تدنّى العجز في الميزان التجاري وانخفض سعر الصرف. في حالات كهذه يشتدّ الطلب على المنتجات الوطنية المتدنية السعر مقارنة مع مثيلاتها في العالم، ما يقوّي الصادرات بشكل يسدّ العجز المتدنّي في الميزان التجاري. لكننا هنا أمام معضلتين: الأولى هي مرونة التصدير؛ فعلى مدى ثلاثة عقود من التركيز على الربح السريع والمضاربة من خلال سياسة نقدية انكماشية ضعفت القدرة الإنتاجية وحلّ ما يُسمى في عالم الاقتصاد بـ«التخلّفية» (hysteresis)، أي فُقِدت الأسواق التي كان لبنان يصدر إليها بسبب ارتفاع سعر العملة تزامناً مع فقدان الترابط في شبكة العرض أو الإنتاج. فقدان مرونة العرض يعني أنه مهما تدنّت قيمة العملة وزاد الطلب على المنتجات المحلية، فإن أثر السياسات السابقة سيخلق «تخلفية» في قدرات الإنتاج التي لا تكفي لتغطية الطلب.وبغياب القدرات الإنتاجية وغياب الأسواق التي يمكن أن نصدر إليها، يبقى العجز في الحساب الجاري على ما هو. في العادة، ميزان المدفوعات يعدّل العجز، أي عندئذ تدخل على الخط القدرات الوطنية على جذب رأس المال النقدي من خلال الثقة التي تمليها السوق المالية وأسعار الفائدة التنافسية. غير أن هذه الثقة، فُقدت بإفلاس المصارف. هذه النقطة الأخيرة هي المعضلة الثانية. «المعضلة الأولى» أنه ليس لدى لبنان قدرات على التصدير و«المعضلة الثانية» أنه ليس لديه قدرات على جذب التدفقات الإضافية.
أُفلِست المصارف بقرار سياسي مبتغاه إفلاس المودعين غير المستحبين أميركياً، وطالما بقي العجز في الميزان التجاري غير معدّل، يستمر انحدار العملة الوطنية إلى أن يتعدّل الحال.
النتوءات الصغيرة صعوداً أو نزولاً في سعر العملة الوطنية لا تخفي الانحدار الحتمي الناتج عن الخلل المزمن في الميزان التجاري. بحكومة أو بلا حكومة سيستمر تدنّي العملة طالما ليس لدينا القدرة على لجم تدفقات رأس المال إلى الخارج وجذب رأس المال، أو تغطية الاستيراد بالعملات الأجنبية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

الحلول التي تطرح نفسها، هي إما الهجرة التي تزيد التدفقات من اللبنانيين العاملين في الخارج وتخفّض فاتورة الاستيراد بمدى انخفاض السكان واستهلاكهم، وإما إعادة هيكلة القدرات الإنتاجية للاستفادة من سعر الصرف المتدني. وبين تصدير الشباب أو تصدير السلع والخدمات اللبنانية، تبدو هذه الأخيرة هي الأكثر جدوى لأنها منوطة بالتنمية التي تعزّز الأمن. فكما هو مسلّم به لا تنمية من دون أمن ولا أمن من دون تنمية. ونظراً إلى تموقع لبنان سياسياً وجغرافياً شمال فلسطين، ونظراً إلى كون التوسّع أو التراكم بالعنف هو ركيزة الاقتصاد الصهيوني، فلا مفر من إعادة ربط التنمية بالأمن. لبنان يقع في منطقة تشكيل مصنع التراكم بالعسكرة، فإما الأمن الناتج عن أمن الطبقة العاملة، وإما استهلاك الذات الاجتماعية.
لكن لتفعيل الدورة الإنتاجية يُستلزم تفعيل الاعتمادات في اقتصاد السوق. السلعة وجدت كي تباع وتُستهلك، أي أن تُستَحق في السوق لغاية الربح، على عكس الغاية الاجتماعية. أي إن غايتها الربحية وليس تأمين المجتمع. لذا لكل سلعة مقابل نقدي، ولا تتواجد السلع إلا لغرض في ذاتها وليس لغرض اجتماعي. وبما أن التبادل بالنقد غايتها، فهي تكتسب سمة علاقة القيمة من خلال السوق. ظاهر علاقة القيمة هذه هو النقد أو السلعة الكونية.
لا تتوسّع السلع إلا بخلق الرقعة النقدية المؤاتية لتوسّعها وبالاعتماد أولاً. الاعتماد يُمهد الطريق، أي له الأسبقية منطقياً وتاريخياً، للصناعة أو الخدمات، وهذه أرضية أساسية للنمو الذي يعتمد ديناميكياً على الإنتاجية وتنمية القدرات التقنية. كل ما أقوله هنا يُختزل بكلمتين: كل سلعة منقَّدة والسلع لا تتوسّع إلا بتوسّع النقد أولاً.
حسابياً يعتمد معدل النموّ على كم الإنفاق على المستهلكات والاستثمار وفائض التصدير. هذه معادلة يمكن شقلبتها آخذين في الاعتبار أن النقد أو الكم النقدي ذو فعالية، فنقول إن النمو يعتمد على معادلة ألفرد مارشال. وما معادلة مارشال هذه إلا معادلة واضحة باحتضانها مفهوم فعّالية النقد أو المال أكثر من تلك المتداولة على أساس الحسابات القومية. وهذه المعادلة تسلط الضوء على أهمية الاعتماد والاستدانة، وبها يعتمد النموّ على فائض الميزان التجاري ومديونية الدولة مع مديونية القطاع الخاص – يلاحظ أن المديونية حسابياً، هي عامل في النمو لأنها الاعتماد الذي يفرش الدرب أمام الاستثمارات والاستهلاك ـــ وما حصل في لبنان أن النمو كان مبنياً على مديونية استهلاكية ثابتة المسار، أي أنها لا تتأرجح بمدى غرفها من المدّخرات التي بالتالي تخفض الاستثمار. كان اللبنانيون يستهلكون المدّخرات. هذه الإشكالية تتشابه مع مفارقة التدفقات. التدفق، سواء بمساعدات أو بريع ما، يخلق اتكالية استهلاكية تحبّذ استنفاد القدرات الصناعية عبر أسعار صرف مرتفعة أم بالمضاربة على سعري الصرف والفائدة. استُنبطت هذه النتجية في أواسط السبعينيات وأثبتت تجريبياً أن المساعدات كانت استثمارات في إعاقة النمو الطويل الأجل للعالم الثالث.
بالنسبة إلى معادلة مارشال، فإن مديونية استثمارية بأسعار فائدة متدنية في مشاريع متوسطة الربحية على المدى البعيد، هي الربحية الصناعية التي تنافي الريعية النقدية القريبة الأجل. وبالصناعية أعني كذلك التقنية الخدماتية ومجمل الاقتصاد المعرفي.
الحالتان المحتملتان استناداً إلى معادلة مارشال، هما إما تضاؤل سكاني مع وقف التنمية والاقتتات على التدفقات والمساعدات، أو إعادة تفعيل الاعتماد والاستثمار الصناعي ذي السعة الاقتصادية.
الاحتمال الأول هو المتبلور حتى هذه الساعة، لأن الأيديولوجيا السائدة التي تتّخذ القرارات والمرتبطة حتماً بالطبقة السائدة، أي الإمبريالية، تشجّع الحالة الأولى. الفاعل التاريخي هنا هو الطبقة أو الأيديولوجية السائدة، وهذه علاقة تاريخية مجرّدة لكن حقيقية ماثلة أمامنا حتى لو غابت أحذية المستعمر - الاستعمار أيديولوجية مستعمرة. لكن إذا وُضع برنامج اقتصادي استثماري - صناعي، منوط بمن يُراقب كم تدفقات رأس المال إلى الخارج وتوسَّع في الأسواق للبضائع اللبنانية باتفاقيات تجارية ثنائية أو تعدديّة ينقلب واقع الحال. هذا الخيار هو الخيار الوجودي لأزمة وجودية. كان لبنان على الدوام من مصدّري العمالة بدلاً من التركيز على تصدير السلع، ورغم ذلك كان دائماً يعاني من أزمات عجز في معدلات النمو والتنمية.
لكن هذه الحالة الثانية صعبة المنال لأنها تقوي القدرات الأمنية - السيادية، وتعدّل، ولو جزئياً، موازين القوى الاستراتيجية وهذا غير مناسب للتراكم بالعسكرة. للتذكير في ظل السوق الرأسمالية، العسكرة ليست فقط عملية ترتيب للتراكم، إنما هي مدار للتراكم لا بل أهم دوائر التراكم الدولي. ما قبل الرأسمالية كانت الحروب ترتيباً للتحكّم والسلب، لكن في ظل الرأسمالية تصبح العسكرة دائرة إنتاج قائمة في ذاتها، والأسوأ أن لها دافعها الذاتي المستقل عن إرادة المجتمع.
لكن لنسلّم فرضاً أن الأزمة الوجودية المتزامنة مع أفول هيبة أميركا، استأثرت بالوعي وحفّزت الانتقال إلى التصنيع وإعادة إرساء قواعد البنية التحتية. الحالة هذه بحاجة إلى فتح اعتمادات جديدة، إلا أنه مع انهيار النظام المصرفي الذي، كما ذكرت، قامر عمداً بمدّخرات المودعين واستخرج من خلال الفوائد المركبة العالية ما يقارب ضعفَي الأصل الذي أقرضه للدولة على مدى ثلاثة عقود، بات ضرورياً اليوم وضع المصارف التجارية الخاصة جانباً؛ إعادة رسملة هذه المصارف هي عملية شبه مستحيلة ورهان الطبقة السياسية عليها خاسر لأن أعباء إغاثتها تعدّت الحدود القصوى للريع الجيوسياسي الذي يمكن أن يغطّي خسائرهما. لذا، الاتكال على مصارف عامة متخصصة في الاستثمار المجدي، أي الاستثمارات في إعادة بناء البنية التحتية وتلك التي تغذّي القطاعات المعرفية والإنتاج التنافسي التخصصي وهي أصبحت الخيار بمحض الضرورة. هذا لا يعني طبعاً التخلّي عن المودعين. إن سياسة الانكماش الناتج من التقشف هي التي تضيع الإيداعات لأنها تقلّل النموّ وقدرة الدولة - المستدين الأكبر - وكذلك القطاع الخاص، على خدمة ديونهم. بديهياً من مصلحة الناس اتباع سياسة اقتصادية مستهداة من سياسة اقتصادية سيادية.
وكما أشار فرنر (WERNER)، فإن عملية فصل الإقراض من أجل التنمية والإقراض من أجل المضاربة هي فصل ما بين التنمية واللاتنمية. وكذلك يشدّد فرنر على تواصل المصارف مع مجتمعاتها وعلى أن تكون صغيرة ومتعددة كي لا تخلق تكتلاً سياسياً ذا مصالح أبعد من المصالح الوطنية. لكن حتى هذه المصارف التي لخّصت إيجابية القطاع المصرفي في ألمانياً مثلاً، لها تاريخها الخاص المرتبط بهزيمة ألمانيا السياسية وانزواء رأسمالها في الجانب الصناعي. وما لم يذكره فرنر أن لهذه الصورة الوردية للرأسمالية التي ما هي إلا امتداد للنازية التي دمّرت ولا تزال أقبح أشكال رأس المال. ما يعاني منه فرنر هو النقص الذي تعاني منه الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، وهو أن غطاء السلطة الإمبريالية التي وفّرته للنازية أميركا وأوروبا كي تحارب ألمانيا السوفيات، لا تزال أميركا توفّره لألمانيا إلى يومنا هذا.
لذا، نحن أمام خيار المصارف المملوكة لعامة الناس أو الحكومية، وهذه فكرة اعتمدها الاقتصاد الموجه بشكلَيه الرأسمالي والاشتراكي. نجاعة المصارف العامة أو التابعة للدولة في الحالتين، الاشتراكية والرأسمالية، مسألة تعود لحسابات الاقتصاد الكلي ولديناميكية النمو المبني على الربحية التي ذُكرت سابقاً. معدلات النمو ترتبط بمعدلات الاعتماد المتوافر للاستثمار وفاعليته عبر الزمن. وبما أن هذه المصارف تغذي التمفصل (articulation) للقطاعات الاقتصادية بالتركيز عادة على إنتاجية القطاع الزراعي الذي يُدنّي كلفة إعادة إنتاج الطبقة العاملة، أي يقوّي قدراتها الشرائية، ويحرّرها كي تنطلق للعمل في الصناعات الأكثر جدوى - بما في ذلك تحرير يد الدولة من المديونية التي تدعم الاستهلاك - نجد أنفسنا أمام حلقة تنموية فاضلة تنشئ المثيل بالتنمية الفاضلة. هذه حسابات اقتصاد كلّي مستقلة تنطبق مع اليمين واليسار، أي وجهة الصناعة بالاستثمار تجني أرباحاً إذا كنت يسارياً أو يمينياً. فعلى سبيل المثال، كما السوفيات كانت جمهورية، فإن جمهورية الويمار كانت من أوائل من تبنّى عملية إنشاء وزارة للاستثمار ملحقة بمصارف تابعة لها لتشغيل الطاقات الجامدة في المجتمع، وكذلك الأمر في اليابان لكنّ هاتين الحالتين الأخيرتين كانتا رأسمالية نقابوية capitalist corporatism، أي إن القطاع الخاص يَستملك الدولة من خلال إشراك العمالة في أطر تنهي فاعلية العمالة السياسية؛ بمعنى آخر أكّلها وسكّنها ثم وظّفها في استهلاك عمالة أخرى. كما هو معروف فإن رأس المال يدفع بنصف الطبقة العاملة كي تقتل النصف الآخر.
إعادة رسملة هذه المصارف هي عملية شبه مستحيلة ورهان الطبقة السياسية عليها خاسر، لأن أعباء إغاثتها تعدّت الحدود القصوى للريع الجيوسياسي الذي يمكن أن يغطّي خسائرهما


وفي لبنان يُستملَك القطاع العام للخاص، ويتم تفصيل العمالة بأشكال أفقية تنفي وجودها السياسي، أي إن لبنان يمارس مناهج تشبه الفاشية من دون أن يدرك ذلك.
فالفاشية تجزّئ الطبقة العاملة على أساس عرقي أو ديني بنص دستوري وتشرك هذا الفصيل أو ذاك في حصص الريع السيادي. طبعاً لا نجد في لبنان الدولة كتنظيم اجتماعي فوق النظم الأخرى، وبمنظور نظرية المجموعات لا تكوّن الدولة مجموعة كل المجموعات. التوليفة الطائفية لها تنظيمها الحديدي وشوفينيتها ونقابويتها، فإذا نحن أمام عدة حالات من تفشي ما يشبه الفاشية لكن بالمفرق وليس الجملة. لكن هذه التجزئة ربما كانت أكثر إدراراً لربحية رأس المال من الفاشية في دولة أكثر تماسكاً، لأننا إذا عرّفنا رأس المال بالعلاقة التي تكبر بمدى تفريقه للطبقة العاملة فإن هذه التجزئة الحصيفة للطبقة العاملة في لبنان، تكون قد كُوّنت كعملية إنتاج هدريّة يُستَهلك فيها الإنسان، أي يُنتَقص من حياته كي يوفر الربحية لرأس المال. استمرار تصدير البشر بدلاً من السلع ما هو إلا تكثيف لما كان يحصل في لبنان منذ بداية القرن العشرين وهدر لطاقاته البشرية. كانت إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية تكملة للهدم الاجتماعي الذي بدأته الحرب ولكن بطرق سياسية. أسباب الانهيار لا تعود إلى إرادة شخص في بضع سنوات فاتت. هذا تنظير من دون تاريخ. النظرية من دون تاريخ هي عمياء. والتاريخ هو مجمل العلاقات الاجتماعية المجرّدة وغير المشخصنة وهو كذلك مجمل صراعات علاقات القوى الموضوعية. كل هذا التعريف للتاريخ يمكن أن يُختزل بفكرة واحدة وهي أن التاريخ هو الأيديولوجيا السائدة، وما حصل قد حصل لأن سبل التفكير كلها كانت مبنية على استهلاك الذات الاجتماعي وهذه مثبتة تجريبياً ومنطقياً.
والدليل على عدم جدوى تصدير العمالة، هو أن تدفقات العاملين لا تغطّي الكلفة الاجتماعية أو ما اتفق في الوطن على إنتاج العمالة، لذا يستمر تصديرهم إلى الخارج. والمساعدات تحفّز عملية الاستلاب هذه، فمن السذاجة استدخال مفهوم كالمساعدات في ظل نظام رأسمالي تُتبع فيه الثروة بالاستغلال. المساعدات هذه، هي استثمارات في التخريب.
الأزمات الوجودية تفرض حلولاً وجودية تعيد تكوين المجتمع إلا إذا استمرّت الأيديولوجية السائدة في قلب رؤية الواقع رأساً على عقب. في ما سبق، كان المجتمع يصدّر حيواته وبيئته كي يسدّ العجز في الميزان التجاري، وهو اليوم رهناً بالأيديولوجية السائدة يستمر بعملية هدر الذات بدلاً من خلق مصارف وطنية لدعم اقتصاده.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا