من ضروب قصر النظر، تصوير ما شهده لبنان في السنتين الأخيرتين على أنّه انهيار في سعر صرف الليرة اللبنانية متأتٍّ من مشاكل اقتصادية مرتبطة بظروف موضوعية. الواقع هو أن الاقتصاد اللبناني يموت. الأدقّ أن منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني تتفتّت. هذه المنظومة، هي التي تُحدّد العلاقة بين الكيانات الاقتصادية وأجهزة الدولة وقوانينها، وتحدّد أيضاً شكل توزيع الدخل والثروة، وهي متشابكة عضوياً مع الطوائف كمؤسّسات دينية واجتماعية واقتصادية. لذا، إن تبعات تفتّت المنظومة ستصيب الطوائف اللبنانية. ومن الطبيعي في المقابل، أن تتدخّل الأخيرة لمحاولة منع التفتت أو محاولة إدارته بما يلائم مصالحها. أي مقاربة لمعالجة الوضع الراهن أو محاولة الخروج منه، من دون الالتفات إلى هذا التشابك، هو عمل غير مُجد. لا بل إن طرح خطط أو تصوّرات تحصر الأزمة بعام 1992 وما بعده، هو تقزيم للتشابك بين الطوائف ومنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، وتأثير هذا التشابك على مسارات تنفيذ أي خطّة ستوضع ونجاحها. صحيح أن الحريرية السياسية هي التي خطّطت ونفّذت السياسات التي ولّدت الانهيار الذي يعيشه لبنان اليوم، إلاّ أن تنفيذها لم يكن ممكناً من دون تبنّيها من قبل منظومة الاقتصاد السياسي. يمكن القول بأن سياسات الحريرية السياسية تسرّبت إلى نسيج منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني وكل الطوائف المتشابكة معه. هكذا، أصبح ضرورياً الأخذ في الحسبان تشابك الطوائف بمنظومة الاقتصاد السياسي من أجل توقّع ردود أفعال الطوائف أولاً، ولحظه أثناء رسم الخطط.
تشابك غير خفيّ
هذا التشابك ليس خفياً. لا يمكن لمسه أو اقتفاء أثره في منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. بالعكس، إن وجود الطوائف في المنظومة واضح وجليّ ويمكن تتبّعه ورصد تأثيره عبر القطاعات. هذا ما يوضحه بحث أعدّه سامي بارودي بعنوان: «الطائفية وجمعيات الأعمال في لبنان ما بعد الحرب». فهو أشار إلى جزء من الترابط العضوي بين الطوائف ومنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني عبر استعراض تطور «التوازن الطائفي» وانعكاساته في الجمعيات والغرف القطاعية المتنوّعة. هذه الجمعيات والغرف تمثّل ثقلاً اقتصادياً وعوامل ضغط على المستويات التشريعية والتنفيذية في الدولة. كنّا قد لمسنا ذلك في السنتين الأخيرتين عبر أداء جمعية مصارف لبنان خلال الأزمة الحالية. كذلك الأمر في أداء جمعية تجّار بيروت وجمعية الصناعيين وغيرها من الجمعيات القطاعية خلال الإقفالات العامة بسبب وباء كورونا خلال السنة الماضية.
على سبيل المثال، كان أعضاء مجلس إدارة جمعية تجّار بيروت - التي كانت تتمتّع بتأثير سياسي كبير قبل عام 1975 وما زالت تتمتع بهذا التأثير بدرجة أقلّ - يتوزّعون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين (12 عضواً لكل منهما).

أنجل بوليغان ــ المكسيك

بينما انقسم تمثيل المسلمين بين 10 من الطائفة السنيّة واثنين من الطائفة الشيعية، وتوزّع التمثيل المسيحي على 5 مقاعد للطائفة المارونية و4 للأرثوذوكس و3 للكاثوليك. وفي أول انتخابات مجلس إدارة بعد الحرب الأهلية في عام 1994، ارتفع عدد الأعضاء المسلمين إلى 14 (كلهم من الطائفة السنية) وتمثّل المسيحيون بعشرة مقاعد - بينما قاطع التجار الشيعة الانتخابات بسبب عدم تلبية مطلبهم بزيادة ممثليهم لتعكس تطوّر وضع التجار الشيعة في بيروت. سبّب هذا الخلل في المناصفة أزمة لم تتلاشَ تبعاتها إلاّ مع انتخابات عام 1998 التي أعادت فرز المناصفة بين المسيحيين والمسلمين على حساب مقاعد الطائفة السنية في مجلس الإدارة ( 8 للسنة و4 للشيعة و3 للموارنة و5 للأرثوذوكس و3 للكاثوليك وواحد للأرمن). هذه التسوية طُبخت بين ممثلي الطوائف في السلطة التنفيذية. بحسب بارودي، فإن اللوائح التي كانت تتنافس قبل وبعد الحرب كانت تحفظ هذا التوازن الطائفي، بما يعكس توازنات أعداد التجار وأحجام رأس مالهم من حيث انتماءاتهم الطائفية.
لا يوجد مثال أوضح عن توزيع التوازن على اللوائح من انتخابات مجلس إدارة غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت في عام 1972. يتألف مجلس إدارة الغرفة من 18 عضواً تعيّن الحكومة ثلثهم. وانعكس الصراع بين الصناعيين والتجار في انتخابات مجلس إدارة الغرفة في ذلك العام، بين صناعيين يريدون الحفاظ على ارتفاع الرسوم الجمركية، وتجار يريدون خفض مستواها. ورغم الشكل الديمقراطي للانتخابات، إلاّ أن كلتا اللائحتين حافظتا على التوزيع الطائفي الذي يحفظ التوازن. فأفرزت الانتخابات مجلس مناصفة بين المسلمين (6 سنة و2 شيعة ودرزي) والمسيحيين (4 أرثوذوكس و3موارنة وكاثوليكي وأرمني). وأفرزت أول انتخابات لمجلس إدارة الغرفة بعد الحرب، في عام 1992، مجلساً من 24 عضواً مناصفة بين المسلمين (5 سنة و5 شيعة ودرزيان) ومن المسيحيين (4 أرثوذوكس و4كاثوليك و3 موارنة وأرمني).
أمّا جمعية الصناعيين فتطوّر التوزّع الطائفي في مجلس إدارتها من 10 أعضاء مسيحيين واثنين مسلمين كما كان في عام 1943، إلى 16 مسيحياً و8 مسلمين في عام 1975. وأفرزت أول انتخابات بعد الحرب، في عام 1992 مجلساً من 13 مسلماً و11 مسيحياً، إلى أن أعيد التوازن في انتخابات 1994 التي أفرزت مجلساً جاء مناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
ربما أن أهم هذه الجمعيات القطاعية في واقعنا الحالي هي جمعية مصارف لبنان، التي كان يتوزّع التمثيل فيها بين مسلم واحد و11 مسيحياً قبل الحرب. بينما في انتخابات عام 1988 أصبح العدد مناصفة بين المسلمين والمسيحيين بستة أعضاء لكل من الطرفين.
تعكس هذه الصورة كيفية تداخل منظومة الاقتصاد السياسي مع الطوائف. فالمنظومة تتمثل بالعلاقة بين مختلف أجهزة الدولة (التشريعية والتنفيذية) من جهة والجمعيات والغرف القطاعية المهنية من جهة أخرى، وكيفية انعكاس هذه العلاقة على تنظيم الاقتصاد وتوزيع الثروة والدخل ضمنه. ولكن الطوائف تدخل على مستويين، المستوى الأول هو السياسي، حيث لكل طائفة حصّة - يتغيّر حجمها بتغيّر الظروف والديموغرافيا - كرّسها تطور الظروف السياسية والاقتصادية في جبل لبنان منذ القرن السابع عشر، وأحكم تكريسها الفرنسيون من خلال تركيب نظام لبنان الانتداب.
أمّا المستوى الثاني فهو على صعيد المؤسسات الاقتصادية وجماعات الضغط التي أفرزته هذه المؤسسات (مثل الجمعيات الآنفة الذكر). لذا، يصبح للطوائف تمثيل داخل القطاعات الاقتصادية، كما داخل مؤسسات الدولة، وتصبح متشابكة عضوياً مع منظومة الاقتصاد السياسي.

تدفّق رأس المال
دراسة هذا التشابك ضرورية، لأن تفكيكه ببساطة لن يأتي بشكل عضوي بمجرّد طرح خطط تتجاهله. فهذا التشابك عمره من عمر نشوء رأس المال في جبل لبنان الذي نشأ في كنف طائفة على حساب الحيازات الإقطاعية. هذا الاستنتاج ورد في مقالة بول سابا البحثية بعنوان «نشأة الاقتصاد اللبناني - النمو الاقتصادي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين». فقد أشار إلى أن رأس المال في جبل لبنان بدأ بالنشوء على أثر ظهور بيوتات تجارية على علاقة مباشرة ببيوت التجارة والمصانع في فرنسا. وهذا التحول حصل بسبب انفتاح أسواق شرق المتوسط أمام الأسواق الأوروبية في منتصف القرن السابع عشر، ما أدّى إلى تغيّر مسارات تصدير إنتاج جبل لبنان الزراعي من الداخل السوري إلى الأسواق الأوروبية، وأخضع الجبل لإغراءات تلبية احتياجات الأسواق الفرنسية والبريطانية من الحرير. ومع الوقت تحوّلت كل الحيازات الإقطاعية إلى زراعة شجر التوت وتربية دود القز. وبشكل طبيعي ازداد اعتماد الجبل على استيراد الحبوب والماشية لتلبية حاجاته الغذائية. وبسبب تصدير الحرير إلى أوروبا، بدأت النقود بدخول الدورة الاقتصادية في جبل لبنان، عبر البيوتات التجارية (أغلبيتها الساحقة من المسيحيين) التي كان الفرنسيون قد أعطوها الحقّ الحصري لشراء الحرير وتصديره إلى بيوت التجارة الفرنسية. وفي الوقت نفسه، حصل هؤلاء التجار على الوكالات الحصرية لاستيراد المصنوعات الفرنسية (منسوجات بشكل أساسي) وبيعها في أسواق جبل لبنان. وسرعان ما تحوّل رأس المال الأوروبي (الفرنسي بالأخص) إلى أداة للإقراض المرابي بين التجار والإقطاعيين، حيث وجد الكثير من الإقطاعيين أنفسهم غارقين بالديون التي توجّبت عليهم لتجّار مسيحيين في قسمَي جبل لبنان، الدرزي والمسيحي.
يصف سابا ما حصل بعد ذلك بتفتّت الاقتصاد الإقطاعي، لأن الإقطاعيين بدأوا يخسرون حيازاتهم الزراعية لمصلحة التجار. فانعكس ذلك على شكل حرب طائفية في عام 1842 في الشوف وعاليه، وكذلك حدوث تمرّد من الفلاحين المسيحيين على آل الخازن في كسروان في عام 1859 ما أدى مجدداً إلى الحرب الطائفية في عام 1860. عملياً نشأ رأس المال اللبناني في كنف الطوائف المسيحية (بالأخص الموارنة) في مدن ساحل جبل لبنان، ونما في أراضي إقطاعيي الجبل من المسيحيين والدروز.
إن منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني تتفتّت وهي التي تُحدّد العلاقة بين الكيانات الاقتصادية وأجهزة الدولة وقوانينها، وتحدّد أيضاً شكل توزيع الدخل والثروة، وهي متشابكة عضوياً مع الطوائف كمؤسّسات دينية واجتماعية واقتصادية


وبعد التسوية التي أنهت حرب عام 1860، أُعلن إنهاء جميع الامتيازات الممنوحة للأسر الإقطاعية، وأنيطت جباية الضرائب بموظفين بأجر تحت السلطة المباشرة للحاكم العثماني. وفي عام 1862، أصدر الحاكم العثماني أمراً بتسجيل جميع مبيعات العقارات غير المنقولة في المحاكم المنشأة حديثاً، ثم تم إجراء مسح عقاري واستكماله. وعلى أثر هذه التغييرات، يُقدّر انخفاض حصة الإقطاعيين من الثروة الوطنية من 75% إلى ما بين 25% - 10%. بينما كانت بريطانيا قد تدخّلت منذ العقد الرابع من ذلك القرن لإعطاء بعض التجار المسلمين وكالات حصرية للتجارة معها - بسبب التنافس الإمبراطوري بين بريطانيا وفرنسا - فولدت بيوتات تجارية تحت كنف طوائف أخرى بعد أن سُنّ هذا المسار عند الطوائف المسيحية.
وتحوّل بعض فائض رأس المال، الذي راكمه التجار من الإقراض الربوي (في ظل غياب المصارف) ومن تصدير الإنتاج الزراعي واستيراد المصنوعات والغذاء، إلى الاستثمارات الصناعية المتواضعة. فافتتح الكثير من التجار صناعات مكمّلة للإنتاج الزراعي، حيث كانت عبارة عن مصانع غزل الحرير ومعاصر الزيتون والعنب الحديثة. ولكن كلّما وجد الصناعيون- التجار أنفسهم في مواجهة أزمة بسبب هشاشة اقتصاد جبل لبنان، تخلّوا عن صناعاتهم وأعادوا توجيه رأس مالهم إلى التجارة.

في كنف النظام
يشرح روجر أوين في مقالته البحثية «الاقتصاد السياسي للبنان الكبير 1920-1970»، أنّ هذه الدينامية، بين القطاعات واحتضان الطوائف لها، المقوننة ضمن نظام المتصرفية الناتج عن حرب 1860 ثبّتها الفرنسيون في عام 1920 عندما أنشأوا دولة لبنان الكبير. وبالفعل استمرّت الصناعة على الهامش في الفترة ما بين الحربين العالميتين. بينما تدهور قطاع إنتاج الحرير بشكل تدريجيّ إلى أن انهار على أثر أزمة «الكساد الكبير» في عام 1929. وقد وسّع هذا الأمر هيمنة التجار على الاقتصاد في البلد الحديث الولادة، فاستفاد تجّار جبل لبنان من إضافة مساحات من السهول السورية (البقاع وعكار وطرابلس والجنوب) إلى الدولة الوليدة، حيث نشأت كتلة سكانية إضافية مجبرة على الاستهلاك عبر الخدمات التي يقدّمونها واحتكاراتهم. وتوسّع توظيف رأس المال المتأتّي عن هذا القطاع إلى قطاع الخدمات، حيث طوّر التجار نشاطهم المرابي إلى خدمات مصرفية، في ظل نظام جمركيّ متساهل وتطوير بنية تحتية تهدف إلى خدمة التجارة إلى الداخل السوري. وحصل هذا كلّه في كنف نظام سياسيّ كرّس مبدأ حصول الطوائف على حصص في الدولة، ما عزّز سطوتها كحاجة وكحاضن لرأس المال اللبناني، الذي نشأ أساساً في كنف الطوائف.
التدقيق في العوامل التي أدّت إلى نشوء منظومة الاقتصاد السياسي في لبنان تحت عباءات الطوائف اللبنانية، ضروري لفهم كيفيّة تفكيكها أو على الأقل تعديل مسارها من دون الاصطدام بالطوائف. لكنّ التوقّف عند هيمنة قطاعات الخدمات على المشهد الاقتصادي، بدعم من الطوائف الراعية، ليس كافياً. لأنه من الضروري أيضاً فهم مسار هيمنة الخدمات المصرفية وقطاع المصارف على الاقتصاد اللبناني.

تابع «رأس المال» على إنستاغرام

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا