ما يلي من الكلام لا يستهدفُ الصرّافين ولا نقابتَهم. هم أصحابُ مهنةٍ صودِفَ أن حَمَلَتها أيامُنا الراهنة لأن تكونَ على تماسٍ مع الناس وحاجتهم إلى عملةٍ توصف بالصعبة، في أيامٍ باتت أصعب. ونقابتهم هيئة مهنيّة ناظمة لأمور المنتسبين منهم إليها فقط، على اعتبار أنّها ليست نقابة إلزامية ونظامية (ordre professionnel)، ما يجعلها لا تتمتّع بما لنقابات المحامين والأطباء والمهندسين، مثلاً، وغيرها من النقابات المنظّمة بقانون، من صلاحيات ودور حيث لا يمكن ممارسة المهنة المعنية إلّا بالانتساب إلى النقابة أولاً.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

إذا كان الصرّافون ونقابتهم جزءاً من الحالة المأزومة العابرة لفئات المجتمع كلّها، بتفاوتِ درجةِ الإنهاك في ما بينها، إلّا أنّ تولّيهم، صدفةً أو اختياراً، بمبادرة منهم أو بغضّ طرفٍ من سواهم، ضبطَ جزءٍ من حركة رؤوس الأموال (ما بات يُعرف بالكابيتال كونترول) إنما يَطرح وبقوّة مسألة الفراغ القاتل الذي مَلأتهُ النقابة وفَرَضَهُ تعميمُها (رقم 4، تاريخ 22/06/2020) على الجميع. هذا التعميم شكّلَ كابيتال كونترول فعلياً، عجزت عنه مؤسسات الدولة الدستورية (أو هي أبعدت كأسه عنها؟)، فجاء، من جهة، من غير ذي صفة أو صلاحية أو سلطة، وأشّر بشكلٍ خاص إلى تخلّي ذوي الصفة والصلاحية والسلطة، عن دورهم، بل عن واجبهم، من جهة أخرى. وبذلك، أصبحت المشهدية كالآتي: دولة الصرّافين ذات السيادة تملأ فراغَ غيابٍ ــ مقصودٍ ومختار ــ للدولة اللبنانية بمؤسساتها الدستورية والناظمة كافة.
إن مضمون تعميم الصرافين يذكّر بتقييد المصارف حركة السحوبات المحلّية والتحويلات إلى الخارج، وهما مخالفتان لا تصنعان قاعدة


في ملحق «رأس المال» (17/02/2020)، سألنا: لماذا يتخلّى مجلس النواب عن صلاحياته؟ كان السؤال على خلفية إمكان إعطاء مصرف لبنان صلاحيات استثنائية، بقرار من الحكومة، ربطاً بالأزمة الماليّة والنقدية. يومها، كان الاعتراض (في القانون) مسنداً إلى مبدأ دستوري مفاده أن تقييد الحريات (والأصح تنظيمها) لا يمكن أن يتم إلّا بقانون في مجلس النواب، خصوصاً أن النظام الاقتصادي الحرّ مكفول بنصّ دستوري (الفقرة «و» من المقدمة). حتى أن النص التشريعي لا يمكن أن يكون مطلقاً ومتفلّتاً من أيّ قيود، بل خاضعاً لحدود الدستور وأحكامه. وانطلاقاً من هذه المسلّمات، فقد جاء تعميم نقابة الصرّافين مشوباً بالعيوب الآتية:
1- التعميم صادر عن نقابةٍ مهنية غير إلزامية، وهي، مع الاحترام الكامل لنشاطها، لا تتمتّع أصلاً بأيّ صلاحيات تنظيمية لقطاع الصرافة المنظّم بقانون والذي تراقبه لجنة الرقابة على المصارف. تخيّلوا، مثلاً، أن تقوم نقابة أصحاب سيارات الأجرة بتنظيم السير، أو أن تتولّى نقابة المعلّمين تحديد مواعيد الامتحانات الرسمية. حتى أن النقابات النظامية (كالمحامين والمهندسين والأطباء) لا يمكنها أن تحلّ مكان الدولة ومؤسساتها الدستورية وهيئاتها الناظمة خارج حدود ما أولاها القانون من صلاحيات تنظيمية للمهنة.
2- والأخطر من ذلك، أن التعميم ينطوي في مضمونه على تقييدٍ لمقدار وحجم شراء العملة الصعبة (ونحن لا نزال، نظرياً، في نظامٍ حرّ) بالاستناد إلى معايير كان يُفترض أن تحدّد بموجب قانون استثنائي في إطار من يستهدف، وموقت في مداه الزمني، ومُسند إلى أسبابٍ موجبة تحصّنه من أي طعن. إن مضمون التعميم يذكّر بتقييد المصارف لحركة السحوبات في الداخل اللبناني والتحويلات إلى الخارج. مخالفتان لا تصنعان قاعدة. وما يصحّ في نقابة الصرّافين يصح في جمعية المصارف.
بالموازاة، سُحب من التداول مشروع الحكومة تقييد حركة رؤوس الأموال، ثم أجهضت «الحالة» البرلمانية في المجلس اقتراح الكابيتال كونترول على التحويلات إلى الخارج، بما يشير إلى شبهِ قرارٍ رسمي بالنأي بالنفس، إن صحّ التعبير، عن تحمّل المسؤولية: مسؤولية إدارة الأزمة وإعطاء الناس حدّاً أدنى من تنظيم «دفتريّة» ودائعهم وتراجع قدرتهم الشرائية واضمحلال الثقة بمن يتولّى أمورهم. وعلى ذلك، فإنّ تعميم نقابة الصرّافين (الذي يُعدّ، قانوناً، عديم الوجود «inexistant»، لصدوره عن غير ذي صفة وصلاحية)، إنما يُبرزُ ويُسجّلُ انكفاءً خطيراً للسلطات ذات الاختصاص عن دورها، بل عن واجبها!
• فالمجلس النيابي مدعوّ ليس فقط إلى التدخّل تشريعياً، وإنّما من واجبه الدستوري أيضا أن يراقب ويسأل ويستجوب... والقوانين النافذة وُضعت لتطبّق ومن واجب المجلس أن يضيء على مخالفاتٍ تعتري هذا التطبيق.
• ومجلس الوزراء يتولّى السلطة الإجرائية ويتوجّب عليه، مجتمعاً، اتّخاذ ما يجب من إجراءات تنفيذية ومعالجة أيّ خلل في الإدارات العامة وفي تسيير شؤون الدولة.
• ومصرف لبنان يبقى الهيئة الناظمة للقطاع المالي والنقدي، بما في ذلك الصرّافين، ويوليه قانون النقد والتسليف صلاحيات كبرى، وفي أدنى حدّ، صلاحية رفع اقتراحات إلى السلطات المختصّة.
كلّ هذه السلطات والهيئات انكفأت عن أدوارها وتركت لنقابة الصرّافين أن تنظّم وتقرّر وتدير، وربما أيضاً أن تتعرّض لشتى أنواع الغضب والاعتراض. ومع ذلك، فإنّ دولة الصرّافين ذات السيادة ليست حالة انقلابية، بل تسليمٌ للسلطة من السلطة، بصورة طوعية وإرادية واختيارية، من دون معركة ولا سلاح، بل بغضّ الطرف عن طوابير الذل التي تَفرض على اللبنانيين واللبنانيات، كلّ يوم، أن يعيشوا مع حفّاري قبورهم. وتسألون، بعد، عن كيلٍ طفح؟

* محام ووزير داخلية سابق