شهدت منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني في تطوّرها حتى بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، هيمنة قطاعات الخدمات بدعم من الطوائف الراعية وارتباطها برأس المال الأجنبي (الفرنسي بداية). أمّا في الخمسينيات، فقد تطوّر القطاع المالي في ظلّ رعاية رأس المال الأميركي والخليجي، ليهيمن هو أيضاً على قطاع الخدمات برعاية الطوائف وبالتشارك معها. لكن في الحقيقة، إن تركيب منظومة إدارة القطاع المالي لم يتّبع مساراً مختلفاً إذ لعب أرباب المصارف ومن وراءهم حماياتهم الطائفية، دوراً أساسياً في صياغة دور منظومة الإدارة المالية وعلاقتها بالقطاع. لولا هذه العلاقة، لما شهدنا هذه الإدارة الكارثية التي أدّت إلى الأزمة الحالية. أكثر تجلّيات هذا المسار وضوحاً هو علاقة جمعية مصارف لبنان بالدولة اللبنانية ومخاضات نشوء وتطوّر مصرف لبنان.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

جمعية المصارف
كان بيار إدّه (شقيق ريمون إدّه) الدافع الرئيسي خلف تأسيس جمعية المصارف، بحسب ما أشار هشام صفي الدين، في كتابه «دولة المصارف: تاريخ لبنان المالي». كان الرجل، ومعه مجموعة كبيرة من المصرفيين، على قناعة بضرورة توحيد موقف المصارف وتوجيه ضغوطها بمعزل عن اختلافها حول موقع وهيمنة رأس المال الفرنسي على القطاع المصرفي. أصلاً، كان موقع فرنسا في أسواق رأس المال العالمية متقهقراً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أمّا هيمنة رأس المال الفرنسي على القطاع المصرفي، بما يمثّله من تجّار وطوائف حامية لهم، كانت مضرّة ومانعة لتطوّر تدفّق رأس المال الأميركي والخليجي المستجدّ. الأول، كان المهيمن على الأسواق العالمية بعد بريتون وودز، والثاني، كان يمثّل فرصة كبيرة لضعف البنية التحتية المالية في بلدان الخليج. في هذا السياق، كانت جهود بيار إدّه مكمّلة لجهود شقيقه ريمون الذي لعب دور عرّاب إقرار قانون السريّة المصرفية في مجلس النواب. بمعنى آخر، كانا من مهندسي العلاقة بين القطاع المصرفي مع منظومة الاقتصاد السياسي. وبالفعل تأسّست الجمعية في عام 1959، وسرعان ما انضوى فيها معظم المصارف اللبنانية والأجنبية العاملة في لبنان، بما فيها تلك التي كانت تدين بالولاء لبنك سوريا ولبنان (BSL) الممثّل لمصالح رأس المال الفرنسي في لبنان.
كان فريق المصارف المتحلّقة حول BSL، يخاف من دعوات تنظيم القطاع لما يمكن أن يخلقه التنظيم من تهديدات تحدّ من حرية عمل المصارف ونطاق حركة رأس المال. في المقابل، كانت المصارف ذات رأس المال الأميركي والخليجي تدعو بوضوح إلى ضرورة تنظيم القطاع منذ منتصف الخمسينيات لسببين؛ الأول مرتبط بسعيها للحدّ من هيمنة رأس المال الفرنسي، بينما الثاني يتعلق بالتغيير الجذري الذي قد ينشأ عن احتواء موجة المطالبة بإصلاح القطاع وتنظيمه. سرعان ما برهن الفريق الداعي إلى «التنظيم»، عن صوابية موقفه بعد تأسيس جمعية مصارف لبنان - علماً بأن بيار إدّه كان معارضاً للتنظيم في البدء، لكنّه خاض لاحقاً معركة التنظيم نيابة عن الجمعية.
هكذا أصبحت هيمنة جمعية مصارف لبنان على القطاع المصرفي تلقائية. استمدت هذه القوّة من حجم ومصدر رأس المال العائد لأعضائها المؤسّسين. يُضاف عامل قوّة آخر، يكمن في أن الطوائف التي تحتضن ملكيات المصارف كانت ممثّلة في الجمعية أيضاً. وهي برهنت عن صوابية الرأي القائل بضرورة تنظيم القطاع من خلال انخراطها في جهود تنظيمه مع الدولة اللبنانية. وما نتج من هذه الجهود كان تتويجاً لموقع المصارف في علاقتها مع الدولة.

مصرف المصارف «محدود»
يشرح عبد الأمير ، في كتابه «بنك لبنان» موقف جمعية مصارف لبنان وتأثيرها على صياغة قانون النقد والتسليف.
كان موقف جمعية مصارف لبنان ذا أثر واضح على مسار مفاوضات صياغة قانون النقد والتسليف التي بدأت في منتصف عهد الرئيس فؤاد شهاب. هذا الأمر رسمه بصورة دقيقة عبد الأمير بدر الدين، في كتابه «بنك لبنان». في حينه، برزت أربع فِرَق أساسية، هي: الساسة، البيروقراطيون الشهابيون، جمعية مصارف لبنان، وتكنوقراطيو BSL. تمحورت الخلافات بين الأربعة، حول صلاحيات مصرف لبنان، بالإضافة إلى مستوى ومدى إشراف الحكومة عليه. كذلك، نشب خلاف حول دور القطاع غير الحكومي (أي المصارف والخبراء والأكاديميون) في المشاركة في صياغة سياسات مصرف لبنان. في الحقيقة، إن اقتراحات تنظيم القطاع، التي تدفع باتّجاه إعطاء المصرف المركزي دور المحرّك والموجّه للاقتصاد، لم تلقَ آذاناً صاغية أثناء عملية دراسة مشروع قانون النقد والتسليف. لذا، فإن النسخة النهائية من القانون كانت أقرب إلى تسوية بين الأطراف الأربعة المتّفقة على إعطاء المصرف المركزي استقلالاً إدارياً مع الحدّ من صلاحياته الإنفاقية للإبقاء على الطابع المحافظ (المعادي للكينزية) للإنفاق في الاقتصاد اللبناني. فؤاد شهاب أحاط نفسه بعدد من الكوادر الإدارية التي اعتمد عليها بشارة الخوري (ومنهم فيليب تقلا الذي أصبح أول حاكم لمصرف لبنان)، أي الذين لا يرون أيّ ضرورة لتغيير شكل منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية، بينما شهاب نفسه لم يكن يرى العطب في المنظومة بقدر ما كان يراه في كيفية توزيعها للدخل على المناطق. أمّا تكنوقراطيو BSL، ممثلين بجوزيف أوغلوريان، فكانوا يريدون منح مصرف لبنان استقلالية تامة عن الحكومة وقراراتها. بينما جمعية مصارف لبنان كانت تريد أن تضمن محدودية تدخّل المصرف المركزي في الأسواق المالية.
أثبت أداء مصرف لبنان بعد سنوات على إنشائه أن سياساته وأدواته المالية المحدودة أسهمت في ترسيخ مسار لأداء القطاع المصرفي يرمي إلى تمويل قطاعات التجارة والخدمات والابتعاد عن تمويل القطاعات المنتِجة حفاظاً على مصالح التجّار تحت إشراف الطوائف


في المحصلة النهائية، أصبحت السلطة في مصرف لبنان تتوزّع على أربعة مستويات مترابطة. أولها منصب حاكم مصرف لبنان الذي تعيّنه الحكومة ويتمتّع بحصانة خلال فترة ولايته القابلة للتجديد. وثانيها، المجلس المركزي لمصرف لبنان الذي يتألف من الحاكم ونوّابه الذين تعيّنهم الحكومة، بالإضافة إلى المديرين العامين في وزارتي المالية والاقتصاد. وأنيط بالمجلس رسم السياسات المالية والنقدية وسياسات إصدار العملة وطباعتها. ثالثها، موقع مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان الذي يمثّل السلطة الرقابية للحكومة في المصرف، وقد أُعطي صلاحيات توقيف العمل بقرارات المجلس المركزي بشكل مؤقّت. أمّا رابعها، فهو اللجنة الاستشارية التي تتألف من ستة أعضاء، أربعة منهم خبراء في قطاعات المصارف والتجارة والصناعة والزراعة، ويعيّنهم وزير المال بناء على ترشيحات الجمعيّات الممثلة لهذه القطاعات.
في الواقع، كانت هذه التركيبة تشريعاً واضحاً لترابط القطاع المالي مع الطوائف ضمن منظومة الاقتصاد السياسي. فمن جهة الدولة، تقوم الحكومة بتعيين حاكم مصرف لبنان (الماروني)، ونوابه (الموزعين على مجموعة من الطوائف)، ومفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان (السني «سابقاً») بشكل مباشر؛ وبشكل غير مباشر تعيّن الحكومة عضوين آخرين في المجلس المركزي، وهما المديران العامان للمالية والاقتصاد. علماً بأنّ تعيينات كهذه صادرة عن السلطة السياسية، تعني ضرورة تمثيل هؤلاء الأعضاء لطوائفهم ولمصالحها في المنظومة المالية في البلد. وفي الجهة المقابلة، تتدخّل القطاعات الخاصة، بالأخص المصارف والتجار، في اختيار أعضاء اللجنة الاستشارية، أيضاً بما يتناسب مع هوى هذه الجمعيات، التي نسجت مصالحها برعاية وبمشاركة الطوائف.
