كما بات معروفاً على نطاق واسع جداً، فمنذ اندلاع ثورة 17 تشرين الأول وقيام المصارف بتقييد سحوبات الودائع وخصوصاً بالدولار، عمَد عدد كبير من المودعين (مقيمين وغير مقيمين) إلى شراء عقارات مبنية أو أراضٍ أو أسهم بواسطة شيكات مصرفية بهدف تجنيب ودائعهم أي عمليات اقتطاع، وبسبب عدم إمكانية التصرف بها نقداً. بنتيجة ذلك، ازداد عدد الصفقات العقارية المُسجلة بين تشرين الأول 2019 وأيار 2020، بنحو31504 صفقات قيمتها 5559 مليون دولار (حسب سعر الصرف النظامي للدولار).
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

واللافت أنه خلال أول خمسة أشهر من عام 2020، بلغ عدد الصفقات العقارية 18104 وقيمتها 3458 مليون دولار (حسب سعر الصرف النظامي للدولار)، أي أن عددها كان أقل من تلك المسجلة في الفترة نفسها من عامي 2018 و2019 بينما قيمتها كانت أعلى بشكل ملحوظ. لذا كان متوسط حجم الصفقات العقارية خلال هذه الفترة أعلى من تلك المسجلة في عامي 2018 و2019، وذلك لسببين: الأول، هو سعي المودعين إلى تحرير أكبر مبلغ ممكن من ودائعهم، علماً بأن قيمة بعض الصفقات بلغت عشرات ملايين الدولارات. والثاني، يتعلق بالثمن المرتفع المدفوع مقابل شراء هذه العقارات بما يفوق السعر العادل والحقيقي لها، إذ أحياناً بلغت نسبة علاوة الدفع بشيك مصرفي إلى 40% مقابل الدفع نقداً.
إن سعي المودعين إلى «إنقاذ» ودائعهم المحتجزة أمر مفهوم ومنطقي جداً، لكن السلوك المعتمد في هذا المجال يُكرر مجدداً «سلوك القطيع» المعتمد منذ نحو ثلاثين عاماً: الاستثمار في الريع بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، وكأن هذا الأمر هو قدَر محتوم في لبنان خلال الأوضاع الاقتصادية الجيدة والسيئة.
تسبّب شحّ الدولار في الأسواق بارتفاع جنوني في سعر صرفه في السوق الموازية، ومعه ارتفاع هائل في أسعار السلع الاستهلاكية. وبسبب الحاجة إلى استيراد معظم المنتجات المُستهلكة محلياً، فإن الطلب على الدولار لن يتوقف


فمنذ مطلع التسعينات، ونتيجة السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المُعتمدة، توجّهت ادّخارات اللبنانيين المقيمين والمغتربين، بالإضافة إلى تدفقات مالية كبيرة من غير اللبنانيين، نحو قطاعين بشكل أساسي: القطاع المصرفي على شكل ودائع تحديداً، والقطاع العقاري. النتيجة اليوم، أنه لا يمكن التصرف بهذه الودائع إلا ضمن حدود ضيقة جداً، ولا يوجد في المدى المتوسط، على الأقل، إمكانية لإعادة تكوين حقيقي لتلك الودائع. أما حالة القطاع العقاري فهي سيئة جداً، ويشهد ركوداً واضحاً منذ سنوات رغم الانتعاش الاستثنائي الناجم عن ظروف استثنائية.
إذاً، أدى الاستثمار المفرط في الرَّيع إلى احتجاز الجزء الأكبر من ثروة اللبنانيين المقيمين والمغتربين في قطاعين يشهدان اليوم أسوأ أزمة يمكن أن يتعرّضا لها.
إضافة إلى ذلك، ابتدعت المصارف «منتجاً» جديداً يهدف إلى استقطاب الدولارات، عبر عروض لتحويل كل دولار نقدي جديد يتم إيداعه في المصرف، إلى ما بين 2.4 و2.6 دولار مصرفي مع إمكانية سحب المبلغ المحوّل بواسطة شيكات مصرفية. مع الإشارة إلى أن العديد من المغتربين الذين أرادوا الاستفادة من انخفاض أسعار العقارات في لبنان وقاموا بتحويل أموالهم أخيراً، تلقّوا عروضاً من هذا النوع.
عدا عن أن هذا الإجراء يؤدي إلى تضخيم حجم الودائع في القطاع المصرفي مجدداً، فإنه يحجب الدولارات الجديدة عن قطاعات الاقتصاد الحقيقي. يحصل هذا الأمر في ظل تراجع الائتمان المصرفي للقطاع الخاص تدريجاً من أعلى مستوى وصل إليه تاريخياً وهو 80.57 تريليون ليرة في كانون الأول 2017، إلى 57.75 تريليون ليرة في نهاية نيسان 2020، في حين أن الاقتصاد هو في أشدّ الحاجة إلى ضخّ المزيد من الائتمان.
هذا الوضع يثير السؤال الآتي: هل تحرير الودائع عبر شراء عقارات هو الحل الأمثل؟ هل الاستثمار في العقار/الريع يحفظ قيمة الأموال المحرّرة؟ يتمثّل الجواب على هذا السؤال في ثلاثة جوانب؛ أولاً، العلاوة الكبيرة المدفوعة مقابل التسديد بشيك مصرفي ما يتطلب ارتفاعاً كبيراً في سعر العقار لتعويض تلك العلاوة. ثانياً، الركود الاقتصادي الممتدّ والتضخّم الهائل الذي سحق القدرة الشرائية للجزء الأكبر من المقيمين. وثالثاً، الخسارة الكبيرة التي أصابت اللبنانيين المغتربين، سواء بسبب حجز مدّخراتهم في المصارف اللبنانية أو بسبب تداعيات أزمة كورونا على اقصادات الدول التي يقيمون فيها.
كما أن أجواء عدم اليقين والفترة الطويلة اللازمة لعودة الثقة سوف تعوق دخول مستثمرين أجانب إلى القطاع العقاري في لبنان. لذا، ليس متوقعاً عودة الطلب على العقار وانتعاش أسعاره، بل قد يكون منطقياً توقع انخفاضها على المدى المتوسط على الأقل. ويسري الأمر نفسه على الأموال الجديدة المحوّلة من الخارج، لأن استثمارها في العقار ليس مجدياً من الناحية الاقتصادية، إذ يجب توقع عدم إمكانية تسييل العقارات لفترة طويلة، مع الأخذ في الاعتبار خضوعها للضرائب والرسوم وأكلاف الصيانة للعقارات المبنية، وكذلك الانخفاض المتوقع في إيجاراتها.
إذاً ما هو البديل؟ تسبّب شحّ الدولار في الأسواق بارتفاع جنوني في سعر صرفه في السوق الموازية، ومعه ارتفاع هائل في أسعار السلع الاستهلاكية. وبسبب الحاجة إلى استيراد معظم المنتجات المُستهلكة محلياً، فإن الطلب على الدولار لن يتوقف وسيستمر سعر صرفه بالزيادة، ومعه مجدداً أسعار السلع. وبحسب الإحصاءات التي نشرتها إدارة الإحصاء المركزي، بلغ الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك (أي مؤشر التضخم) 172.06 نقطة في نهاية أيار 2020، مقابل 110.34 في نهاية تشرين الأول 2019، أي إن معدل التضخّم العام خلال سبعة أشهر بلغ 56%، علماً بأن معدل التضخّم تفاوت بين السلع والخدمات المختلفة.

بدلاً من تحرير الودائع لشراء شقق وأراضٍ وبالتالي الاستثمار مجدداً في الرَّيع غير المجدي، فإننا نقترح تحويل الشيكات المصرفية إلى المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية


هكذا، فإن الاستثمار في قطاعات محدّدة مثل الصناعات الغذائية والمشروبات والتبغ والأثاث والتجهيزات المنزلية والألبسة والأحذية وسواها… يُعدّ أمراً مُلحّاً جداً لتأمين الاكتفاء الذاتي، وتخفيف الحاجة إلى الدولار والطلب عليه من خلال استبدال المستوردات بالإنتاج المحلي. ومن جهة أخرى، فإن الاستثمار الآن في القطاعات المنتجة من صناعة وزراعة بات مربحاً جداً ويؤمّن عائداً مجزياً بسبب الأسعار المرتفعة للسلع الصناعية والزراعية، كما أصبح لدى الإنتاج المحلّي قدرة جديّة على منافسة المستوردات.
لذا، بدلاً من تحرير الودائع لشراء شقق وأراضٍ وبالتالي الاستثمار مجدداً في الرَّيع غير المجدي، فإننا نقترح تحويل الشيكات المصرفية إلى المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية، من مصانع ومزارع ومشروعات صغيرة ومتوسطة وشركات ناشئة، والدخول في شراكات مع أصحابها بهدف تطويرها وزيادة قدراتها الإنتاجية. لو تحوّل 15% فقط من الودائع المحررة، إلى القطاع الصناعي، لتأمّن لهذا الأخير مبلغ يفوق ذلك المقدّم للصناعيين عبر صندوق الـ Oxygen Fund الذي أُنشئ بالتعاون بين وزارة الصناعة ومصرف لبنان.
لا شك في أن هذا الأمر يتطلب تغييراً في عقلية بعض أصحاب المؤسسات الصناعية والزراعية وقبولهم دخول مستثمرين جدد معهم، وتحويل مؤسّساتهم من ملكيّات فردية أو عائلية إلى مؤسسات ذات ملكية أوسع. فبغير توسيع قاعدة الملكية، لن تتمكن تلك المؤسسات من الاستفادة من الفرص الضخمة التي وفّرها الارتفاع في أسعار السلع المستوردة.
ويمكن أن تستفيد المؤسسات الصناعية من الودائع المحرّرة عبر شيكات مصرفية بعدّة أوجه من ضمنها:
1. شراء معدات وآلات من السوق الداخلية والمصنّعين المحليين.
2. تسديد القروض المصرفية المتوجبة على هذه المؤسسات. في هذا الأمر إفادة للمؤسسات المقترضة والمصارف على حدّ سواء، إذ يؤدي أولاً إلى إلغاء أو تخفيض أعباء الفوائد عن تلك المؤسسات، كما أنه يُجنب المصارف تحويل ديون المؤسسات المتعثّرة عن الدفع، إلى ديون هالكة أو مشكوك في تحصيلها.
3. تسديد ثمن المدخلات من المواد الأولية المصنّعة محلياً.
4. استخدام هذه الشيكات، وتحديداً الصادرة بالليرة، لتسديد متوجباتها تجاه الدولة كالرسوم وضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة ورسوم الجمارك على جزء من مستورداتها، بحيث يمثّل هذا دعماً من الدولة لهذه المؤسسات، في مقابل خفض جزء من دعمها لها بالدولار.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية