صدر عن جمعيّة مصارف لبنان بيان بتاريخ 17/05/2020 حول التطوّرات الماليّة الأخيرة يقول إن السلطة السياسيّة، من خلال الحكومات المتعاقبة، هي سبب تدهور الوضع المالي والمصرفي الحالي، ثمّ يسرد الأولويّات التي يجب اتّباعها وسبل حلّ الأزمة. ثمة ملاحظات أساسية على ما ورد في البيان.
في المسؤوليّة
صحيح أن الدّولة اللّبنانية بشقّيها الحكومي والمصرف المركزي، مسؤولة بشكل أساسي عن انهيار القطاع المصرفي بسبب إساءتها استعمال أموال المصارف، لكن المصارف هي أيضاً مسؤولة مباشرة عن انهيار القطاع، لأنّها خالفت مبادئ التسليف والاستثمار البديهيّة. وللتّذكير:
أولاً، ائتمانيّة المستلف: على أيّ مصرف أن يتأكّد أنّ المستلف جدير بالائتمان (creditworthy)، أي لديه إمكانيّة دفع مستحقّاته في المستقبل. الجميع يعرف أنّ الدولة اللّبنانية المنهكة بالفساد والهدر منذ عشرات السنين والتي تواجه عجزاً مالياً متزايداً لم تكن ولن يكون بإمكانها دفع هذا الكمّ من المستحقّات التي عليها للمصارف. حتّى لو أهملنا مستحقّات الدولة بالليرة اللبنانيّة (التي ولو نظرياً تستطيع الدولة طبع عملتها ودفعها)، كان على الدولة في آخر أيلول 2019 مستحقّات للمصارف بالدّولار من يوروبوندز وودائع لدى مصرف لبنان ما لا يقلّ عن 74 مليار دولار1، أي ما يساوي أكثر من 60% من ودائع الزبائن في الدولار لدى المصارف. هذه المستحقّات أصبحت تساوي أكثر من 76 مليار دولار أو أكثر من 65% من ودائع الدولار في نهاية شباط 2020.
ثانياً، تركُّز المحفظة: أيّ مصرف أو مستثمر لا يعرّض الجزء الأكبر من أصوله لزبون واحد (portfolio concentration). وهذا لسبب بسيط وهو أنّه إذا تمنّع هذا الزبون عن الدفع، انهار المصرف. فمستحقّات المصارف من الدولة بشقّيها تجاوزت في آخر أيلول من العام الماضي 70%2 من إجمالي أصول المصارف. هذه نسبة عالية جداً ومشابهة لانكشاف المصارف في الأرجنتين3 عند بدء انهيارها الاقتصادي والمصرفي.
ثالثاً، جدارة المُنتَج: من بديهيات الاستثمار أنّه عندما يُعرض على المستثمر (أي المصارف) مُنتَج استثماري يفوق مردوده الموعود أضعاف مردود أي مُنتَج مماثل في الأسواق العالميّة، على المستثمر أن يتساءل عن مدى جدارة هكذا مُنتَج. ألم تتساءل المصارف كيف يمكن لمُنتَج سيادي أن يدفع من خلال اليوروبندز والهندسات الماليّة فوائد مرتفعة بالدّولار فاقت 20% في بعض الأحيان، بينما الفوائد السّيادية على الدّولار منخفضة وقد لا تتجاوز 1% أو 2%! ألم تسوّق المصارف هذه المنتجات بقوّة مع مودعيها!
أين كان كبار مساهمي المصارف ومجالس إداراتها ومدرائها التنفيذيين ودوائر إدارة مخاطرها من كلّ هذا؟

في الأولويّات والحلّ
المسؤوليّة الأهم للمصارف هي المحافظة على ودائع المودعين. لجنة بازل المعنيّة بالإشراف المصرفي تقول بوضوح إنّ هذه المسؤوليّة لها أولويّة4 وتأتي قبل مسؤوليّة المصارف في الحفاظ على حقوق مساهميها. صحيح أنّ على الدّولة فتح حوار مع المصارف، لكن الأهم أنّ على الدّولة محاكات المودعين الّذين ائتمنوا المصارف بودائعهم التي تفوق ثمانية أضعاف رساميل المصارف.
بالإضافة إلى أولويّة المحافظة على ودائع المودعين، للقطاع المصرفي أيضاً دور أساسي في نهوض الاقتصاد. فمن خلال المصارف تجري إعادة الدورة الاقتصاديّة، ودعم القطاعات المنتجة التي تُعدّ الخلاص الوحيد لنموّ اقتصاد حقيقي يتيح فرص العمل للبنانيّين. لكن وضع المصارف كما هو الآن لن يتيح ذلك. كمّ انكشافها على القطاع العام يعني أنّ رساميلها قد انعدمت وأنه لن يكون بمقدورها إعادة رسملة نفسها بمبالغ كافية للقيام بدورها المزدوج.
كذلك هنالك عامل الثقة الذي يعدّ ركيزة أساسيّة لأي قطاع مصرفي. هذه الثّقة في القطاع المصرفي في لبنان غير موجودة حالياً. ليس فقط لسوء إدارة المصارف لأصولها، بل أيضاً بسبب عبثيّة إقفال المصارف وإجراءات الكابيتال كنترول الاستنسابيّة التي مارستها من دون أي أسس قانونيّة.
لن يضع المودعون ثقتهم ثانية في مصارف تُدار من نفس الأشخاص الذين ساهموا في إيصال المودعين إلى الوضع الكارثي


هذه الثقة من الصعب أن تعود ما لم يحدث تغيير حقيقي في هيكليّة إدارة وحوكمة المصارف. لن يضع المودعون ثقتهم ثانية في مصارف تُدار من نفس الأشخاص الذين ساهموا في إيصال المودعين إلى الوضع الكارثي هذا. كيف يمكن لمجالس إدارة مليئة بالسياسيين5 وآخرين عديمي الخبرة في القطاع المصرفي (طبيب، أستاذ جامعي ذو اختصاص لا علاقة له بالاقتصاد أو المال..) أن يقوموا بواجبهم بصون حقوق المودعين التي هي مسؤوليّتهم الأساسيّة. هذا ضعف رئيسيّ في الحوكمة (governance) التي تطبّقها المصارف اللبنانية. فلجنة بازل المعنيّة بالإشراف المصرفي تلحظ أنّ ضعف الحوكمة4 يؤدّي إلى تداعيات سلبيّة ليس فقط على كل القطاع المصرفي بل على القطاع الاقتصادي في مجمله. وهذا ما حدث في لبنان.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي باتت ضروريّة، ولا بدّ للدولة أن تلعب دوراً في ذلك، لأنها المؤسّسة الوحيدة التي لديها المقدرة القانونيّة على القيام بهذه المهمّة. على الدولة الاستفادة من تجارب وأخطاء هيكلة قطاعات المصارف في دول تكوينها السياسي والاجتماعي والاقتصادي قريبة من لبنان.
فعلى سبل المثال، في اليونان أسّست الدّولة مؤسّسة6 مستقلّة لها قانونها الخاص مع كامل الصلاحيّات لإعادة هيكلة المصارف ودعم رساميلها مقابل استحواذها أسهم ملكيّة في المصارف. نتج عن هذه الهيكلة4 مصارف7 كبيرة تشكّل 95% من حجم القطاع المصرفي في البلد. ولمعرفتها بمستوى الفساد في الدولة اليونانيّة، أصرّت الترويكا (المفوضيّة الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدّولي) المانحة الدعم لليونان ولهذه المؤسّسة، على اختيار مجلس إدارة وقيادة تنفيذيّة من ذويّ الخبرة والسّمعة الجيّدة والمستقلّين عن مراكز القوى السياسية والماليّة التي أوصلت البلد إلى الانهيار8.

* خبير مالي ومدير تنفيذي عمل سابقاً لدى مؤسّسة التمويل الدولية

المراجع
1. لمنهجة الوصول إلى هذا الرّقم راجع «كم من الدولارات يجب تحصيلها من المركزي»، وليد مسلّم، ملحق رأس المال، جريدة الأخبار، 23 كانون الأوّل 2019.
2. BDL, Statistics and Research, Consolidated Balance Sheet of Commercial Banks.
3. “The Art of Bank Restructuring”, EDI Working Papers, World Bank, 1991, p. 16.
4. ”Corporate Governance Principles for Banks”, Basel Committee on Banking Supervision, July 2015, p. 3.
5. Jad Chaaban, “I’ve Got the Power: Mapping Connections Between Lebanon’s Banking Sector and the Ruling Class”, October 2016.
6. Hellenic Financial Stability Fund.
7. Yannis Stournaras, “The Greek Economy 10 Years After the Crisis”, speech at the European Court of Auditors, Luxemburg, 28 June 2019.
8. Daniel Munevar, “Greece – The PSI and the Process of Bank Recapitalization (2012-2016)”, CADIM, 24 January 2017.