أثبت أداء مصرف لبنان، في السنوات القليلة التالية على إنشائه، صحّة هذه النظرية. سياساته وأدواته المالية كانت محافظة جدّاً وغير توسّعية، فضلاً عن أنّها كانت محدودة ببيع وشراء العملات والذهب وتحديد مستوى الفوائد والتحكّم باحتياط الودائع المفروض على المصارف. هذا ما أسهم في ترسيخ أداء القطاع المصرفي الذي كان يموّل قطاعات التجارة والخدمات ويبتعد عن تمويل القطاعات المنتجة حفاظاً على مصالح التجّار تحت إشراف الطوائف. وما ساهم في ترسيخ هذا المشهد في مصرف لبنان كان انتقال كلّ موظفي BSL إلى المصرف المركزي، وخصوصاً جوزيف أوغلوريان الذي احتلّ منصب نائب حاكم مصرف لبنان مستحوذاً على أُذن فيليب تقلا، غير الضليع في الشؤون المصرفية، بحسب صفي الدين. كذلك، يمكن الاستنتاج بأنّ ما حقّقه قانون النقد والتسليف، في عهد فؤاد شهاب، كان تسوية بين المحافظة على حرية حركة رؤوس الأموال وممارسة السلطة على القطاع المصرفي. سلطة ضعيفة أضعف من سلطة BSL على القطاع، وكانت بالتعاون مع المصارف وليس عبر الإكراه.

خارج الطائفة
لعلّ أبرز الأمثلة على نسيج العلاقة بين القطاع المالي ومصرف لبنان وطبيعته الطائفية كان أزمة بنك إنترا وما نجم عنها. فبعدما أغلق بنك إنترا أبوابه أمام المودعين معلناً توقفه عن السداد، شهد القطاع المصرفي اللبناني برمّته خضّة رهيبة. فقد اندفع المودعون لسحب أموالهم من معظم المصارف التي تأثرت بمستويات متفاوتة. هدّدت جمعية مصارف لبنان بالإضراب إن لم يتّخذ مصرف لبنان خطوات تضمن نجاة القطاع. فقرّر هذا الأخير، أن يعطي المصارف اللبنانية حزمة مساعدات لتلبية الزبائن منعاً لتوقفها عن الدفع هي الأخرى. جاء هذا القرار بعد اجتماع للحكومة حضره على فترات متقطّعة أعضاء من مجلس إدارة إنترا، وأعضاء من جمعية مصارف لبنان، كما يروي حنّا عصفور في كتابه «بنك إنترا: قضيّة وعبر». لكنّ مصرف لبنان، وبقرار من الحكومة، استثنى بنك إنترا من هذه الحزمة، ما يعني حكماً بتثبيت تعسّره وإفلاسه. قبل إغلاق بنك انترا بشهرين، رفض مصرف لبنان، ومن خلفه الرئيس شارل حلو، طمأنة الأسواق المالية اللبنانية إلى وضع البنك الذي كان يشهد إقبالاً متزايداً على السحوبات. وفي الوقت نفسه، تعاطت جمعية مصارف لبنان ببرودة مع أزمة أحد أعضائها وأكبر لاعب في السوق المالية اللبنانية. لم تتحرّك إلا حين وصل الموسى إلى ذقنها. بمعزل عن أسباب أزمة إنترا، فإن سلوك السلطات اللبنانية، بشقّيها المالي والسياسي، وبرودة جمعية مصارف لبنان، تشكّل دلالات على أنّ مشكلة يوسف بيدس (مؤسّس بنك إنترا) أنّه كان يشتري ولاءات السياسيين عبر المال وتوزيع المناصب في مجالس إدارات البنك والمؤسّسات التابعة له، ولكنّه لم يتمكّن من الانتماء إلى إحدى الطوائف اللبنانية (رغم كونه مسيحياً). فقد سمحت له علاقاته السياسية اللبنانية والمالية الدولية بتوسيع أعمال مصرفه بشكل مطّرد، لكنّ هذه العلاقات لم تحمِه من تبعات الأزمة التي تعرّض لها. لو أنّ يوسف بيدس تمكّن من الاحتماء تحت عباءة طائفة ما، لكانت الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان اعتبرا أنه أكبر من أن يسقط (كما كان فعلاً وبرهن حجم الأزمة في ما بعد) ومنعاه من الإفلاس.
سمحت الإدارة المالية والنقدية، الناتجة من منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، بسقوط أكبر مؤسّسة مالية في أكبر قطاع اقتصادي في البلاد، لأنّها لا تتمتع بحماية طائفية. واستمرت هذه المنظومة في السنوات التالية، وترسّخت أكثر بالأخص بعد الحرب الأهلية اللبنانية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام