رغم صعوبة الأمر، أوجد العديد من الدول معالجة للتضخّم المفرط (من دون الدخول في تفاصيل معالجتها لنتائجه الاجتماعية، ومقاربتها لآليات استيعاب هذه النتائج)، مثل ألمانيا (1923)، والمجر (1946)، ويوغوسلافيا (1994)، عبر انتهاج أساليب مختلفة تتناسب مع كلّ أزمة. فقد اتّجه البعض نحو تغيير العملة الوطنية وإصدار عملة جديدة تكون محلّ ثقة لدى المواطنين، آملين الحفاظ على قيمتها. ظهر ذلك خلال أزمتي هنغاريا ويوغوسلافيا. وهناك عدد كبير من الدول لجأ إلى صندوق النقد الدولي للحصول على عملات أجنبية تُسهم في معالجة هذا النوع من التضخّم، لكن المشاكل التي عانت منها الدول التي شهدت تضخّماً مفرطاً أو تضخّماً مرتفعاً كانت كبيرة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يُستخدم مصطلح «التضخم المفرط» لوصف حالات ارتفاع السلع والخدمات بوتيرة متسارعة لا يمكن السيطرة عليها خلال فترة زمنية محدّدة. هو تضخم سريع للغاية ناتج من تغيّر يوميّ للأسعار، أو خلال ساعات وربما دقائق، ومدفوع بالتوقعات السلبية. في لبنان بدأنا نشهد أسعاراً تتغيّر كل بضع ساعات وسط تحذيرات من موجة تضخّم مفرط قد تحوّل لبنان إلى فنزويلا، فإلى أيّ مدى هذا الأمر صحيح؟
يقول الاقتصادي فيليب كاغان في كتابه «The Monetary Dynamics of Hyperinflation»، إنّ فترات التضخم المُفرِط تبدأ عندما تزداد أسعار السلع والخدمات بأكثر من 50% في غضون شهر واحد (المقصود مؤشّر الأسعار كلّها وليس أسعار سلع معينة). وبحسب جيفري فرانكل في كتاب «Handbook of Monetary Economics 2010»، فإنّه منذ 1974 أصبح التضخّم المفرط نادراً. التوصيف الذي يستعمله يشير إلى أنّ الأمر يتعلّق أكثر بنوبات التضخّم المرتفع الذي يفوق 100% شهرياً. بالاستناد إلى هذه العتبة فإنّ عينة من 133 بلداً تشير إلى أن 20% فقط شهدت تضخّماً أعلى من العتبة المذكورة. كذلك تبيّن له أنّ التضخّم المرتفع يميل إلى عدم الاستقرار (استقرار الأسعار والأجور)، وتكون هناك علاقة بين العجز المالي والـ«seigniorage» (أي العمليات التي تنطوي على خسائر لاحقة مثل تلك التي يحملها مصرف لبنان في ميزانيته ضمن بند الأصول الأخرى)، ويرتبط احتمال انحسار التضخّم بمتوسط التضخّم، كما يرتبط التضخم المرتفع بسوء أداء الاقتصاد الكلّي، أمّا الاستقرار من التضخّم المرتفع فيعتمد على الفجوة في سعر صرف العملة الاسمي.
تكمن المشكلة الرئيسية في صعوبة السيطرة على هذه «الكارثة» الاقتصادية أو التنبؤ بسقفها. فمن النادر أن يبقى معدّل التضخم المفرط مستقرّاً عند مستوى 50%، إذ قد تتسارع معدّلات التضخّم وتصبح أسعار السلع والخدمات المختلفة خاضعة لزيادات كبيرة خلال يوم واحد أو حتى خلال ساعات. وبنتيجةً ارتفاع الأسعار، تنخفض ثقة المستهلك بالحكم، وتقلّ قيمة العملة المحلّية مقابل العملة الأجنبية، ويتحوّل المقيمون من حيازة العملة المحلية إلى عملات أجنبية أكثر استقراراً، أو إلى ادّخار السلع المعمّرة مثل المجوهرات والآلات وغيرهما في محاولة للحفاظ على قيمة أموالهم. وتنتج عن هذه الممارسة حلقة مفرغة تتمثّل في ارتفاع الأسعار بالتوازي مع تخزين السلع وهذا ما يؤدّي إلى زيادة الطلب على السلع وزيادة الأسعار مجدّداً.
عادة، يحدث التضخّم المفرط في أوقات الحروب والأزمات السياسية عندما تُفقد الثقة بعملة البلد ويعجز البنك المركزي عن الحفاظ على قيمتها. وما يزيد الأمر سوءاً، الفساد المالي والإداري للسلطة الحاكمة. ومن أكثر الأسباب الشائعة للتضخّم المفرط، ارتفاع عرض النقود بلا نموّ اقتصادي يدعمه. ففي ظلّ الأزمات، تلجأ الحكومات إلى طباعة المزيد من الأموال لتعويض تضخّم الأسعار بسيولة إضافية، إلّا أنه في ظلّ استمرار عوامل فقدان الثقة والفساد واحتكار التجّار تتفاقم المشكلة أكثر. فكلّما كبرت الفجوة بين بيع مخزون التجّار وإعادة تكوينه بعملة تفقد قيمتها وسط سيطرة التوقعات السلبية في السوق على سلوك التجّار والمستهلكين، تصبح الحاجة ملحّة أكثر إلى تعويض النقص في الأجور وإلى الحفاظ على قيمة المخزون… فلا يستقرّ الوضع إلّا بعد أن يتساوى تسارع وتيرة ارتفاع الأسعار مع تسارع وتيرة زيادة الأجور. عندها يعود التوازن إلى مصالح القوى في السوق، ويمكن البحث عن حلّ لنتائج التضخّم المفرط.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هل ينطبق هذا الأمر على ما يحصل في لبنان. من الصعوبة الجزم بهذا الأمر، خصوصاً في ظلّ النقص الفاضح في الإحصاءات الرسمية والسوقية. لكن ما يحصل اليوم، هو أن هناك أسعاراً مدعومة على سعر صرف يساوي 1507.5 ليرات وسطياً مثل القمح والمستلزمات الطبية والأدوية والبنزين والمازوت والغاز. وهناك سلع أو أجزاء من سلع نهائية للمستهلك باتت مدعومة على سعر 3200 ليرة للدولار، وهناك أسعار بلا أيّ دعم على سعر السوق المتفاوت من يوم إلى يوم… هذه ليست كلّ أسعار الصرف المتوافرة في السوق، لكنّها تفي كمثال. فهذه الأسعار تنعكس على سلوك التجّار من خلال رفع أسعارهم بشكل يوميّ مرتين أو أربع مرات. أبرز مثال على ذلك، أن بعض أصحاب السوبر ماركت لجأوا إلى ربط تقنيّ للأسعار على الصندوق بسعر الصرف في السوق الموازية، أي أنّ سلّة أسعار مشتريات المستهلك باتت تتغيّر كلّ يوم أكثر من مرّة. طبعاً هذا الأمر لا يشمل كلّ السلع، ولا يشمل كلّ أماكن بيعها، ولا يتضمّن أيضاً حقيقة أنّ بعض أنواع السلع بدأت تُفقد من السوق، أو ستُفقد قريباً. لذا، يمكن التمييز بين مراحل التضخّم: التضخّم المرتفع، التضخّم المرتفع الانتقائي أو العشوائي، التضخّم المفرط. ربما يشهد لبنان اليوم، مرحلة التضخّم المرتفع الانتقائي، ولم يدخل بعد مرحلة التضخّم المفرط، لكن مخاطر انحرافه نحو هذه الهاوية كبيرة جداً. الأسوأ فيها، أن ليس هناك ترتيبات أو مفاوضات بعد للمطالبة بتصحيح الأجور، ما يعني أنّ الكارثة الاجتماعية ستكون كبيرة جداً في ظلّ هذا النوع من التضخّم المرتفع، فكيف سيكون الحال، إذا دخل لبنان مرحلة التضخّم المفرط؟

يوغوسلافيا (1992-1994)
أدّى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى تحجيم دور يوغوسلافيا الدولي وتفكيكها، بعد أن كانت فيما مضى عنصراً جيوسياسياً رئيسياً يربط الشرق والغرب، فانهارت التجارة والإنتاج الصناعي بين مناطق يوغوسلافيا السابقة، تزامناً مع فرض حظر دولي على الصادرات اليوغوسلافية.
عانت البلاد حينها من التضخم بمُعدّلات تتجاوز 75% سنوياً، وقد زاد الأمر سوءاً، عندما اكتُشف أن زعيم المقاطعة الصربية آنذاك «سلوبودان ميلوسيفيتش»، قد سرق الخزينة الوطنية من خلال إصدار البنك المركزي الصربي قروضاً بقيمة 1.4 مليار دولار لأصدقائه. فالسرقة فرضت على البنك المركزي الحكومي طباعة مبالغ زائدة من المال حتى يتمكّن من الوفاء بالتزاماته المالية. وسرعان ما غمر التضخم المفرّط الاقتصاد، ومحا ما تبقى من ثروة البلاد ما أجبر الشعب على مقايضة البضائع. وتضاعف مُعدّل التضخم كل يوم تقريباً حتى وصل إلى مُعدّل 300 مليون في المئة شهرياً. واضطر البنك المركزي إلى طباعة المزيد من الأموال، لإبقاء الحكومة تعمل مع تدهور الاقتصاد.
