السكن هو النتيجة النهائية لدمج عنصرين: توافر الأرض ونشاط البناء. يشكّل البناء نشاطاً إنتاجياً يرتّب مداخيل وطلباً متولّداً وأعداداً كبيرة من فرص العمل (8% من العمالة قبل الأزمة) وإن احتاج إلى نسبة عالية من المستوردات لمواده ولعمّاله أيضاً، وهذا ما يحكم كلفه وأسعاره وهوامش أرباحه، إلّا أن ملكية الأراضي ليست سوى سند شكلي يسمح بتحصيل الريوع، وهي التي شكّلت قاعدة المضاربات وأدّت إلى ارتفاع أسعار السكن.ليس السكن مجرّد سقف يلبي حاجة وظيفة بديهة. فاختيار مكان السكن يعكس المرتبة الاجتماعية والانتماء الطائفي، معزّزاً ومصلباً مفاعيل حركات التهجير والنزوح التي أورثتها الحرب الأهلية. أصبح إنتاج المجال، بالتالي تراتبياً ومنظّماً وفق هذه الأسس. وانتهى الأمر بتهميش بعض البلدات والمدن، فيما ازدادت الكثافة السكانية في مناطق أخرى وارتفع الطلب على البناء فيها. شيّدت أيضاً أبراج فارهة لنقل صورة عن ازدهار البلاد في سنوات ما بعد الحرب، على الرغم من أن غالبيتها بقي شاغراً (تقدّر قيمة مخزون الشقق الفخمة والمتوسطة الشاغرة بنحو 10 مليارات دولار).
أسوة بالقطاعات الأخرى، لا تعود قلة المساكن المتهاودة الأسعار إلى نقص في الخبرة الفنية أو في التمويل، بل تعود، على العكس، إلى تحوير لوجهة استخدام التمويل الضخم المُتاح صوب المضاربات العقارية. في الواقع، وُظّف نحو 65% من التحويلات الأجنبية التي وفدت إلى لبنان خلال السنوات العشرين الماضية في المضاربات العقارية، فانتهت المضاربات إلى رسم شكل المدينة وتحديد كيفية إنتاجها وتطورها. الخطط المالية والمصارف هي التي فرضت في الواقع «الاستراتيجيات المدينية» للبلاد. جذبت هذه الفورة معظم الرساميل، وساهمت في تقهقر القطاعات الإنتاجية الأخرى التي لم يجرِ أيّ استثمار فيها تقريباً (وتحديداً الزراعة والصناعة) بينما ارتفعت أكلافها بسبب ارتفاع أسعار الأراضي والإيجارات.


هذه «الاستراتيجية المدينية» التي فُرضت كأنّها أمر واقع، أدّت أيضاً إلى توسّع عمراني في المناطق الريفية، وإلى تحويل الاوتوسترادات إلى جادات تجارية، وإلى تدمير المباني التراثية والمواقع الطبيعية، وإلى تكاثر مدن الأشباح لا سيما في بيروت (شقق غير مباعة أو مملوكة من مغتربين). وكانت النتائج فصلاً مكانياً عميقاً بين الضواحي المكتظة سكانياً وغير المخطّطة، والتجمّعات الفاخرة الفارغة والمجمّعات المسوّرة، والنوادي الريفية باعتبارها مساكن ثانوية، والتطوير العمراني للأثرياء.
بقيت فرص العمل المتوافر مركّزة داخل بيروت وضواحيها، ما أجبر العائلات المتوسطة والمنخفضة الدخل، والمهنيين الشباب، على الهجرة أو العيش على أطراف بيروت الكبرى والتنقل يومياً لساعات، مستخدمين بنية تحتية متدهورة لا ترتقي إلى مستوى أدنى المعايير، في غياب وسائل نقل عام جدية.
بالإضافة إلى الفصل المكاني، يعاني المجتمع أيضاً من شرخ بين أصحاب الملك، وغير المالكين الذين يضطرون إلى تحمل شروط السوق. فالمالكون يعتبرون أنفسهم من الأغنياء وذوي الامتيازات، باستثناء المالكين القدامى الذين واجهوا ما يشبه المصادرة لأملاكهم نتيجة تجميد الإيجارات لفترة طويلة من التضخّم المرتفع.
وفي ظل غياب تعداد رسمي للسكان، تبقى كل المعلومات مبنية على التقديرات، من مساكن رئيسية، ومساكن ثانوية، وظروف عمل وأماكنها، وأحجام أُسر، وكثافة سكان. ومع ذلك، من الضروري إزالة الالتباس الذي يعتري غالبية الخطابات حول دور آليات العرض والطلب من تحديد أسعار المساكن. في الوقائع، العرض أعلى من الطلب، مع تباين حادّ كمّاً ونوعاً بين الاثنين. وفّرت الفورة المالية، الدافع الرئيسي للازدياد المطرد في البناء، ولكن بانفصال تام عن الحاجات الفعلية للمجتمع وعن قدرات الاقتصاد الفعلية. عملياً، لا علاقة لارتفاع الأسعار بقلّة العرض، بل هناك انفصام بين الطلب (مساكن بأسعار معقولة ومتوسطة الحجم) والعرض (شقق كبيرة فخمة تستخدم للمضاربة). في الوقت نفسه، تم الترويج لتملّك المنازل باعتبارها الاستثمار الأكثر أماناً، وإن كان من خلال الدين، بحيث استُخدمت القروض السكنية المدعومة لتمويل الفقاعة العقارية، وتعزيز الطلب على العقارات والمحافظة على مستويات أسعار الشقق والأراضي بوصفها جزءاً من الحلقة المالية المصرفية. ارتفع حجم القروض السكنية نحو 10 مرات في 15 عاماً، وبلغ 13 مليار دولار أميركي في عام 2019. فيما تضخّمت أسعار المساكن أكثر من ثلاث مرات منذ عام 2005 وأسعار الأراضي أكثر من خمس مرات، واستقرّت على معدلات عالية جداً حتى السنوات الأخيرة، تأثّرت سوق الإيجارات أيضاً بفورة الأسعار، فلم تعُد في متناول شريحة كبيرة من السكان، ما جعل عدد العائلات التي تلجأ إلى الإيجارات كخيار للسكان يتناقض. في المحصّلة، باتت القروض السكنية هي «السياسة الإسكانية» في البلاد.
كان قرار وقف القروض السكنية المدعومة أحد المؤشرات الرئيسية على اقتراب الأزمة.
في الوقت الحالي، تزداد القروض المتعثّرة يوماً بعد يوم، ويرتفع عدد الأسر التي لا تستطيع تحمّل إيجار السكن، ونشهد عمليات إخلاء ومصادرة للممتلكات بشكل متزايد. فما الذي يمكن فعله لتوزيع هذه الأعباء بشكل عادل وهادف؟
نظراً لمخزون الشقق الشاغرة أو غير المنجزة، لا يتطلب توفير المساكن استثمارات بالعملات الأجنبية، وهو لا يضغط على ميزان المدفوعات. يكفي التدخل على مستوى السياسات المالية وسياسات التنظيم المدني من ضمن إطار مؤسسي واضح.
تاريخياً، كان تدخّل الحكومة في توفير السكن هامشياً ومشوّهاً حتى عندما اقتصر الأمر على الوجهة التنظيمية. بات السكن بأسعار تتناسب مع مداخيل اللبنانيين ضرورة اجتماعية ملحّة لا تنفصل عن إدارة واعية لعملية العمران، في علاقتها بخيارات النقل والخدمات العامة.
من الضروري تجميد عمليات الإخلاء أولاً، ثم إعادة صياغة العقود وجدولة القروض خدمة لتوجّه عام يهدف إلى تعزيز عقود الإيجارات الطويلة الأمد. الهدف ترشيد الأسعار العقارية بعد ما لحق بها من تضخّم من جهة، وإنما أيضاً، من جهة أخرى، تلافي حصول إفلاس منظومي للمطوّرين العقاريين ولمؤسّسات البناء وللمقترضين.
عندما يتم ترسيخ مفهوم أن السكن حقّ وليس سلعة، يمكن عندئذ النظر إلى طرق مختلفة لتوفيره. بالطبع، من غير المتوقّع أن يتصرف المطورون بما لا يراعي مصالحهم الخاصة أو أن يضحّوا بها للصالح العام.
الحاجة أكيدة لاعتماد سياسات مالية دقيقة، كي يتناسب الإيجار مع أوضاع كل من المالكين والمستأجرين. تهدف هذه السياسات إلى وقف اعتبار المسكن منتجاً منفصلاً عن وظيفته الأساسية (السكن)، يُباع لتحقيق ربح آني سريع، وجلّه يتأتى من رفع قيمة الأراضي التي يقوم عليها، ويُشترى كتوظيف مالي مضارب، انتظاراً لارتفاع لاحق في سعر الأراضي التي يقوم عليها. مجدّداً المطلوب باختصار وضع حدّ لتسليع الأراضي.
من هنا، على السياسات المالية أن:
- تستهدف أولاً الشقق الشاغرة بغية تحويلها لتعزيز عرض المساكن للإيجار بأسعار معقولة. تخضع جميع الوحدات السكنية الشاغرة باستثناء مسكن ثانوي ضمن حدود منطقية لكل أسرة لضريبة تصاعدية على قيمتها، ترتفع سنوياً من 1% إلى 5%.
- يُقتطع، ثانياً، جزء من زيادة قيمة الأراضي، عند تحقّقه عبر المبادلات العقارية، لتعديل التوازن بين العرض والطلب المحليين، وإعادة أسعار الأراضي والريوع التي تترتّب عنها، إلى مستويات لا تتصل بالمراهنة على طموح أصحاب الأموال الوافدة، بل بقدرة الاقتصاد المحلي، إنتاجاً ومداخيل واستهلاكاً، على تحملها. أما الربح الرأسمالي الناجم عن قيمة الأرض (بعد حسم كلفة البناء على أسس تعرفة معيارية للمتر المربع في حالة العقارات المبنية، وبعد تصحيح أسعار البيع مقابل الشراء، بما يتماشى مع معدّل التضخم بين تاريخي حصولهما) فيخضع لضريبة بمعدل 25% للشطر الذي يتخطى حداً أدنى معيناً.
في الوقت الحالي، تزداد القروض المتعثّرة يوماً بعد يوم، ويرتفع عدد الأسر التي لا تستطيع تحمّل إيجار السكن، ونشهد عمليات إخلاء ومصادرة للممتلكات بشكل متزايد


تجدر الإشارة إلى أن هذه الإجراءات الضريبية تُنتج الآثار الإيجابية التالية:
* يضم التقاط جزء من زيادة قيمة الأراضي عبر الضريبة، عائدات للسلطات المركزية والمحلية التي تموّل الخدمات للعمران، وبالتالي «تنتج» تلك الزيادة في قيم الأراضي أو أقله تتحمل الكلف الناتجة عنها. تسمح هذه المداخيل أيضاً بتنفيذ التدابير الإيجابية لتعزيز التنوع الاجتماعي طبقياً.
* فرض الضرائب على الأرباح الرأسمالية المحقّقة من الأراضي يضع البائعين والمشترين في حالة تعارض مصالحهما، وبالتالي يحدّ من التهرّب الضريبي، ويسمح بإنشاء قاعة بيانات موثوقة لأسعار الأراضي، وهو ما يؤدي إلى فرض الضريبة على ملكية الأراضي، ستكون ضرورية لتنظيم فعّال لاستخدام الأراضي (حماية المناطق المبنية أو غير المبنية، الطبيعية أو الزراعية، إلخ).
فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية السريعة التحقق وعلى الاحتفاظ بمبانٍ شاغرة سيجعل الوقت مكلفاً، وهو ما يؤدي حكماً إلى إعاقة المضاربة والحدّ من ارتفاع أسعار العقارات.
يمكن أيضاً إنشاء صناديق لإنقاذ المطوّرين المُثقلين بالديون الذين يلتزمون بتأجير شققهم غير المباعة لفترة يتم تحديدها (من خلال قروض مسندة) وبأسعار محدّدة. هذا يؤدي إلى تحريك مخزون كبير من الشقق غير المباعة، وخصوصاً المتوسطة الحجم، لتصبح جزءاً من سوق الإيجار، وإنما أيضاً إلى تعديل الشقق الكبيرة الحجم الشاغرة أو إلى إعادة النظر بتقسيمات الشقق غير المنجزة. هذه السياسة تستهدف الشباب بشكل خاص، وتسعى لكبح الهجرة وتقليص عمليات الإخلاء والنزاعات المحتملة.
تهدف إعادة ترتيب مخزون المساكن إلى عقلنة التوسع العمراني وأنماط إنتاج المجال من خلال قوانين تنظيم مدني وبناء أقل خضوعاً لمنطق الربحية السريعة. تصبح عمليات التطور العمراني محدّدة بأنظمة تحمي البيئة والموارد الطبيعية، والأهم من ذلك، تحوّل التجمّعات المسوّرة المتناولة بين البؤس والترف إلى مجال واحد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا