسباب تدعو إلى الثقة بأن الاقتصاد سيتحسّن وستتحسن معه الليرة مقابل الدولار.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره
قد يكون من بين أهداف مصرف لبنان، أنه يسعى إلى امتصاص بعض من السيولة بالليرة التي ضخّها في الأسواق خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية. فمن خلال التحكّم بعملية التمويل عبر المصارف قد يمكنه امتصاص بعض من هذه السيولة بعيداً من الأدوات التقليدية لعملية الامتصاص التي يمكن القيام بها عبر رفع أسعار الفائدة. طبعاً، إجراء كهذا، أي رفع أسعار الفائدة غير ممكن حالياً، لكن المنصّة ليست بديلاً مثالياً، بل هي بديل ظرفي وهشّ وسط محدودية القدرة على الامتصاص، أو خلق توازن بين عمليات الامتصاص وضخّ السيولة المتواصلة من أجل إطفاء خسائر القطاع المصرفي. بهذا المعنى، لا يمكن تصديق بأن مصرف لبنان سيقوم بالسيطرة على السيولة فيما خطّته تكمن في إطفاء الخسائر عبر ضخّ السيولة. يمكن تفسير هذا الأمر، إذا كان يريد أن يخلق فسحة زمنية لتهدئة السوق قبل أن يعاود متابعة خطّته. لذا، فإن امتصاص السيولة يتعارض مع خطّته لإطفاء الخسائر.
إذا كانت منصّة مصرف لبنان مخصّصة لعمليات التبادل التجاري والصناعي حصراً، فهذا يعني أن باقي أنواع العرض والطلب السوقي، سيبقى في السوق. بهذا المعنى، فإن ما يُسمى «سوقاً سوداء» ستبقى قائمة ضمن حدود واسعة في ظل أوضاع شديدة الحساسية. ففي الأسابيع الثلاثة الماضية، لم يرتفع سعر الدولار لأسباب موضوعية، بل لأن هناك انهياراً «حرّاً»، ما انعكس على توقعات الناس بأن السلطة لا تملك أي أداة لاستعادة السيطرة عليه، أي أن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، كانت تنعكس سلباً في السوق. والمنصّة، في هذا الإطار، ليست أداة فعّالة في السيطرة على السعر أيضاً، أي أنها لا تعيد الثقة في التعاملات الفردية والتجارية لأن المشكلة تبقى قائمة: الدولة بكل أركان السلطة، لم تقم بأيّ فعل بعد من أجل كبح انهيار الأزمة بالحدّ الأدنى، وهي بالتأكيد لم تقم بأي خطوة في اتجاه الإنقاذ.
عملياً، لا يمكن التأكّد إذا كان مصرف لبنان قادراً على شراء المزيد من الوقت من خلال خطّته لتهدئة السوق عبر منصّة التسعير، بينما خطّته الأصلية تتعارض معها.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا
تابع «رأس المال» على إنستاغرام