حاول البنك المركزي إيجاد حلّ لهذا العجز عن طريق فرض سياسة نقدية صارمة، لكنّه فقد السيطرة وتسبّب في تضخم مفرط، وكانت الأسعار تتضاعف كلّ 34 ساعة، مع معدل تضخّم يومي بمقدار 65%. سيطرت الحكومة بعدها على الإنتاج والأجور ما أدى إلى نقص الغذاء، كما انخفضت الإيرادات بأكثر من 50٪. في نهاية المطاف، استبدلت الحكومة عملتها بالعملة الألمانية ما ساعد على استقرار الاقتصاد.

ألمانيا (1922 - 1923)
تعدّ ألمانيا من أبرز الدول التي تعرّضت للتضخم المفرط بسبب خسائرها الفادحة خلال الحرب العالمية الأولى. فقد اقترضت ألمانيا أثناء الحرب مبالغ ضخمة لتعزيز تجهيزاتها العسكرية، وكانت على قناعة تامّة بأنها ستفوز في الحرب ما سيسمح لها باستخدام تعويضات الحلفاء لسداد هذه الديون، غير أن ما حدث كان مغايراً تماماً. فمع خسارة ألمانيا، فُرضت عليها تعويضات بمليارات الدولارات، ثم زادَ الأمر سوءاً، عندما قرّرت تعليق العمل بربط العملة بالذهب. أدّت هذه الخطوة إلى انخفاض قيمة العملة الألمانية ما رفع قيمة التعويضات المتوجبة عليها والمسدّدة بعملة غير العملة الألمانية في حينه. في ذلك الوقت، طبعت ألمانيا كميات هائلة من عملتها المحلية، وفي ظلّ عجز الحكومة الألمانية عن إيجاد طريقة بديلة لمعالجة الأزمة واصلت ضخّ المزيد من النقود ما قاد نحو تضخّم مفرط كانت له أثار مدمّرة على المجتمع الألماني، فانخفضت القوة الشرائية للعملة، وزاد حجم الأوراق النقدية الصادرة وارتفعت الأسعار بشكل كبير ومتسارع. هكذا، أدّى التضخم الجامح إلى تآكل المدّخرات النقدية للطبقة المتوسطة، وزيادة معدلات البطالة. في تلك الفترة، كانت معدلات التضخم تتزايد بمعدل أكثر من 20% في اليوم الواحد، وأصبحت العملة الألمانية عديمة القيمة لدرجة أن بعض المواطنين أحرقوا النقود الورقية بهدف التدفئة، لأنها كانت أرخص من شراء الخشب.
فرضت الأزمة انهيار مجلسَين للوزراء، وانتهت بتشكيل بنك احتياطي جديد وإصدار عملة وطنية جديدة تبنّاها الشعب الألماني، ما سمح للأسعار والأجور بالعودة إلى المعدلات الطبيعية تدريجيّاً.

فنزويلا (2016 - مستمرة)
تصنّف الأزمة التي ضربت فنزويلا بـ«الاستثنائية» لجهة الحجم والآثار الإنسانية والديموغرافية، ربطاً بمعاناة البلاد من هجرة هائلة على خلفية الجوع والحرمان من الأدوية. ورغم أن فنزويلا دولة غنية بالنفط تقدّر احتياطاتها بنحو 303 مليارات برميل في نهاية سنة 2017، إلّا أنّها وقعت في فخّ التضخّم المفرط بسبب الحصار السياسي الأميركي وسوء الإدارة المحلية. عملياً، وفرة «الذهب الأسود»، دفعت السلطة في فنزويلا إلى الرهان على النموّ النفطي على حساب قطاعات اقتصادية أخرى، فنتج عن ذلك اقتصاد غير متنوّع وهشّ. ومع تقلّبات أسعار النفط، شهدت فنزويلا تراجعاً حادّاً للناتج المحلي الإجمالي والعائدات النفطية، ما أدخل البلاد في تضخمٍ مفرط.
في ظلّ الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، انهارت عائدات الصادرات الفنزويلية وفقدت أسعار النفط ثلاثة أرباع قيمتها في غضون بضعة أشهر فقط. عندها، ارتفع العجز العام بشكل ملحوظ، ما استدعى طباعة الكثير من الأوراق المالية، لتنهار بذلك قيمة البوليفار مقابل الدولار، ما دفع الفنزويليين إلى تحويل أجورهم في السوق السوداء. أدّى انهيار البوليفار إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، ما زاد نسبة التضخّم.
وكان لانهيار أسعار النفط في عام 2016 دور بارز في تفاقم الأزمة الفنزويلية. فمع ارتفاع معدلات التضخّم من معدل 69% في عام 2014 إلى 181% في عام 2015، انفجرت موجة التضخّم المُفرط في عام 2016 لترتفع معدلات التضخّم إلى 800% بحلول نهاية العام، تلتها 4000% في عام 2017 وأكثر من 2,600,000% في مطلع 2019.
في عام 2018 أعلن الرئيس نيكولاس مادورو أنه سيتم إصدار عملة جديدة (بوليفار سيادي/ sovereign bolivar) من أجل مكافحة التضخّم المفرط ليحلّ محلّ البوليفار الحالي بمعدل 1/100,000، وبهذه الطريقة أصبحت قيمة كل 100 ألف بوليفار قديم تساوي بوليفار سيادي واحد.

هنغاريا (1945-1946)
دُمِّرت هنغاريا اقتصاديّاً بسبب الحرب العالمية الثانية، وخسرت نحو 40% من مخزونها الرأسمالي. خلال الحرب، تبنَّت المجر (هنغاريا) سياسات تكثيف الإنتاج لدعم المجهود الحربي الألماني في قروض، ولكن ألمانيا لم تدفع قيمة ثمن البضائع، ما زاد الوضع سوءاً.
وفي عام 1945 وقَّعت هنغاريا معاهدة سلام، وأصدر السوفييت أوامر تُفيد بدفع تعويضات ضخمة، تمثل 25-50% من ميزانية المجر. ارتأى القيّمون على السلطة حينها أن زيادة عدد النقود المطبوعة هي الحل الأمثل لسد الديون. ورغم تحذيرات البنك المركزي المجري من تداعيات هذه العملية، إلّا أنّ «السوفييت» رفضوا هذه التحذيرات وانفجر التضخم المفرط في البلاد، ما دفع بعضهم إلى الاستنتاج بأن التضخم المفرط صُمم لتحقيق هدف سياسي-اجتماعي، وهو تدمير الطبقة الوسطى.
في عام 1941؛ كان كلّ 5 pengö -وهي عملة هنغاريا آنذاك- تقابل دولاراً أميركياً واحداً، واستمرت العملة بالانهيار إلى أن وصلت إلى 460 تريليوناً مقابل كل دولار بحلول 1946. وأصبحت العملة بلا قيمة، حيث كانت الأسعار تتضاعف كلّ 15 ساعة بمعدل تضخم 207%.

زيمبابوي (2007-2008)
كان اقتصاد زيمبابوي مستقرّاً تماماً خلال سنواته الأولى بعد استقلال البلاد عام 1980، لكن الأمور اختلفت في السنوات اللاحقة. ففي عام 1991، بدأت حكومة الرئيس روبرت موغابي برنامجاً جديداً يُدعى برنامج التكيّف الهيكلي الاقتصادي (ESAP) (مع صندوق النقد الدولي) الذي يُعتبر أحد الأسباب الرئيسية للانهيار الاقتصادي في زيمبابوي. إضافة إلى برنامج ESAP، أدت إصلاحات الأراضي التي أجرتها السلطات إلى انخفاض حادّ في إنتاج الغذاء ما أدى إلى أزمة مالية واجتماعية كبيرة.
أظهر الدولار الزيمبابوي (ZWN) إشارات عدم الاستقرار في أواخر التسعينات، وبدأت حالات التضخّم المفرط في أوائل العقد الأول من القرن الحالي. بلغ معدل التضخّم السنوي 624% في عام 2004 و1730% في عام 2006 و231,150,888% في تموز (يوليو) 2008. بسبب الافتقار إلى البيانات التي قدّمها البنك المركزي في البلاد كانت المعدلات بعد شهر تموز (يوليو) تستند إلى التقديرات النظرية.
ووفقاً للحسابات التقديرية، بلغ التضخم المفرط في زيمبابوي ذروته في تشرين الأول (نوفمبر) 2008 بمعدل سنوي قدره 89.7 sextillion في المئة، أي ما يعادل 79.6 مليار في الشهر أو 98% يومياً. ومع تجاوز معدل البطالة 70%، توقّفت الأنشطة الاقتصادية في زيمبابوي عملياً وتحوّل الاقتصاد المحلي إلى اقتصاد مقايضة.
يُعزى سبب التضخم المفرط في زيمبابوي إلى العديد من الأزمات الاقتصادية. زادت الحكومة الوطنية المعروض النقدي استجابة لارتفاع الدين الوطني، وكانت هناك انخفاضات كبيرة في الناتج الاقتصادي والصادرات، واقترن الفساد السياسي باقتصاد ضعيف بشكل أساسي. التضخّم المفرط في زيمبابوي خرج عن نطاق السيطرة مسبّباً استخدام العملات الأجنبية كوسيلة للتبادل بدلاً من العملة المحلية.