كان للحرب اللبنانية (1975-1990) أثر في تضرر تراث بيروت المبني، وخصوصاً في وسط المدينة والأحياء المحيطة به. وأتت مرحلة إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب لتطرح خطّة لا تحمل في طيّاتها رؤية لحماية هذا التراث. هذا ما دفع ناشطين ومهندسين ومتخصّصين في مجالات مختلفة إلى التحرّك للمطالبة بالحفاظ على ذاكرة مدينة بيروت. رافق ذلك إعداد دراسات وأبحاث وسّعت المعرفة ببيوت بيروت القديمة وأزالت الكثير من النظريات المغلوطة. آنذاك بادر وزير الثقافة إلى إطلاق حملة لتحديد هذه البيوت ورفعها تمهيداً لإدراجها على لائحة الجرد العام، إلّا أن المسعى فشل رغم جهود المديرية العامة للآثار في إدراج بعض الأبنية على اللائحة وتجميد هدم أبنية أخرى. ومنذ ذلك الحين، بدأت أعداد الأبنية القديمة غير المحمية، بالتراجع تدريجاً تحت وطأة الضغط العمراني ومشاريع التطوير العقاري، وأيضاً في ظل غياب السياسات العامة لحماية التراث وفقاً للمفاهيم الحديثة المعروفة. في ظلّ الديناميكيات العقارية، هل يمكن إنقاذ تراث بيروت المبني؟ ما هي شروط الحفاظ عليه وهل يمكن تحقيقها؟
تجربة طرابلس
غداة انتهاء الحرب الأهلية وإطلاق ما عُرف حينها بـ«مرحلة إعادة الاعمار»، توالت الحملات والمشاريع لحماية التراث الثقافي في لبنان. مردّ ذلك إلى عدّة عوامل منها الضرر الكبير الذي لحق بالتراث المبني خلال الحرب، خصوصاً في بيروت، وإطلاق النقاشات العامة في هذا الإطار، وعودة الكثير من الأخصائيين من الخارج حاملين تجاربهم وأبحاثهم في مجال الحفاظ على التراث. واعتبر الكثيرون، أن مرحلة جديدة انطلقت بهذا الخصوص. وبالفعل أُطلقت العشرات من الحملات والمشاريع على الأراضي اللبنانية للحفاظ على المعالم التاريخيّة والأبنية القديمة والمجموعات السكنيّة التقليدية.
تجربة مدينة طرابلس جديرة بالذكر، ولا مجال لعرضها هنا بالتفصيل. استفادت هذه المدينة من مشاريع التعاون الأوروبي المتوسطي التي انطلقت بعد قمة الأرض في ريو عام 1992، وانخرطت في العديد منها، من بينها مشاريع تُعنى بالحفاظ على التراث الثقافي. من أجل ذلك، أبرمت بلدية طرابلس، في حينه، اتفاقية تعاون مع قسم العمارة في الجامعة اللبنانية في طرابلس للاستفادة من طاقاته. وأدّى ذلك لاحقاً إلى تأسيس مركز متخصّص في الترميم والحفاظ على المعالم والمواقع التاريخية عام 1998. وجاء تأسيس هذا المركز في الجامعة اللبنانية بعد تجارب سابقة ومتزامنة أظهرت مدى الضرر الذي لحق ببعض المعالم التاريخية التي جرى ترميمها، وضرورة إعداد مهندسين متخصّصين في الترميم والحفاظ على التراث. إلّا أن التجارب اللاحقة أظهرت أن ترميم التراث المبني بالطرق العلمية السليمة ليس كافياً للحفاظ عليه، بل هو بحاجة لأن يكون جزءاً من نسيج المدينة، يأخذه التصميم التوجيهي العام في الاعتبار مع محيطه. في عام 2000 كلّفت المديرية العامة للتنظيم المدني استشاريّاً لإعداد تصميم توجيهي جديد لمنطقة طرابلس. تبع ذلك في عام 2001 انطلاق مشروع حماية الإرث الثقافي لمدينة طرابلس بعد تكليف فريق متخصصين تحت إشراف مجلس الإنماء والإعمار والبنك الدولي. التعاون بين استشاريي الفريقين أنتج اقتراحاً يحمي مدينة طرابلس التاريخية من خلال مخطّط تفصيلي، كما يحمي امتداداتها التاريخية. إلّا أن هذا التصميم التوجيهي العام رفضته بلدية طرابلس بعد تعرّضها للضغوطات من قبل الفاعلين السياسيين والمطوّرين العقاريين في المدينة الذين اعتبروا أن الاقتراح يتعارض مع مصالحهم الانتخابية و/أو المهنية. أدّى ذلك إلى صدور مراسيم بتصاميم توجيهية منفردة لكلّ مدينة من مدن الفيحاء. بالنسبة إلى طرابلس، ألغى التصميم التوجيهي الجديد كلّ التوجّهات لحماية مناطق الامتداد للمنطقة التاريخية، واعتبرها مناطق تطوير عقاري كغيرها من المناطق الأخرى لطرابلس.

الحق في المدينة
تجربة طرابلس هذه لم تكن الوحيدة على الأراضي اللبنانية، بل تكرّرت في مناطق عديدة. أخذ التراث المبني يتقلّص، سواء في المناطق المدينية أو الريفية، بفعل القوانين والمراسيم المختلفة والتصاميم التوجيهية وقانون البناء في المناطق غير المصنّفة. هذا دليل إضافي على أن الحفاظ على التراث المبني لا يكون بترميمه فقط، بل من خلال الحفاظ على وظيفته وحيويته وإزالة الضغوطات كافة عنه، وإدراج حمايته في السياسات العامة اللبنانية الإنمائية.
في العاصمة بيروت يتعرّض التراث المبني لضغوطات عديدة معروفة. تتحقق المحافظة عليه من خلال سلّة إجراءات مترابطة لا بدّ منها، وتكون جزءاً من السياسات العامة تحت عنوان «الحق في المدينة». من هذه الإجراءات:
- تعديل التصميم التوجيهي العام لمدينة بيروت الذي أُعدّ في الخمسينيات، لخفض معدّلات الاستثمار العام في الأحياء التي تحوي مجموعات من التراث المبني، لأن هذه المعدلات تسمح ببناء مساحات إضافية كبيرة بعد هدم المبنى وإعادة بناء مبنى جديد محله. بالإضافة إلى ذلك ثمة واجب لتحديد شروط البناء وتأمين الصيانة للأبنية القديمة.
- إصدار قانون إيجارات جديد يسمح للطبقات الاجتماعية الوسطى وما دون بإشغال المساحات السكنية في الأبنية القديمة (وغيرها) بشكل مستقرّ ومن دون التعرّض للتهديد الدائم بالطرد، ما يسهم في تأمين الموارد المالية لتوفير الصيانة لهذه المباني واستقرار السكان.
- إصدار قانون جديد للتراث يأخذ في الاعتبار المراحل الزمنية كافة، ويحدّد آليات تحديد المباني التراثية وإدراجها على لائحة الجرد العام، إضافة إلى حماية مناطق الامتداد.
- إيجاد آليات فنية واقتصادية، مؤقتة أو دائمة، لتعويض أصحاب الملك عن الخسائر التي ستنتج عن الإجراءات الآنف ذكرها.
يعتمد نجاح هذه الإجراءات بشكل كبير على تطوير النظام الاقتصادي اللبناني ليتحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج. كما يعتمد أيضاً على إرادة المواطنين بالحفاظ على تراثهم وعلى دور البلديات في ذلك.

أحياء بيروت بعد الانفجار
ينطبق كلّ ما سبق على مشروع إعادة بناء الأحياء البيروتية التي تضرّرت بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي. فرغم الجهود الإيجابية الكبيرة التي قامت بها مجموعات شبابية لإزالة آثار الأضرار من المساحات العامة، والأعمال الهندسية التي قامت بها نخبة من المتخصصين اللبنانيين لمسح الأضرار ورفع الأبنية التراثية وإنتاج خرائط جديدة تمهيداً لترميم هذه الأحياء وحمايتها وإعادة السكان إلى منازلهم، ورغم الوعود الرسمية لتحقيق ذلك، إلّا أنه تبقى إشكالية استدامة هذا التراث الثقافي تحت المجهر. فمشروع القانون الذي وافق عليه مجلس النواب بتاريخ 28 أيلول الماضي بعد تعديله، والرامي «إلى حماية المناطق المتضرّرة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها» يبقى محدوداً زمنيّاً رغم احتوائه على مادة تعني المحافظة على تراث المناطق المتضرّرة، وتدعو فيها وزارة الثقافة إلى وضع «خطّة منفصلة لإعادة إعمار و/أو ترميم الأبنية ذات الطابع التراثي المتضررة». السؤال المطروح هو حول طبيعة الوضع القانوني لهذه المناطق في السنوات المقبلة بعد الانتهاء من إعادة إعمارها وعودة سكانها إلى منازلهم، وما إذا كانت الإجراءات والمشاريع التي ستنفّذ اليوم ستزيل عنها جميع الضغوطات وتؤمن استدامتها مستقبلاً. ومن الضروري التساؤل أيضاً، عن مصير الأحياء القديمة الأخرى جنوب وسط بيروت التجاري والتي «تنهشها» شركات كبرى تحت عنوان التنمية وخلق فرص عمل.
إذاً، الحفاظ على التراث الثقافي لا يتحقّق بفعل جهود المتخصصين والناشطين والجمعيات ورغبة السكان فقط. إنها مسألة إرادة سياسية أولاً تدفع إلى تطوير سياسات عامة ملائمة وإلى تعاون جميع الفاعلين المعنيين لتحقيقها. هل يمكن تحقيق ذلك في لبنان، وبشكل خاص في بيروت، في ظلّ هذا النظام السياسي والاقتصادي؟ دون هذه السياسات العامة، يقيني أن التراث الثقافي في مدينة بيروت، وغيرها، سيختفي كليّاً في العقود القليلة المقبلة.

* معمار ومخطط مدن، أستاذ في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا